بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقف لا يحسد عليه. ولدى بلده الموارد اللازمة لإلحاق الأذى بأوكرانيا إلى الأبد، لكن نظراً إلى أن المرحلة الأولى من الحرب كانت مكلفة للغاية بالنسبة إلى روسيا ولأن الجيش الأوكراني يقاوم مقاومة عنيدة، فإن روسيا تواجه صعوبة في تحقيق أي شيء ذي مغزى في ميدان المعركة من دون أن تزج بقوة بشرية أكبر بكثير مما هو متاح حالياً.
إن استدعاء أعداد كبيرة من جنود الاحتياط مع وضع المجتمع الروسي علانية على أساس الحرب يحل المشكلة نظرياً. إلا أن الشعب الروسي ليس مستعداً أساساً لهذا الأمر. كما استمر بوتين، حتى اليوم، في الإشارة إلى الحرب في أوكرانيا على أنها “عملية عسكرية خاصة ” ونظم مسيرة حاشدة واحدة لتأييد الحرب. وإن تعبئة شاملة من شأنها أن تجعل الحرب حقيقة لا مفر منها في الحياة الروسية، وستحدث ثورة في النظام الذي بناه بوتين منذ وصوله إلى السلطة في عام 2000. كانت “البوتينية” صيغة، تمثلت في أن الحكومة أثنت الناس عن التدخل في السياسة في الوقت الذي تركتهم في الغالب وشأنهم، وقد تنازل الناس بسهولة عن مسؤوليتهم في صنع القرار. لقد استطاع في عام 2014 أن يحقق أهدافه العسكرية في أوكرانيا من دون إعادة تحديد السياسة الروسية بشكل جذري. لم يعد هذا خياراً متاحاً الآن.
إذا قرر بوتين التعبئة فإنه سيغير الصفقة التي أبرمها مع الشعب ومن المحتمل أن يزعزع ذلك استقرار نظامه. وفيما تراقب الولايات المتحدة التطورات من موقع المتفرج الذي لا علاقة له بما يحصل، لربما يغريها تشجيع الروس للانقلاب ضد بوتين، ولكن باعتبار أنه ليس لها تأثير كبير، أو ربما أي تأثير حقيقي، في الرأي العام الروسي، يمكن لإدارة بايدن أن تبذل قصارى جهدها لتفادي أخطاء باهظة الثمن. والأهم من ذلك هو جهودها لفهم كيف ولماذا يفكر الروس في ما يفكرون به. وسيكون الفضول، في الصراع الطويل الأمد الذي يتكشف، سلعة ثمينة.
لا شيء يمكن رؤيته هنا
خلال السنوات العشر الأولى أو نحو ذلك من فترة حكم بوتين، كان “اتفاق عدم المشاركة” بين الكرملين والجمهور الروسي ساري المفعول. لقد كان ذلك نوعاً من الاتفاق الضمني بين الحاكم والمحكوم، مفاده “لا تهز القارب، وستتمتع بالاستقرار، وبالازدهار النسبي، وبفرص لتحقيق الذات أو الغنى”، لكن كلا الطرفين انتهك هذا الاتفاق في ديسمبر (كانون الأول) 2011. وهتف المتظاهرون “روسيا من دون بوتين”، لأنهم كانوا مستائين من عودة بوتين إلى الرئاسة، ومن تزوير الانتخابات البرلمانية. ورداً على ذلك، أخذ الكرملين يصادر الحقوق والحريات التي تمتع بها المجتمع الروسي حتى ذلك الوقت، ما أدى إلى تأليب الأغلبية الوطنية ضد هؤلاء الذين اعتبرهم النظام من المفرطين في “تحديث أنفسهم” وفي “التأثر بالغرب”. وبعد ذلك الاشتباك، عادت الحياة الطبيعية في أحد نماذجها لتسود، لكن شعبية بوتين تراجعت، وأخذت شعبية النظام في التآكل. وقد بدأ هذا الفصل الجديد من رئاسة بوتين، نحو 2011، بداية سيئة.
