بغداد …الحضارة والتراث الإنساني

بغداد …الحضارة والتراث الإنساني

تشكل المدن التاريخية الأصيلة أهمية كبيرة في حياة الشعوب الحرة وتحدد ملامح انتماؤها الوطني والاجتماعي وترسم أفاق تقدمها الاقتصادي والتجاري وكلما تمعنا في تاريخ وحضارة هذه المدن نستطيع ان نقرا حقيقة التطور العمراني والبناء الميداني وأصول الثقافة والفن والأدب، فهي معالم توصلنا الى تاريخ زاخر بالأحداث والوقائع الكبيرة بمعانيها ومن أيقونات هذه المدن ( مدينة بغداد الحبيبة ) التي أسسها الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور عام 762 ميلادي الموافق للعام الهجري 135 وشكلت أهم مركز ثقافي في الحضارة العربية الإسلامية كونها أصبحت أول عاصمة للخلافة العباسية واستغرق بناؤها أربع سنوات استخدمت فيها طرق الحداثة وأساليب البناء والعمران الجميل واحيطت بثلاث أسوار وربطت بأربع طرق رئيسية تمتد ما بيت قصر الخليفة العباسي والمسجد الكبير في وسط المدينة وشكلت في جمالها وأناقة بناءها مجمعا لإدارة شؤون الدولة ، وامتدت عمليات البناء بفعل التطور الاقتصادي وقيام التجار والميسورين ببناء الدور السكنية والمحلات التجارية لتصبح نواة لمنطقة الكرخ حول بوابة بغداد الجنوبية واستمرت عملية للنهوض والإبداع العمراني ليتم تأسيس مقر الخلافة بالكامل على الضفة الشرقية لتكون منطقة الرصافة عام 946 ميلادي .
تصاعدت النهضة الثقافية والعمرانية والاقتصادية لتشكل عاملا رئيسيا في نمو وتقدم الدولة العربية الإسلامية وإقامة المعالم الثقافية وأهمها المدرسة المستنصرية والقصور الأثرية والمساجد الإسلامية والكنائس المسيحية لتؤكد حقيقة التواصل والتماسك المجتمعي الذي اتصف به أبناء الشعب العراقي طيلة القرون والعقود الماضية، ومن المعالم الدينية التي حظيت باهتمام ورعاية أبناء العراق جامع الإمام الأعظم ابو حنيفة النعمان في مدينة الاعظمية بجانب الرصافة وعلى الضفة الثانية في منطقة الكرخ مقام الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام في مدينة الكاظمية ثم جامع الخلفاء ومسجد معروف الكرخي، وتبقى شواهد مدينة بغداد ببقايا سورها ودار الخلافة السياسية ومقر المعتصم بالله .
أحيطت مدينة بغداد بأربع أبواب( باب خرسان والشام والكوفة والبصرة ) التي شكلت أهمية حضارية واجتماعية في عملية التواصل مع المدن و المناطق المجاورة لدار الخلافة وامتداد طرق المواصلات لتكون عاملا مهما في عمليات التبادل التجاري وتحسين آفاق العمل الاقتصادي ضمن منظومة الدولة القائمة.
وعبر محطات التاريخ شهدت مدينة بغداد العديد من العثرات والنكبات التي عانت منها منذ الغزو المغولي وتضاؤل الاهتمام بها حتى أصبحت أحد الولايات المهمة في العهد العثماني ولتكون عاصمة الدولة العراقية عام 1920 ، ورغم هذه المحن فقد كانت مدينة بغداد عنوان للتعايش الإجتماعي بين جميع القوميات والأديان والطوائف ومثالا للاهتمام بتطور الحياة من حيث بناء المدارس ومراكز العلم والأسواق والمحلات التجارية والمقاهي والمطاعم الشعبية .
ونرافق مع مقالنا صورة جميلة لإحصائية عددية خاصة بمدينة بغداد عام 1893 لنرى عمق الجانب الإنساني والحضاري والاجتماعي في حياة أهالي مدينة بغداد الأصيلة ولكي تدرك الأجيال الحالية أن أجدادهم كانوا بناة لدولة ومجتمع متماسك حرية الفكر والتعبير واجتهدوا في اصول الثقافة والأدب والفن والعلوم المعرفية وساروا مراحل التطور الحاصل آنذاك فأنشاوا أول خط حديدي لعربات الترام عام 1869 في زمن الوالي مدحت باشا عندما أسست شركة ترامواي بغداد الكاظمية وشكلت أول إدارة للسكك الحديد في العراق عام 1916 وكانت تحت سيطرة البريطانيين وتحولت إلى إدارة عراقية عام 1936، ثم استمرت عمليات البنيان والأعمار وابدع البناة والمعماريون العراقيون في تقدم وتطور بلدهم عندما أسس مجلس الأعمال عام 1950 ليكون المنطلق الرئيسي لبناء وتطور مدينة بغداد وأنشأت المصانع والمعامل وشفت الطرق الرئيسية وخطوط المواصلات وبنيت السدود والمدارس والمعاهد والكليات والمستشفيات والمراكز الصحية والأسواق التجارية التي أصبحت علامة مميزة في تاريخ بغداد من حيث الزخرفة والفن والإبداع ومنها ( سوق الصفافير والسراي والساعاتية ) وأسواق الجملة في جميلة والشورجة وأخيرا السوق العربي والارمن والعباسي.


وأصبحت بغداد بفضل عجلة التقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي ثاني كبريات العواصم العربية من حيث حجمها السكاني ولتكون أكبر مركز تجاري وحلقة وصل بين الدول المجاورة.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية