تراقب طهران الحراك الجديد الذي يقوم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسياسة الانفتاح التي لجأ إليها، الهادفة إلى ترميم علاقاته مع الدول العربية، بخاصة الخليجية، وفي مقدمتها السعودية.
المراجعة الإيرانية للطموحات التركية أخذت بعداً جدياً مع الزيارة الأخيرة التي قام بها أردوغان إلى الرياض والقمة التي عقدها مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وحجم التنازلات التي قدمها، والأهداف التي يسعى إليها من وراء هذه التنازلات، بخاصة بعد محاولته اعتماد سياسة الابتزاز خلال السنوات الأربع الماضية على خلفية استغلاله قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
طهران لا تتوقف عند العناوين التي قدمها أردوغان لتسويغ هذه الزيارة، بخاصة تلك المتعلقة بإمكانية لعب دور في تقريب وجهات النظر بينها وبين السعودية، والعمل على خفض التوتر بينهما، لأن مسار الحوار المباشر والثنائي بين الطرفين بدأ منذ أشهر ويتطور بشكل إيجابي، وقد ينتج تحولاً في طبيعة العلاقة المتوترة التي تربط بينهما في المرحلة المقبلة.
وتنظر غرف القرار الإيراني المعنية برسم السياسات الإقليمية والاستراتيجية إلى الحراك التركي بعين الريبة والتشكيك بأهدافه وأبعاده، بخاصة أنه لا يقتصر على الانفتاح باتجاه السعودية، بل يشمل كل الخطوات التي قام بها أردوغان في الآونة الأخيرة، من الانفتاح على دولة الإمارات، وبعدها استقباله الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، وبعدها المساعي التي بذلها للعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى محاولته ملء الفراغ الأميركي بعد الانسحاب من أفغانستان، ومحاولة التمدد في منطقة القوقاز الجنوبي من بوابة الصراع الذي نشب بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم قره باغ.
وتعتقد هذه الدوائر أن الأزمات الداخلية التركية، وتعاطي أنقرة مع التطورات الإقليمية والدولية، تقدم صورة واضحة عن الأهداف التركية لتطبيع علاقاتها مع السعودية، وقبلها مع دول منطقة الشرق الأوسط. وأن سياسة “التذبذب” التي يتبعها أردوغان في علاقاته مع دول المنطقة والعالم، تقوم على توظيف المواقف لخدمة أهدافه الداخلية وتعزيز سيطرته واستمراره في السلطة على حساب المبادئ، بخاصة أن الاقتصاد التركي في هذه المرحلة يعاني تضخماً وصل إلى 50 في المئة، وتراجعت قيمة العملة الوطنية بنسبة 40 في المئة، إذ أدت الأزمات الاقتصادية المتفاقمة إلى جعل الاقتصاد التركي هشاً ومعرضاً للانتكاسات الحادة، انعكست على صورة أزمات اجتماعية، أضعفت موقف أردوغان في مواجهة خصومه السياسيين، ما دفعه للتفتيش عن مصادر واستثمارات تساعد على تثبيت الاقتصاد وإدارة الأزمة، من أجل تعزيز مواقعه أمام خصومه.
وإذا ما كانت مساعي أردوغان من زيارته إلى الرياض تحمل أبعاداً سياسية، تختلف أو تتعارض مع التوجه الذي اعتمدته أنقرة منذ عام 2011، بالتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين من أجل إقامة شرق أوسط جديد ينسجم مع ما يفرضه هذا التحالف والتوجه، وما فيه من تحد لإرادة ومواقف الدول العربية عامة والخليجية بخاصة، التي أعلنت موقفاً متشدداً من هذه الجماعة، واعتبرتها مصدراً يهدد استقرار العالمين العربي والإسلامي، وأدرجتها على لوائح الجماعات الإرهابية. إلا أن التغيير في الموقف التركي، الذي بدأت مقدماته بالتضييق والتخلي عن توفير الملاذ الآمن لهذه الجماعات على الأراضي التركية، وما يدور من حديث عن بدء خروج قيادات لحركة “حماس” من تركيا، جاءت منسجمة مع سياسة الانفتاح التي بدأها مع دولة الإمارات، التي توجت باستقبال ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد في إسطنبول، وزيارة أردوغان إلى الإمارات وتوقيع معاهدات واتفاقات اقتصادية واستثمارية بعشرات مليارات الدولارات، كانت تركيا بحاجة إليها لمواجهة الانهيار الذي أصاب اقتصادها في الأشهر الأخيرة. وهي خطوات اعتبرها أردوغان تمهيداً يدفع القيادة السعودية للتعامل بإيجابية مع سياسة الانفتاح الجديدة التي يتبناها.
