استعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب خلال الحرب الباردة على مدى نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية، لمواجهة الخصم الاستراتيجي والعقائدي الاتحاد السوفييتي وحلفائه من أوروبا إلى شرق آسيا ومن الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية. في صراع مفتوح بلا سقف بين القطبين العالميين أمريكا وحلفائها في أوروبا الغربية والديمقراطيات وذراعهم العسكري حلف شمال الأطلسي ـ الناتو ـ في حروب باردة وبالوكالة واستنزاف واحتواء للاتحاد السوفييتي وحلفائه وذراعهم العسكري حلف وارسو.
ومع انهيار وإفلاس وتفكك الاتحاد السوفييتي لخمس عشرة جمهورية أبرزها أوكرانيا، تسيدت الولايات المتحدة النظام العالمي بأحادية قطبية مطلقة منذ عام 1992. لتُصدم أمريكا في سبتمبر/أيلول 2001 باعتداءات تنظيم القاعدة على رمز قوة أمريكا العسكرية بضرب طائرة مختطفة من مقاتلي تنظيم القاعدة مبنى وزارة الدفاع ـ البنتاغون خارج العاصمة واشنطن ـ وطائرتين مختطفتين مبنى التجارة العالمي رمز قوة أمريكا الناعمة والمالية والاقتصادية، وأكبر بورصة وسوق أسهم في العالم في نيويورك. ومقتل 3000 أمريكي في عقر دارها من التنظيم وليس الاتحاد السوفييتي، ما دفع الرئيس بوش الابن بتحريض «المحافظين الجدد» وجماعة «القرن الأمريكي الجديد» لشن حروب استباقية غير شرعية على أفغانستان عام 2001 لتصبح الحرب الأطول في تاريخ حروب أمريكا دامت عشرين عاماً. وانتهت بهزيمة وانسحاب فوضوي ومرتبك وسيطرة حركة طالبان على كامل أفغانستان.
تبعت أمريكا حرب أفغانستان بشن حرب ثانية ومدمرة بعد عامين على العراق، وتحتلها عام 2003، أول دولة عربية تحتلها أمريكا عسكرياً لثمانية أعوام: عكست مزيجا للغطرسة والجهل والحسابات الخاطئة، كلفتها مكانتها وسمعتها وهيبتها بسوء التخطيط والتقدير والتخبط وحل الجيش وفضيحة أبو غريب.
لتعود أمريكا في عهد الرئيس أوباما، بسبب حساباتها الخاطئة في العراق التي أنتجت تنظيم داعش، لقيادة تحالف دولي من 70 دولة عام 2014، ليقاتل تنظيم الدولة الإسلامية داعش في العراق وسوريا، رغم تفاخره بأنه رئيس أنتخب لإنهاء الحروب وليس لإطلاقها!
تابعت وقرأت عدة ندوات لمراكز فكر ودراسات استراتيجية أمريكية ومقالات رأي في الصحف الرئيسية تقيم بشكل قاس وناقد حصاد 20 عاماً من حرب العراق المر.
الأخطر هو ما تسببت به الحرب من خلل في توازن القوى وصعود نفوذ وتدخلات إيران في منطقة الخليج العربي، وتطوير برنامجها النووي الذي اقترب من الاكتمال
أجمعت وانتقدت الدراسات والمقالات كارثية حرب بوش على العراق وقبلها على أفغانستان. وبوصف حرب العراق «حرب اختيار وليس حرب ضرورة» مبنية على مبررات واهية بامتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل وعلاقته مع تنظيم القاعدة واحتمال تزويد تنظيم القاعدة بأسلحة الدمار الشامل الكيميائي والبيولوجية. وأظهرت استطلاعات الرأي حينها دعم أغلبية الأمريكيين شن حرب بتفويض الكونغرس للرئيس ضد العراق ما يعكس سوء الفهم والتقييم. وحتى تحميل العراق مسؤولية اعتداءات 11 سبتمبر 2001.