في خريف 2013، كان بوتين يستعد لانطلاق دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في مدينة سوتشي، وهي منتجع روسي على البحر الأسود. لم يظهر أن هناك أي مغامرات عسكرية على جدول أعماله، لكن ما إن مرت أشهر قليلة، حتى غيرت انتفاضة “ميدان” الموالية لأوروبا التي شهدتها أوكرانيا، والهروب غير المتوقع للرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، حسابات بوتين. كان قد اعتبر يانوكوفيتش أحد رجاله [الذين يعتمد عليهم] وتوقع منه أن يبقي أوكرانيا في الفلك الروسي. ومع رحيل يانوكوفيتش، شعر بوتين أن الوضع أخذ يخرج عن سيطرته. وضم شبه جزيرة القرم، ثم تدخل إلى جانب المتمردين المسلحين في شرق أوكرانيا، ومضى يثبت الجيش الروسي بشكل تدريجي في مواقع في دونباس ويعطي موسكو دوراً شبه إمبريالي هناك.
قطع ضم شبه جزيرة القرم شوطاً طويلاً في عملية استعادة الدعم الشعبي لبوتين، وأنتج دفقة عفوية من الوطنية كما أكد مزاج للمواجهة مع الغرب. غير أن الكرملين لم يدع الصراع يتطفل كثيراً على الحياة اليومية لغالبية الروس، تاركاً فيها بقية معتبرة من وجوه الحياة الطبيعية.
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات تسببت بتدهور اقتصادي حاد في عام 2015، إلا أن الاقتصاد استقر بمرور الوقت، وكان بوسع الناس أن يتأقلموا مع الوضع. وإذ تم قمع النشاط السياسي ضد النظام، فقد بقي من المسموح به لمنظمات المجتمع الأهلي أن تعمل. وتواصلت المبادرات الخيرية والتعليمية والثقافية، أي كان بإمكان منظمات غير حكومية، ومراكز بحث، ووسائل إعلام، لم تكن كلها ملتزمة التزاماً مطلقاً الخط الحكومي، أن تقوم بعمله. وتم التعامل مع احتجاجات متفرقة لأسباب مختلفة بوحشية في بعض الأحيان، ولكن كلما أتت موجة من الاحتجاجات كانت تبلغ ذروتها وتمضي من دون أن تخلف وراءها أي حركة أو سبباً من شأنه أن يجعل الكرملين يشعر بالقلق الشديد. وبهذه الطريقة، استطاع بوتين أن يعدل طبيعة السياسة الروسية في عام 2014 من دون أن يعيد صياغتها بشكل كامل.
جرى القتال في دونباس على شكل موجات. عندما تلاشت حدتها ما بعد عام 2014، لم تعد السياسة الخارجية حاضرة في الوعي العام في روسيا. وبدت الحرب في سوريا، حيث كانت القوات الروسية تقاتل إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، بعيدة جداً ولم تسفر عن خسائر روسية كثيرة. وعلى الرغم من أن الأزمات الدولية لم تغب على الإطلاق فإن أولئك الذين رغبوا بتجاهل هذه الأزمات استطاعوا أن يفعلوا ذلك.
حرب غير بعيدة جداً
مع حلول عام 2020 كانت الحكومة الروسية بعيدة كل البعد عن التفاؤل بخصوص مستقبل المعارضة. وكان أليكسي نافالني، المعارض البارز في روسيا، المتضرر الأكبر من غضب الحكومة المتصاعد، تعرض للتسميم بواسطة غاز الأعصاب “نوفيتشوك ” في أغسطس (آب) 2020، وذهب إلى ألمانيا لقضاء فترة نقاهة. وعند عودة نافالني في يناير (كانون الثاني) 2021، ألقي القبض عليه. وبعد اعتقاله، أصدر فريقه أحد أشرطة الفيديو المميزة، التي تفضح الفساد في أوساط النخب الرفيعة المستوى، وكان الفضح هذه المرة يستهدف بوتين نفسه. لم يكن على الإطلاق نافالني يشكل تهديداً مباشراً لسلطة الرئيس. ومع ذلك، فقد كان يمثل ثقلاً موازناً لبوتين من حيث الشعبية، وهو أمر يعتبر مصدر قلق بالغ بالنسبة إلى الكرملين، لأن وضعية بوتين غير المتنازع عليها ومستوى التأييد المرتفع الذي يحظى به يمثلان معاً أساس الاستقرار السياسي بعينه.
