على الرغم من أنه لا يمكن عمل الكثير بشأن نزع سلاح «حزب الله» في الوقت الحالي، إلّا أن أي سياسة غربية جادة ستحتاج إلى التركيز على معاقبة عوامل التمكين السياسية المحلية للحزب والانخراط في الوقت نفسه مع خصومه الشيعة وحمايتهم.
أوشك لبنان كدولة على الانهيار منذ بعض الوقت. وفي حين أنه لم يُعلَن بعد عن ذلك رسمياً، ولا يبدو أن أحداً مستعداً لإعلان البلاد دولة فاشلة، إلّا أن المؤسسات الحكومية معطلة فعلياً وغير عاملة. وتعني الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى انخفاض قيمة الليرة بأكثر من 90٪ أن رواتب الموظفين الحكوميين لم تعد كافية حتى للتنقل من العمل وإليه. كما أن العديد من المؤسسات العامة الحيوية، مثل “الجامعة اللبنانية” و”شركة الكهرباء” ووزارات الخدمة والبلديات، بالكاد تعمل. وتسببت الأزمة في نزوح جماعي خطير من الخدمة المدنية في جميع المجالات. واختفى جوهر مؤسسات الدولة، أي خدمتها العامة.
ولم يشهد لبنان يوماً انهياراً بهذا الحجم – حتى خلال الحرب الأهلية. لكن الأمر المروع هو أن هذا السيناريو ليس الأسوأ، إذ يلوح في الأفق المزيد من التدهور الاقتصادي، وانخفاض قيمة الليرة، وحدوث انفجار اجتماعي خطير. ويتطلب وقف هذا الانهيار وبدء المسيرة الطويلة والشائكة لإعادة تأهيل الدولة اللبنانية أكثر من مجرد إصلاحات. صحيح أن الإصلاحات في الاقتصاد، والبنوك، والضرائب، والأنظمة الأمنية ضرورية؛ ومع ذلك، نعلم جميعاً الآن أن أياً من ذلك لن يحدث طالما أن «حزب الله» المسلح يشرف على هذا الانحدار.
ولا يعزى هذا الانهيار المفاجئ والشديد إلى الفساد فحسب، ولا يمكن معالجته بالكامل بالإصلاحات الاقتصادية والمالية. فالفساد وجهاز الدولة الضعيف يشكلان جوهر سياسة «حزب الله». وتبدو الإصلاحات في قطاعات معينة، أو انتخاب رئيس، أو تشكيل حكومة أخرى أفضل قليلاً من السابقة، وجميعها خطوات مهمة للحفاظ على الشعور بالإرادة الحرة، إلا أن الصدام ليس بين حزبين سياسيين لبنانيين، بل بين خاطف ورهينة.
تنظر إيران إلى لبنان كرهينة، وبالتالي لا ترى حاجة إلى اعتماد سياسة اجتماعية واقتصادية للبنان، أو للعراق أو سوريا في هذا الصدد. وعلى العكس من ذلك، يعني بناء لبنان مزدهر نشوء دولةً أكثر قوة، الأمر الذي لا يصب في مصلحة إيران و«حزب الله» – فالرهينة يجب أن تبقى ضعيفة وخائفة. وما يهم هو كيفية الحفاظ على قبضة إيران على هذه البلدان وتعزيزها، سواء بقي مواطنوها أو غادروا أو توفوا في معرض قيامهم بذلك. وفي هذا السياق، أدّت أسلحة «حزب الله» أو تهديده باستعمال القوة المسلحة، إلى تجريد الأدوات المؤسسية التي يستخدمها لبنان ليُظهر للعالم أنه لا يزال دولة ديمقراطية بحيث أصبحت بلا قيمة. وفي أي مواجهة بين أوراق الاقتراع والرصاص، دائماً ما يكون هذا الأخير أعلى صوتاً وأكثر سماعاً.
لقد قرر اللبنانيون تحدي هذا الوضع الراهن في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، عندما خرج الناس من جميع الطوائف والمناطق إلى الشوارع ليقولوا لا للفساد والنظام السياسي وللمرة الأولى لـ «حزب الله» وإيران. ولم يتغير الوضع الراهن كثيراً، واصطدمت الاحتجاجات بجائحة “كوفيد-19” ثم انفجار “مرفأ بيروت”، إلا أنها نجحت في تحقيق عدد من النتائج المهمة، مثل إقصاء سعد الحريري عن المشهد السياسي. والأكثر أهمية هو أن الاحتجاجات كشفت الوجه الحقيقي لـ «حزب الله»- أي حامي النظام وراعي الفساد والعنف والظلم. وفي النهاية، تُرجم ذلك بخسارة «حزب الله» لأغلبيته البرلمانية في أيار/مايو 2022.