وتعتبر طهران أن سياسة أردوغان مع الملفات التركية الإقليمية، وفي منطقة غرب آسيا، تقوم على خدمة مصالحه السلطوية، فمن غير المستغرب أن يتخلى عن بعض أوراقه وحتى حلفائه من أجل الحصول على ما يدعم به الجانب الاقتصادي أمام أي أزمة أو انتكاسة يتعرض لها، كما فعل في السابق ويفعل الآن. فإذا ما تخلى عن تحالفه وعلاقاته مع جماعة الإخوان المسلمين من أجل ترميم علاقته مع الدول الخليجية، ومصر لاحقاً، فإن تخليه عن الشعار الذي رفعه كمدافع عن القضية الفلسطينية لم يشكل عائقاً أمام عودته إلى سياسة الانفتاح على تل أبيب، وإعادة تفعيل التعاون الاستراتيجي والأمني معها على حساب علاقته بـ”حماس”.
السياسات المتناقضة لأردوغان، وحسب اعتقاد دوائر القرار الإيراني، انعكست أيضاً على الأزمة القوقازية، إذ انتقلت من موقف داعم بقوة لباكو، إلى لعب دور الوسيط بينها وبين إيران، ثم ابتزاز الطرفين من أجل الحصول على مكاسب منهما اقتصادية وتجارية وسياسية، وكذلك في تحويل الوساطة بين موسكو وكييف إلى لعبة مصالح واللعب على التناقضات بين الجانبين.
أما على الساحة العراقية، فإن طهران تتهم أنقرة بأنها تسعى لاحتلال بعض المناطق العراقية، واستهداف مواقع في إقليم كردستان، بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية ونفطية. ويشكل الانفتاح على الرياض محاولة من أنقرة لإنهاء المقاطعة الاقتصادية السعودية، التي استمرت سنوات أربع، كان لها التأثير الكبير على الاقتصاد التركي لجهة وقف تصدير عديد من الصناعات والبضائع التركية إلى السوق السعودية، وأدت إلى ركود القطاع الصناعي، فضلاً عن انصراف السياح السعوديين عن التوجه إلى تركيا.
وإذا ما كانت أنقرة تسعى لتعزيز موقعها في المعادلات المستقبلية للشرق الأوسط، فإن اتباع سياسة متذبذبة لا تساعد على تحقيق هذا الهدف، لأنها تدفع الدول الأخرى للخوف من الدخول في أي تحالف معها، خصوصاً أن سياسة البحث عن المصالح، والتخلي عن مواقف من أجل الحصول على المكاسب، باتت الصفة الغالبة على سياسة وتصرفات ومواقف القيادة التركية المتغيرة بشكل سريع. وأن تخليها عن استراتيجيتها في المنطقة والتنكر للإخوان المسلمين و”حماس”، فإنها تخسر موقعها الأيديولوجي بشكل كبير. وهو مسار تعتبره طهران يصب في الأهداف السعودية التي نجحت في دفع تركيا للتخلي عن هذه الاستراتيجية القائمة على التحالف مع الإخوان و”حماس” في المنطقة، بالتالي استطاعت الرياض تحييد أحد أبرز منافسيها الإقليميين.
أن تستطيع الرياض تحييد المنافس التركي وبشروطها ومن دون تنازلات يعني بالنسبة لطهران مزيداً من التعقيدات على مسار مفاوضاتها مع الرياض، ومزيداً من التشدد السعودي في مواقفها من بعض الملفات. فهل ستكون طهران على استعداد لتقديم تنازلات تساعد على ترميم علاقاتها مع الرياض؟
اندبندت عربي