ربما كانت الحياة الطبيعية والاستقرار أوهاماً للشعب الروسي في عامي 2020 و2021. مع ذلك فقد كانت أوهاماً مستدامة. وحطمت الحرب التي بدأها بوتين في فبراير (شباط) من هذا العام هذه الأوهام. فحجم الغزو الروسي أكبر بشكل هائل من أي شيء تم القيام به في عام 2014، والقطيعة بين روسيا والغرب تكاد تكون غير مسبوقة، من حيث حجم العقوبات، والقيود على السفر وإغلاق المؤسسات الغربية في روسيا أو رحيلها عنها. وهكذا، سيواجه بوتين في الأشهر المقبلة خياراً قاسياً. يمكنه أن يخفض التصعيد ويحاول إصلاح العلاقات مع الغرب، أو يمكنه أن يشن حرباً واسعة النطاق على أوكرانيا ما سيزيد من تعميق الشرخ مع أوروبا والولايات المتحدة.
إن حرباً شاملة ستتطلب في الأقل تعبئة تدريجية. ويمكن لبوتين بذلك أن يوسع خياراته في ساحة المعركة. وهنا تحظى كلمة “تعبئة” بمعنيين اثنين [أولهما هو] إعداد جيش للحرب من خلال دعوة الاحتياطيين والاختصاصيين، و[الآخر] توجيه المجتمع الروسي بكامله نحو الحرب. تعكر التعبئة صفو الشؤون الداخلية والخارجية على حد سواء، إذ تميل إلى تعريف السياسة على أنها عدوان والعدوان على أنه سياسة، كما تشجع الشوفينية. وإذا اختار بوتين التعبئة بهذين المعنيين للكلمة، فإنه سيحتاج إلى بناء مبررات قوية من أجل الوطنية المتشددة. وسيتعين عليه تأطير المواجهة بشكل أكثر وضوحاً على أنها حرب ضد الغرب، مع ربط أوكرانيا بالعدو.
(غالباً ما يشار حالياً إلى الأوكرانيين على أنهم “الإخوة” و”الشعب نفسه”، في حين يدعي الكرملين شن حرب ضد “النازيين” بين الأوكرانيين). ستنتهي الحياة المدنية التقليدية، ولن تستأنف حتى إلا بعد أن تكون الحرب قد انتهت، أينما كان ذلك وكيفما حدث.
ستمكن التعبئة بوتين من اتخاذ مجموعة موسعة من الأهداف للحرب، أي الهجوم مرة أخرى على كييف، وحملة من أجل تقسيم البلاد إلى نصفين شرقي وغربي، أو جهد منسق لتحويل أوكرانيا إلى دولة فاشلة، مع تدمير بنيتها التحتية، ومدنها، واقتصادها بشكل كامل.
ستفرض التعبئة في الوقت نفسه مخاطر سياسية هائلة على بوتين. فلقد أقام نظامه على أرضية فك الارتباط العام بالسياسة والسياسة الخارجية. وسيكون الإعلان عن شيء مثل حرب شعبية، بدلاً من مجرد “عملية عسكرية خاصة”، أمراً محفوفاً بالمخاطر إلى أقصى حد. وتستلزم التعبئة مشاركة الروس الفعالة في الحرب وتبني مبرراتها وأهدافها، وهو أمر ينبغي أن يكون واضحاً ومؤكداً، ولكن كانت أسباب الحرب حتى الآن غامضة ومتغيرة. كما أن التعبئة العامة لن تكون عملية مضبوطة بالضرورة. وبمقدورها أن تمكن الفصيل الأكثر تشدداً بين النخب تمكيناً جذرياً، ما سيؤجج المشاعر القومية بطرق لا يمكن التكهن بها، ولا سيما إذا لم تسر الحرب على ما يرام.