شرحت مبدأ الرئيس بوش الابن في كتابي «تطور مبادئ رؤساء الولايات المتحدة» ـ بتدشين حروب استباقية ـ غير شرعية ـ تتويجاً للحسابات الخاطئة وسوء تقدير للمواقف والتخطيط والتنفيذ. وبنتائج كارثية غير متوقعة، سواء بالكلفة البشرية للمواطنين العراقيين والأفغان وللقوات الأمريكية والمتعاقدين المدنيين معها. تشير الاحصاءات لمقتل في حربي أفغانستان والعراق حوالي نصف مليون مدني و10.000 جندي أمريكي ومعهم متعاقدون ومرتزقة بلاك ووتر، وجرح 70 ألف عسكري أمريكي، وخسائر مالية فادحة تجاوزت 4 تريليونات دولار كما يتحسر ترامب!
لكن النتيجة الأخطر استراتيجياً، كانت زعزعة توازن قوى النظام الأمني الخليجي والعربي من أفغانستان إلى الخليج والشرق الأوسط لمصلحة إيران والفوضى، بإسقاط أمريكا بالقوة العسكرية والاحتلال خصمي إيران اللدودين، نظام صدام حسين غرباً المحاصر والمعزول منذ فرض عقوبات غير مسبوقة بعد هزيمة قواته المحتلة الكويت، ونظام طالبان شرقاً. ونجاح إيران الخصم الأقوى لأمريكا وحلفائها بمشروعها التوسعي والطائفي! وتفاخرها بتحكمها وسيطرتها على أربع عواصم عربية: بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء! وبرنامجها النووي بمفاوضات سرية في مسقط وفيينا ـ لتعزز مكانتها ودورها ومشروعها. وبذلك اكتمل ما حذر منه الملك عبدالله قبل أكثر من عقد من الزمن «الهلال الشيعي» الذي يتحول إلى بدر كامل. شهدنا إرهاصاته بنفوذ وتحكم إيران بمفاصل النظام في العراق عبر الحشد الشعبي، وبدعم نظام الأسد وإرسال الميليشيات الشيعية العقائدية زينبيون وفاطميون على يد الحرس الثوري في سوريا. وهيمنة حزب الله على مفاصل الدولة في لبنان ليرسل مقاتليه للقتال في سوريا مع النظام وإلى العراق واليمن! وانقلاب الحوثيين في اليمن. وخلايا إيران الإرهابية والنائمة في دول مجلس التعاون-وأخطرها وأكبرها اكتشفت وحوكمت في الكويت!
واليوم تحصد أمريكا وحلفاؤها في المنطقة نتائج حربها الكارثية على العراق. فتدعي أمريكا أن العراق يشكل رأس حربة لمشروع إيران وتمويلها بالعملة الصعبة عن طريق الزوار الإيرانيين للمراقد المقدسة في النجف وكربلاء، وتبييض الأموال للتغلب على العقوبات الأمريكية. كما يعتمد العراق برغم كونه دولة غنية بالغاز الطبيعي، على الغاز الإيراني لتوليد الطاقة. كذلك تستغل إيران العراق لتهريب النفط الإيراني وإعادة تصديره على أنه نفط عراقي!
كما تسببت حروب بوش الابن الاستباقية بانقسامات طائفية وعرقية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبظهور ما يُعرف بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) ـ وحتى يلقي البعض اللوم على حروب بوش وأوباما على نتائج ما عُرف بثورات الربيع العربي بالشكل التي ظهرت به… ولكن الأخطر هو ما تسببت به الحرب من خلل في توازن القوى وصعود نفوذ وتدخلات إيران في منطقة الخليج العربي، وتطوير برنامجها النووي الذي اقترب من الاكتمال، وبرنامجها الصاروخي والمسيرات التي تصدرها لروسيا في حربها على أوكرانيا وحتى بيعها للصين واستخدامها في سوريا ضد القوات الأمريكية!
وساهمت الحرب بمطالبات بإنهاء «حروب أمريكا الدائمة» والقلق الخليجي الجماعي من انكفاء وتراجع الثقة في أمريكا، بسبب حروب أمريكا بلا أفق وانتصارات وانسحابات فوضوية، واستدارة أمريكا شرقاً لمواجهة تحدي الصين ومغامرات روسيا!
القدس العربي