وتعرضت شعبية التنظيم لضربة موجعة ـ وازدادت الانتقادات ضد ممارساته وسياساته في كل من وسائل التواصل الاجتماعي والشوارع. ولكن بين السعي وراء التأييد الشعبي وبث الخوف، اختار «حزب الله»إثارة الخوف. فقد قام التنظيم بتهديد الناشطين والناخبين الذين أعربوا عن استيائهم فضلاً عن مهاجمتهم ومضايقتهم. ثم قتل لقمان سليم، فأعاد بطبيعة الحال بث الذعر في النفوس وفرض سيطرته من جديد.
التحديات أمام «حزب الله»
يتمثل هدف «حزب الله» اليوم بالحفاظ على سيطرته واستعادة القوة التي فقدها في الانتخابات النيابية من خلال فرض خياره للرئيس المقبل ورؤيته للحكومة المقبلة. وسيستمر في منع أي محاولات لإصلاح المؤسسات وسيصبح الحزب الأكثر قدرة على الوصول إلى العملة الصعبة في لبنان. وسيستخدم جميع الأدوات الممكنة لفرض سيطرته على المدى الطويل على لبنان، حتى لو كان ذلك يعني تغيير الدستور أو إلغاء “اتفاق الطائف”. وسيكون ذلك المسمار الأخير في نعش لبنان كما عهدناه.
وبالنسبة لـ «حزب الله»، يمكن أن يشكل وضع دستور جديد للبنان الضمانة الوحيدة للإبقاء على سلطة إيران وترسيخها. ويمكن أن يؤدي تدهور مؤسسات الدولة والاقتصاد إلى تمهيد الطريق أمام التنظيم وحلفائه للمطالبة بهذا السيناريو.
لكن هذا الفصل من تاريخ لبنان واستراتيجية «حزب الله» في التعامل معه ينطوي على العديد من المخاطر والتحديات. أولاً، يدرك اللبنانيون اليوم أن سلاح «حزب الله» موجه نحو الشعب اللبناني. وقد تحول بذلك التنظيم من كونه “مقاومة” و”محرراً” عامي 1982 و2000 إلى محتل جديد. وسيؤدي هذا التحول في نظرة الشعب إلى تغيير جدي في الديناميكيات القائمة بين التنظيم والشعب اللبناني، وخاصة الطائفة الشيعية. ولا يمكن لـ «حزب الله» أن يزدهر بدون احتضان الشيعة له.
ثانياً، قد تشهد شعبية «حزب الله» المزيد من التراجع، وقد يستمر ذلك في التأثير على الانتخابات البلدية المقبلة والانتخابات النيابية المستقبلية. كما قد يستمر التنظيم في خسارة الناخبين والحلفاء، وفي نهاية المطاف، سيصبح خطر فقدانه سلطة صنع القرار حقيقة واقعة.
ثالثاً، أصبح التحالف مع «حزب الله» بمثابة عبء. فحلفاؤه الحاليون إما خسروا الانتخابات، أو فُرضت عليهم عقوبات، أو كليهما. وفي المقابل، لم يعد بإمكان «حزب الله» ضمان الرئاسات أو الوزارات أو الصفقات التجارية. فقد غادر ميشال عون القصر الرئاسي ولم يحل صهره جبران باسيل محله.
رابعاً، يدرك التنظيم أن بإمكانه التهديد بأسلحته من دون استخدامها، ولكن ليس إلى أجل غير مسمى. فهو يعرف أنه بمجرد استخدامها، سيخسرها. ولم تعد إيران في وضع جيد لإعادة تزويد «حزب الله» بالمال والسلاح كما اعتادت، وتوجّب على «حزب الله» البحث عن بدائل. لكن تجارة المخدرات وأعمال التهريب التي لجأ إليها في الماضي أضرّت أيضاً بصورته وحوّلت “المقاومة” إلى أكبر كارتل للمخدرات في لبنان وربما في المنطقة.
خامساً، وافق «حزب الله» على الاتفاق البحري الذي وقعه لبنان مع إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2022 من أجل تجنب الصراع مع إسرائيل. ولكن كان لذلك تداعيات على خطاب التنظيم إذ توجب على «حزب الله» أن يعترف بوجود دولة معادية ويقبل بعقد صفقة دبلوماسية معها. وتضررت صورة المقاومة بشدة نتيجة لذلك.