من يصدق هذه الأشياء؟
إن رواية الحرب الروسية الرسمية مألوفة بقدر ما هي قابلة للتغيير. بسبب استفزاز الغرب والفظائع التي ارتكبتها حكومة أوكرانيا في دونباس منذ عام 2014. تم ربط الرواية، في البداية وبشكل متقطع، بـ”نزع السلاح ” و”اجتثاث النازية” من أوكرانيا، وأيضاً بالاستقلال الكامل لمنطقتي (أو مقاطعتي) دونتسك ولوغانسك، ويعد هذا الاستقلال السبب الأكثر اتساقاً للحرب. كما جرى التشديد على أن وجود أوكرانيا هو امتداد طبيعي لـ”العالم الروسي”. ومن الأمور الأساسية بالنسبة إلى حبكة الرواية هذه التكهن بأن حلف شمال الأطلسي (ناتو) سيهاجم روسيا، ما يجعل “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا وقائية بطبيعتها. تعيش الحرب في وضع انتقالي متبدل يصعب حصره، بين شيء تم تحديده على أنه أقل بكثير من حرب، وبين “صراع وجودي” ضد الغرب، وضد “الناتو” وضد مخططات الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الرئيسين.
وبطبيعة الحال. يقول مهندسو “العملية العسكرية الخاصة” إنها تسير على ما يرام. ويلمح الخط الرسمي بأنها كان يمكن أن تتم بشكل أفضل، لو أن الولايات المتحدة وشركاءها لا يسلحون أوكرانيا تسليحاً كاملاً، ويتلاعبون بالرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، ويذكون من خلاله النزعة القومية الأوكرانية و”النازية”. وفي قصة الكرملين، هناك أشرار كثيرون، وليس فقط الولايات المتحدة، بل أيضاً المملكة المتحدة، وبولندا وجمهوريات البلطيق وأوروبا بكاملها.
إن بعض الروس مناهضون للحرب، وبعضهم الآخر حريص على عدم سماع أخبار سيئة عنها ويشعرون بالغضب عندما يواجهون بأدلة على ارتكاب فظائع. البعض مؤيد للحرب بعصبية، وبعضهم الآخر مؤيد للحرب بحزم، وهم المؤمنون الحقيقيون بها. والأكثر أهمية من ذلك هو عدم اكتراث عديد منهم بالأمر، فهي حرب أوكرانيا، وحرب الكرملين، وليست حربهم. لا توجد بيانات استقصائية لتصنف عمليات التأقلم المتنوعة في المشاعر والمواقف داخل بلاد في حالة حرب. التوترات والتناقضات لا تحدث فقط في أوساط مجموعات مختلفة من الناس. إنهم يلعبون بعقول الناس.
ما قد يكون أكثر صلة بالرأي العام الروسي هو أن الحرب لم يتم الشعور بها على الفور في الداخل. كانت هناك ضربات قليلة على أهداف عسكرية مهمة في روسيا. بالنسبة إلى معظم الناس، لم تغير القيود المفروضة على السفر والضغط الاقتصادي الناتج من العقوبات حياتهم اليومية بشكل جذري. بالنسبة إلى العائلات التي لديها أفراد في الجيش ولأسر المجندين، فإن الحرب ليست بعيدة بالطبع. بالكاد يذكر الكرملين الضحايا، مما يسهل على عديد من الروس عدم معرفة ما يجري. بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الروس، فإن الحرب هي بالكاد شغلهم الشاغل. ولهذا السبب فإن التعبئة ستشكل مثل هذا التحدي: فهذا يعني التحول من “عملية عسكرية خاصة” إلى “حرب شعبية”. سيترافق مع ذلك تبدد الوهم بأن الحرب بعيدة. يجب مواجهة المعاناة والخسائر بالأرواح الناجمة من حرب واسعة النطاق بتضحيات متناسبة في الداخل. من شأن الخوف والغضب أن ينتشرا في أنحاء المجتمع الروسي الذي كان يشجع لعقود على الابتعاد عن العواطف السياسية القوية.
