مع تنامي التنظيمات المتطرفة، وتكرّر العمليات الإرهابية، في أكثر من مكان، تعود إلى الصدارة النظريات والأفكار والسياسات العنصرية، أو شبه العنصرية التي كانت تؤكد، منذ عقود طويلة، عدم صلاحية الإسلام للتعامل مع قيم الحضارة العصرية. وتتعاظم، في موازاة ذلك، الضغوط الرسمية والأهلية في الغرب والعالم، لضرب طوق من العزلة على مجتمعات المسلمين، وبالتالي، تهميشها وحرمان شعوبها من التضامن والتعاطف إزاء ما تتعرّض له من معاناة، من النظم التي تحكمها، أو التدخلات الأجنبية الهادفة إلى احتواء أخطار انفجاراتها. وتكاد الحكومات الغربية أن تعمم، تحت تأثير العنف المرتد إليها، ما أخذته على سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، الطائفية. لكن، على مستوى العالم الإسلامي الذي يكاد يتطابق في الذهنية الغربية مع العالم العربي، أي اللجوء إلى خيار الضغط والعزل والتهميش والحصار. ولو قيّض لهذه السياسة أن تستمر، سيتحول التيار الجهادي إلى قوة رئيسية، في العقود المقبلة، في هذه المجتمعات، بدل أن تتضاءل جاذبية أفكاره.
“تراث طويل من التشكيك بمقدرة الإسلام والمسلمين على مجاراة الحداثة والتفاعل الإيجابي مع العصر”
الإسلام من مثال إلى عدو
تستند هذه السياسة، في الواقع، إلى تراث طويل من التشكيك بمقدرة الإسلام والمسلمين على مجاراة الحداثة والتفاعل الإيجابي مع العصر. فحتى القرن السابع عشر، كان المثقفون الغربيون يرون في الإسلام دين العقل والحكمة، وغياب تسلط السلطة البابوية على الدولة، وروح العالمية والإنسانية التي كانت تطبع حياة ونشاط المسلمين الذين يتنقلون، من دون خوف، على رقعة الإمبراطورية الواسعة. لكن هذه الصورة سوف تنقلب رأساً على عقب، منذ نهاية القرن السابع عشر، بموازاة التحولات العميقة التي كانت تطرأ على المجتمعات الأوروبية، سواء ما تعلق منها بالتحولات الاقتصادية ونشوء الصناعة، أو بالتحولات السياسية، وتطور الاتجاهات الثورية والتطلعات الشعبية لقلب النظم الملكية المطلقة. وبمقدار ما بدأت أوروبا تنفصل فعلياً عن فكر القرون الوسطى، ونظمها، وتشعر بتفوقها في مقابل التراجع المضطرد لقوة المجتمعات الإسلامية وانحسار سطوتها الإمبراطورية في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا في الميادين العسكرية، ستولد نزعة قوية لدى الغربيين، من مفكرين وقادة رأي عام ومواطنين عاديين، للنظر إلى الإسلام ومنظوماته الفكرية والسياسية والاجتماعية نظرة سلبية، تعكس الشعور المتزايد بهذا التفوق التاريخي. وفي سياق تأكيد هذا التفوق، وإعادة إنتاجه في الواقع العملي، ولد علم الاستشراق الذي عني، كما أظهر ذلك إدوارد سعيد، في كتابه اللامع، بالعنوان نفسه، بإعادة صناعة صورة الشرق الإسلامي، وتكريسه عالماً مغايراً للغرب تماماً، وفي الوقت نفسه، نقيضاً له، ومتخلفاً عنه بما يجعل من الطبيعي والشرعي معاً إخضاعه والسيطرة عليه وإعادة تأهيله. هكذا تحول الإسلام إلى خصم، ولو أصبح خصماً ضعيفاً لا يحتاج إلى جهد كبير، لإخضاعه، وفرض الوصاية عليه.
وإلى تلك الفترة، والأدبيات التي أنتجتها، ترجع الصورة التي سادت منذ القرن الثامن عشر للإسلام، والتي صنعت لتكون، على الرغم من تعددية المدارس والمقاربات، وتباين الطروحات في جديتها وموضوعيتها وفلسفاتها، النقيض لتلك الصورة التي أنتجتها أوروبا عن نفسها، بعد عصر النهضة، في الدين والدولة والمجتمع.