غير أن هذه التحديات لن ترغم «حزب الله» على تغيير سياسته أو ولائه لإيران. فمن المحتمل أن يجد التنظيم ورعاته في طهران طريقة للتوفيق بين السلطة والشعبية طالما يملك السلاح والقوة والسلطة في لبنان، والأهم من ذلك طالما يعمل مع غياب الاهتمام الدولي بلبنان.
الفرص والتوصيات
ينظر اللبنانيون والسوريون والعراقيون اليوم إلى إيران ويشعرون بالأمل لأنهم يعرفون أن التغيير في إيران يعني تغييراً في بلادهم. وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، ولكن هناك طرق لإضعاف «حزب الله» في لبنان بصورة أكثر، ويتطلب ذلك اعتماد سياسة شاملة تجاه لبنان – بين الولايات المتحدة وأوروبا (خاصة فرنسا) والمملكة العربية السعودية. كما يستوجب إشراك جماعات المعارضة اللبنانية – حيث لم تنجح أي سياسة في لبنان من دون مشاركة داخلية نشطة. وحتى الآن، يجري أساساً النقاش حول لبنان بين جميع هذه الدول، إلا أنها تركز في نقاشها على البرنامج الإنساني، في حين يجب على السياسة الجادة أن تستهدف الركائز الأساسية الثلاث لقوة «حزب الله» في لبنان وهي: الطائفة الشيعية والحلفاء والأسلحة.
ويلعب فرض المزيد من العقوبات على حلفاء «حزب الله» دوراً مساعداً بالتأكيد، غير أن الوقت قد حان لقيام أوروبا – فرنسا على وجه الخصوص – بإصدار العقوبات التي كانت تناقشها منذ عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي السماح لحلفاء «حزب الله» بزيارة الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى امتلاك حسابات مصرفية وأصول في أي من هذه الدول. يجب أن يشكل التحالف مع «حزب الله» مخاطرة كبيرة.
أما بالنسبة للطائفة الشيعية، فهذا هو الوقت المثالي للعمل مباشرةً مع الشيعة، والاستماع أكثر إلى الأصوات المعبِرة عن الاستياء، وتقديم الدعم السياسي والمادي للمعارضة الجديدة بين الشيعة – وخاصة أولئك الذين يتمتعون برؤى اجتماعية واقتصادية. هؤلاء يحتاجون أيضاً إلى الحماية والدعم – فبدون حماية ستقوم عناصر «حزب الله» بقتلهم كما قتلت لقمان سليم وآخرين.
ويؤدي وجود إمدادات كبيرة من الأسلحة إلى تغيير قواعد اللعبة تماماً. فلا أحد يستطيع استهداف هذه الترسانة فعلياً دون شنّ حرب. وتهتم إسرائيل بمصانع ومنشآت الأسلحة الإيرانية في سوريا، لكن الأسلحةالموجودة في لبنان مخزنة تحت الأرض منذ عام 2006. وبعضها عفا عليها الزمن، لكن الكثير منها لا يزال يشكل خطراً جسيماً في الحرب القادمة مع إسرائيل. ويمكن التعامل مع هذه الأمور بطريقتين: إما عبر شن إسرائيل هجمات مستهدفة من شأنها تدمير الأسلحة من دون قتل المدنيين، أو فضح منشآت الأسلحة التي تم بناؤها تحت البنية التحتية المدنية، كالمدارس والمستشفيات. فليس لدى اللبنانيين أي فكرة عما يوجد تحت منازلهم وأرضهم، وهم بالطبع لا يريدون المخاطرة بأي شيء بعد الآن.
لقد بدأت هذه الركائز بالاهتزاز أصلاً، مع خسارة حلفاء «حزب الله»خلال الانتخابات، ومواجهة إيران تحدياتها الخاصة، وفقدان الطائفة الشيعية ثقتها في «حزب الله». لقد حان الوقت لتسديد الضربة الموجعة. ففي النهاية، قد يكون الشعب الإيراني الأمل الوحيد المتبقي للمنطقة، ولكن في انتظار التغيير في إيران، قد يعود تقييد «حزب الله» في لبنان بالفائدة. فالبديل عن ذلك مقلق بالفعل، وهو قيام لبنان جديد بدستور جديد يضمن سلطة «حزب الله» وسيطرته، مع إيران أو بدونها.
حنين غدار
معهد واشنطن