لا تسبب الأذى
إذا اتخذ بوتين قراراً لصالح التعبئة، وإذا فشل الكرملين في المهمة، فقد تميل الولايات المتحدة إلى استغلال الفوضى. وعلى أي حال، تريد الولايات المتحدة طرد الجيش الروسي من أوكرانيا. وقد خمن عدد من مسؤولي الحكومة الأميركية في الأقل بشأن قطع أشواط أخرى لتحقيق هذا الهدف وتسريع عملية التفكك العسكري الشامل لروسيا. ويعتقد البعض أن من الضروري إذلال روسيا. غير أن الولايات المتحدة كوسيلة للتعبير عن الرأي المناهض للحرب أو المناهض لبوتين داخل روسيا ليست غير محتملة فحسب، بل يكاد يكون من المؤكد أنها ستؤدي إلى نتائج عكسية. يجب أن تحاول الولايات المتحدة أن تظهر رسمياً بمظهر المحايد بشأن السياسة الروسية الداخلية، وأن تكون كذلك فعلاً. كما ينبغي عليها أن تمتنع عن التعليق العلني وألا تنحاز إلى حركات المعارضة. ولا يتعلق هذا بالخوف من الحساسيات السياسية للكرملين. فالهدف هو ترك فضاء السياسة الروسية مفتوحاً أمام الروس للتحرك نحو روسيا ما بعد بوتين بأدواتهم الخاصة.
وإذ تمضي قدماً بخفة وحذر، يجب على إدارة بايدن مع ذلك أن تتبع طريقتين في العمل بشأن الرأي العام الروسي. ينبغي عليها أن تفعل ما في وسعها لتعزيز النيات الحسنة. ويمكن لواشنطن أن توضح أن تمنياتها بالخير لأوكرانيا يجب ألا تترجم على أنها تمنيات بالسوء للشعب الروسي. قد يكون من الصعب التوفيق بين هذا والغضب الذي يشعر به عديد من الأميركيين حيال الطريقة التي أدارت بها روسيا حربها هذه. ومن الممكن أن يكون من الصعب إيصال تعابير النية الحسنة إلى الطرف الآخر. لدى حكومة الولايات المتحدة منصات قليلة للوصول إلى الشعب الروسي، لكن قيمة هذه التعبيرات بديهية. لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكرر الحكومة الأميركية ثنائيات الشرق والغرب، و(نحن مقابل هم)، التي نشرها بوتين لشرح وتبرير هذه الحرب.
في ما يتعلق بالخطاب العام للرئيس بايدن، فإن القاعدة الرئيسة يجب أن تكون عدم الإلحاق بالضرر. مع وقوف الولايات المتحدة بقوة إلى جانب الجيش الأوكراني، فإن قدرة بايدن على إقناع الروس بشكل مباشر أو كسب أي تعاطف، هي قدرة متواضعة في أحسن الأحوال. ومن المثير للاهتمام أن بايدن حاول إرسال رسالة حسن نية إلى الشعب الروسي حين زار وارسو في مارس (آذار). وفي خطاب ألقاه، حاول عدم تأطير دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا على أنه يتعارض مع مصالح الشعب الروسي. غير أن بضع كلمات مرتجلة في النهاية قالها بايدن عن بوتين وهي “بحق لله، لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى في السلطة”، هيمنت على المناقشات لأيام بعد ذلك. وهكذا ضاعت رسالة بايدن عن حسن النية. من المشكوك فيه أن أي جزء من خطابه قد تم بثه تلفزيونياً في روسيا باستثناء كلماته تلك عن بوتين. ونظراً إلى أن هدف الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون استسلام روسيا بشكل غير مشروط، فإن الحديث عن هزيمة روسيا أو حتى عن إضعافها أمر مضلل، ومن الأفضل أن تكون هناك مجموعة من الأهداف المتعلقة بسيادة أوكرانيا واستقلالها. كاستراتيجية إعلامية لروسيا، من الضروري الانتباه إلى أن الحديث عن هزيمة روسيا أو إضعافها يؤدي إلى تعميق النفور من الغرب، الذي تشعر به الغالبية الساحقة من الروس بمن فيهم أولئك الذين يشككون بالحرب.