ويظهر في هذه الصورة، بشكل واضح، الفرق بين مجتمعات الغرب التي نجحت في نزع ثوب الماضي وتقاليد القرون الوسطى وقيودها عنها، وارتقت في مصاف الحرية، ودخلت التاريخ كحركة وتقدم وديناميكية، ومجتمعات المسلمين التي لا تزال شبه محنطة، تجتر ماضيها، وتتعلق بهوس بتقاليدها، وترفض الانفكاك عنها، أي بين مجتمعاتٍ يحكمها العقل، وأخرى لا تزال تخضع لذهنية الخرافة والسحر، وتخضع، في تحركاتها للعاطفة والقيم الدينية، مجتمعاتٍ تحرّرت فيها الدولة من سيطرة رجال الدين، وأصبحت دولةً حرةً، تعكس، في حريتها وعلمانيتها، حرية مواطنيها أو تحرّرهم، ومجتمعات لا تزال غارقةً في السلطة الأبوية الاستبدادية والوصائية المتقنعة بالدين، أو التي تستخدمه لتأكيد شرعية استعبادها أرواح وأجساد أتباعها الذين لم يعرفوا معنى الحرية، ولا الحق والقانون، ولا المواطنة، مجتمعات متجددة تهتم بالإنسان، وتقيس درجة تقدمها بتوسيع دائرة الحقوق والحريات للفرد، وتحسين شروط الحياة المادية والتعليمية والثقافية، ومجتمعات تقليدية قديمة لا يزال فيها استقلال الفرد ضحية روح العصبية العائلية، أو العشائرية، أو الطائفية، ولا يكاد يشعر بوجوده وفرادته. وأخيراً، بين مجتمعات تحول فيها الدين إلى منبع لمشاعر التضامن والتعاون الإنسانية والمواقف الأخلاقية، ومجتمعات إسلامية، يستخدم فيها الدين للتغطية على المعاملات القاسية والعدوانية، وقيداً على أي تفكير حر، ويرهن حياتها، وحياة أفرادها للماضي والتقاليد، ويقطع صلاتها مع الحداثة والمدنية.
“أراد الغرب في إعادة صوغ صورة الإسلام أن يحول المسلمين إلى خصوم وأعداء، ويبرّر من خلال ذلك سياسات الهيمنة والإلحاق”
غابت هذه الصورة بعض الوقت، أو كادت، في الخمسينيات من القرن العشرين، على أثر نشوء الحركات الوطنية والقومية، وتشكل الدول الحديثة في البلاد العربية، وبروز شخصيات وزعامات سياسية تحديثية، من كمال أتاتورك إلى جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة وهواري بومدين وصدام حسين وغيرهم، وتبني نخب ثقافية وسياسية عربية عديدة الأفكار التي كانت سائدة في عصرهم، كالقومية والماركسية والشيوعية والليبرالية والديمقراطية. وحتى التيارات الإسلامية، التي بقيت أحزاب أقلية بين الحربين العالميتين، كانت أقرب، في تفكيرها وسلوكها، إلى الأخذ بالقيم الليبرالية منها إلى ما برز في ما بعد من أفكار أصولية وتأصيلية، تعرف نفسها بالتضاد مع قيم الحداثة.
لكن، منذ السبعينيات التي شهدت سلسلة من الإخفاقات العربية، على مستويات متعددة، وصعود التيارات الفكرية الأصولية، بدأت الشكوك تظهر من جديد في مقدرة العرب والمسلمين على الانخراط الفعلي في مسيرة الحداثة. وساهم تعثر المجتمعات العربية، في العقود الأخيرة، في مواكبة التحولات الديمقراطية التي أعقبت سقوط جدار برلين في أوروبا الشرقية وغيرها، بعودة هذه الأطروحات. وبرزت نظرية الاستثناء العربي التي عمل عليها باحثون غربيون، ليثبتوا أن العرب غير أهل لتشرب قيم الحداثة، قيم الحرية والمساواة والفصل بين الدين والدولة. ولذلك، هم عاجزون، وسيبقون عاجزين عن الانتقال نحو نظم ديمقراطية.
إحباط النبوءة الغربية
ليس من المبالغة القول إن ما نشهده، اليوم، هو تحقيق النبوءة التي أطلقها الغرب، في صراعه من أجل فرض الوصاية على مجتمعات المسلمين، وإلحاقهم بإمبراطورياته، ثم بأسواقه، ومناطق نفوذه، بعد أن كانوا يشكلون تهديداً استراتيجياً له، قد حققت نفسها، أو هي، في طريقها، إلى تحقيق نفسها بنفسها. فالمسلمون المتهمون بالتقليد والمحافظة والجمود أصبحوا يتبنون هم أنفسهم، أو قسم كبير منهم، هذه الصورة، ويطابقون بين الإسلام والعداء للحداثة، أو التعلق بالنماذج التقليدية، سواء جاء ذلك باسم تطبيق تعاليم الإسلام الصحيح، أو الدفاع عنه ضد أعدائه، أو مقاومة الهيمنة والغطرسة الغربية.
أراد الغرب في إعادة صوغ صورة الإسلام أن يحول المسلمين إلى خصوم وأعداء، ويبرّر من خلال ذلك سياسات الهيمنة والإلحاق، وقد تحولوا إلى خصوم وأعداء بالفعل، أو هم في طريقهم لاعتبار العداء للغرب جزءاً من إيمانهم واعتقادهم الديني والقومي معاً. وبهذا، يمكن القول إن الغرب ربح رهانه، وفرض على الشرق أن يلعب الدور الذي أراد له أن يلعبه في عالم الحداثة التكنومعلوماتية، وأن يحوله إلى مصدر التهديد الرئيسي للحضارة. ولم يعد هناك اليوم كثير من المجتمعات الإسلامية التي تحظى بدرجة مقبولة من الاستقرار والتماسك والاندماج في حضارة عصرها. وأكثرها تعرّض لعمليات تفكيك، وتدمير سياسي وثقافي، وبعضها عمراني واسعة النطاق أيضا.
ومن دون أن يمتلك مشروعها، ولا أدواتها، حل العالم الإسلامي-العربي محل الشيوعية، في تجسيد عناصر التخريب والعنف والعداء للقيم الإنسانية في الثقافة والمخيلة الغربية المعاصرة، وهو يتحول، أكثر فأكثر، إلى بؤرة منتجة لجميع المخاطر والتهديدات، سواء ما تعلق منها بانتشار العنف والإرهاب أو بتهديد الاستقرار الإقليمي والدولي وانتشار النزاعات التي تتحمل تداعياتها الخطيرة الدول والمجتمعات الأخرى القريبة والبعيدة. وتشكل، اليوم، مسائل الهجرات الجماعية والعمليات الإرهابية محور السياسة الغربية والأرضية الجديدة، لإعادة بناء التحالفات الدولية، وربما لإعادة تغيير الخريطة الجيوسياسية في المنطقة الشرق أوسطية.
“يلعب اليوم الاعتقاد بأن أصل العنف في مجتمعات المسلمين هو رفضهم قيم الحداثة دوراً أكبر في التخلي عن المسؤولية تجاه ما تعيشه هذه المجتمعات”
وفي سياق تركيز وسائل الإعلام على مظاهر “انحطاط” الإسلام والمسلمين وعجز ثقافاتهم عن مجاراة الإنجازات الإنسانية في كل مجال، وعلى تناقض نزعاتهم العنفية مع قيم التعاون والتعايش والسلام، وفساد حكامهم ونظمهم، وتخبط مفكريهم ونخبهم، وابتذال سياساتهم الداخلية والخارجية، تنتشر مشاعر الكراهية والعنصرية والأعمال الانتقامية ضد أبناء الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، وتزداد الضغوط على الحكومات، لتطبيق إجراءات خاصة لتقييد حركة أبناء الجاليات والمجتمعات الإسلامية، ولوضعها تحت رحمة تدخلات متزايدة، عسكرية وسياسية واستخباراتية غربية.
لعب تصوير الإسلام نقيضاً للحداثة دوراً كبيراً في تبرير سياسات الإخضاع والوصاية والتفكيك والتقسيم لعالم الإسلام، وتقويض أركانه في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويلعب اليوم الاعتقاد بأن أصل العنف في مجتمعات المسلمين هو رفضهم قيم الحداثة دوراً أكبر في التخلي عن المسؤولية تجاه ما تعيشه هذه المجتمعات، والتنكر لالتزاماتها الدولية، تجاه ما تعرفه من انتهاكات خطيرة لحقوقهم الإنسانية، وحرمان المسلمين من التعاطف والتضامن الدوليين أمام ما يتعرّضون له من مجازر مهولة، لا تكاد تثير أي احتجاج يذكر، أو عاطفة إنسانية، أو محاسبة قضائية وتحقيق للعدالة. ولعل المأساة السورية المستمرة منذ ما يقارب خمس سنوات تقدم أكبر دليلٍ على جفاف ينابيع التضامن الإنسانية تجاه هذه المعاناة، والقبول بتعطيل قواعد العمل والأعراف والمواثيق الدولية.