أخيراً، يمثل الشتات الروسي مصدراً لافتاً لدى إدارة بايدن. يوجد حالياً مئات الآلاف من الروس المتعلمين تعليماً عالياً يعيشون في مدن في أنحاء أوروبا وفي آسيا الوسطى وفي تركيا وفي جنوب القوقاز. غادر بعضهم لأسباب اقتصادية، لأنهم قدروا أن مستقبل روسيا الاقتصادي سيكون قاتماً. وخرج عديدون لأنهم لم يكونوا قادرين على تأييد الحرب. وهؤلاء المغتربون لا يشكلون حكومة في المنفى، ومن غير المرجح أن يقودوا عملية تحول ديمقراطي ضمن روسيا. وباعتبارهم قد غادروا فلن يكونوا موضع ترحيب بشكل خاص حتى في روسيا ما بعد بوتين. أما هؤلاء الذين غادروا خلال موجة هجرة مبكرة، في أعقاب الثورة الروسية عام 1917، فلم يتمتعوا بأي تأثير في التطورات السياسية في الاتحاد السوفياتي. عادت فقط قلة قليلة للغاية، وعاشت مجرد حفنة منهم لترى سقوطه في عام 1991. وبشكل مماثل، من غير المرجح أن يكون الشتات في القرن الحادي والعشرين وسيلة لتغيير روسيا. وقد لا يعود أفراده أبداً.
مهما كانت مساهمات الشتات في السياسة الروسية ضئيلة، فإنها لن تكون مساهمات من دون معنى. وسيحافظ الشتات على نماذج للإبداع الثقافي غير المرتبطة بنظام بوتين وفي الوقت الذي يضمحل فيه السفر والتجارة بين روسيا والغرب، سيكون الشتات بمنزلة جسر اقتصادي بين الروس والعالم غير الروسي. وسيولد جدالاً ونقاشاً من شأنهما أن يدخلا ببطء إلى روسيا عبر العائلة والأصدقاء وأيضاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. سيجسد روسيا أخرى لا تعادل استراتيجيات وتصريحات بوتين.
في عام 1990، نشر المؤرخ مارك رايف استكشافاً رائعاً لما يتخذه المهاجر الروسي بديلاً للاتحاد السوفياتي. وأطلق عليه عنوان “روسيا في الخارج، تاريخ ثقافي للهجرة الروسية 1919 – 1939”. كان رايف ابن مهاجرين روس غادرا بلادهما بعد الثورة البلشفية، وكان أيضاً نتاج البيئة الأوروبية التي سكنها والداه بعد أن هاجرا. فإنه تمكن في عمله من تجنب الحنين إلى الماضي والمرارة التي غالباً ما يشعر بها الشخص بعد الانتقال إلى المنفى. وبدلاً من ذلك، رأى قوة الشتات النائي وإمكاناته. كتب رايف عن المهاجرين أنهم في بادئ الأمر “لا يفرغون حقائبهم، وجلسوا على الصناديق التي وضعوا فيها أشياءهم. وهذا ينم عن تأكدهم الكامل من أن الاتحاد السوفياتي سينهار قريباً، لكنهم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل. على الرغم من ذلك، أثبتوا بمرور الوقت كيف يمكن لمجموعة من المنفيين أن تحافظ على وجودها الإبداعي، على الرغم من التشتت والإعاقات الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية”. تلك الإمكانات نفسها تكمن الآن في نسخة جديدة من “روسيا في الخارج”. ولا ينبغي لهذا أن يبقى من دون استغلال.
مايكل كيماج هو بروفيسور في التاريخ في الجامعة الكاثوليكية في أميركا وزميل زائر في صندوق مارشال الألماني. عمل بين عامي 2014 و2016 كموظف في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية حيث شغل حقيبة روسيا/ أوكرانيا.
ماريا ليبمان هي زميلة زائرة متقدمة في معهد الدراسات الأوروبية والروسية والأوراسية في جامعة جورج واشنطن، وهي محررة مشاركة للموقع الجديد الذي أطلقه المعهد أخيراً تحت اسم “روسيا بوست”.
اندبندت عربي