لا ينبغي لنا أن نسلم بذلك، ولا نستسلم لمثل هذا المصير. ولا يشكل حلاً إدانة الغرب، وإنما لا بد من خطة عملية، لكسر هذه المتوالية الجهنمية. فما حصل في الماضي من عزلٍ للمجتمعات العربية والإسلامية نتيجة نظريات فارغة عن تعارض الحداثة والإسلام وعدم قدرة المسلمين على مواكبة التحولات الجارية، يكاد يتحول، اليوم، في مواجهة تنامي موجتي الإرهاب والهجرة إلى محور أجندة رئيسية في السياسة الدولية، تهدف إلى تقديم كل ما يضمن ضبط المجتمعات الإسلامية، وإخضاعها بجميع الوسائل، ومن ضمنها دعم النظم الاستبدادية، وتجديد عصر الوصايات والحمايات الأجنبية ونزع غطاء السيادة والشرعية الدولية عنها. وفي النتيجة، زيادة عزلها وحصارها وتهميشها، وأعني بالمتوالية الجهنمية تعاضد العزل والإرهاب وتغذية واحدهما الآخر. فخوف الغرب من المسلمين يشجع على تعزيز سياسات العزل والتهميش، وبمقدار ما تُحرم هذه السياسات المجتمعات الإسلامية-العربية من فرص التقدم والاندماج في الحضارة، تفاقم من جاذبية التطرف والعنف، وتهدد وجود القيم المدنية.
وحرّي بالدول الكبرى التي حمّلت سياسات نوري المالكي الإقصائية مسؤولية تنامي الإرهاب ألا تحذو حذوه تجاه عالم الإسلام العربي، وأن تلتزم بخيار الدمج والمشاركة للمسلمين في الحياة الدولية، بدل عزلهم عنها. ولن تكون تكاليف سياسة الإدماج والمشاركة والتنمية في هذه البلدان أعلى من تكاليف استبعادها من دائرة التقدم والمدنية، وتحييد مئات الملايين من المسلمين، وشل إرادتهم، أو ضبط حركتهم وملاحقة متطرفيهم. باختصار، لا ينبغي لسياسة المالكي الكارثية، والتي كانت السبب الرئيسي في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وتوسع انتشارها في العراق وسورية، أن تتحول إلى سياسة عالمية تجاه الشعوب والمجتمعات الإسلامية المأزومة.
هذه لعبة خطرة بالنسبة للعالم أجمع. ففرض الحظر أو ما يشبه الحظر على عالم عربي زعزعت استقراره التدخلات الأجنبية المديدة، وعمق تصدعاته الدعم اللامشروط للنظم الاستبدادية، وغض النظر عن كل أساليب العنف والتنكيل والقهر السياسية، وبالتالي، جعل الحياة الطبيعية مستحيلة لما يقارب نصف مليار إنسان، لا يعني شيئاً آخر سوى تدشين أكبر مجمع لصناعة التطرف والعنف والإرهاب، وتكريس معظم موارد الحضارة لإدارة الفوضى والتوحش الزاحفة في العالم كله. ولن يكون عالم الحضارة هو الرابح في هذه المواجهة، على الرغم من كل التقدم التقني والعلمي والإنساني، بل بسببهما. فالعالم الحديث أقل قدرة على مقاومة التخريب والتقويض من الداخل من الحضارات الزراعية والصناعية الكلاسيكية. وتكاد هشاشته تكون موازيةً لقوته وإنجازاته.
“تبنى قسم منا ما يقوله الغرب تماماً عن الإسلام، باعتباره السبب الرئيسي في تخلف المسلمين، ومنبع مشكلاتهم وإخفاقاتهم، وأنه لا يمكن الجمع بين الحداثة والإسلام”
مع ذلك، هذا هو الطريق الذي يبدو أن الغرب وروسيا، والمجتمع الدولي عموماً، يريدون أن يسلكوه في الشرق الأوسط. وما نشهده من انتشار الفوضى والعنف، في أكثر من بلد فيه، هو الثمرة الحتمية لإجهاض ثورات الربيع العربي، وتبني خيار دحر الشعوب وتطويعها وفرض الإذعان عليها، بدل التفاعل مع تطلعاتها الإنسانية والأخلاقية، والاستجابة لتوقها إلى حياة الكرامة والحرية. وهذا ما يهدف إليه، أيضاً، التحالف الغربي الروسي، اليوم، في سورية من إنقاذ نظام الديكتاتورية الدموي، والإبقاء على رمزه وآلة قمعه الرهيبة، ومن ثم القضاء على ثورة الشعب، وفرض الوصاية عليه، وتجريده من سيادته وحقوقه الطبيعية، دفاعاً عن مصالح استراتيجية لا شرعية، وخوفاً من التطرف، أو بذريعة محاربة الإرهاب الذي ولدته سياسات العزل والتهميش اللاإنسانية.
نحن، اليوم، من جديد على مفترق طرق رئيسي، كما كنا في السبعينيات، عندما رفضت الدول الصناعية إنقاذ مشاريع التنمية في القارات الثلاث، ووضعت بذور التمرد والانتفاضات والثورات التي نعيشها اليوم. فإما أن يعاد النظر بسياسات التهميش والعزل التي يهم العالم المتحضر بتطبيقها على المجتمعات المتصدعة، بسبب خسارتها رهانها التنموي، أو أنه سيجد نفسه، بعد عقد أو عقدين، أمام مشكلات مستعصية على أي إدارة أو حل. في عصر التواصل الشامل الذي أصبح عصرنا، ليس هناك خيار آخر: فإما أن يتسع عالم المدنية والحضارة للجميع، ويجاري مبادئ المساواة والعدل، أو أن يتحول الإرهاب إلى سياسة عولمية، تتغذى من إحباطات الشعوب المتفاقمة وإخفاقاتها، بما يعنيه ذلك من عودة البشرية من جديد إلى حقبة من الاقتتال والعنف والفوضى الشاملة، أي إلى البربرية.
لكن، علينا نحن، أيضا، لقطع الطريق على عودة البربرية أن ننجح في إحباط النبوءة الغربية والتحرر منها. فالواقع أن جزءاً كبيراً من المسلمين قد سقط في أحابيل الصورة النمطية التي سوقها الغرب خلال قرنين، لجعل الإسلام غريباً عنه، وخصما له. فتبنى قسم منا ما يقوله الغرب تماماً عن الإسلام، باعتباره السبب الرئيسي في تخلف المسلمين، ومنبع مشكلاتهم وإخفاقاتهم، وأنه لا يمكن الجمع بين الحداثة والإسلام، وتبنى قسم آخر مواقف العنف والعدوانية والممارسات القاسية والهمجية التي نسبت إلى الإسلام، باعتبارها جزءاً من الموارد التي لا تستقيم من دونها استعادة الهوية الدينية والقومية. وكما أصبح رفض الحداثة وقيمها الإلحادية شرطاً لتحقيق الهوية الإسلامية عند بعضهم، بما تعنيه من استعادة النماذج وأساليب التفكير والعمل التي ميزت الحقبة الإسلامية الأولى، كما لو كانت جزءاً من الدين نفسه، أصبحت محاصرة الإسلام وتجفيف منابع الإيمان والضغط على أتباعه، أو تقييد حرياتهم، شرط الاندراج في الحداثة والانتماء إلى العالم المعاصر عند البعض الآخر. وفي الوسط، يتخبط جمهور المسلمين، ويتمزق بين قوتين ومذهبين، يحرمانه أولهما من إنجازات الحضارة، والثاني من التراث. والنتيجة غياب حكم الشرع والقانون معاً، وامتناع السلام والأمن وانحلال عرى الوطنية والجماعة الأهلية الدينية معاً، وسيادة العنف والقوة قاعدة وحيدة لتنظيم العلاقات.
لن نستطيع أن ندفع الغرب إلى تبني سياسة إيجابية تجاه مجتمعاتنا، وإقناعه بخطأ التسليم لخيارات العزل والتهميش والقمع، ما لم ننجح نحن، أولاً، في تجاوز انقساماتنا، وإنقاذ مجتمعاتنا من الضياع والتخبط، ومصالحتها مع نفسها، أي ما لم ننجح نحن، أيضاً، في حمل مسؤوليتنا، وفي إعادة ترميم حياتنا المدنية والفكرية وأخلاقنا.