قد تشير الوثيقة التي تم تسريبها مؤخراً -إذا كانت حقيقية- إلى وجود شك داخلي كبير تجاه تعامل النظام الإيراني مع الأزمة المحلية الحالية، وربما حتى القيام بحملة ضغط من أجل إجراء إصلاحات محدودة.
* * *
في الأسبوع قبل الماضي، ادعت الوسيلتان الإعلاميتان “إيران إنترناشيونال” و”إيران واير” أنهما تلقتا وثيقة لافتة تضم أربعًا وأربعين صفحة توضح بالتفصيل مشاعر الإحباط والانتقادات التي تتردد في الصفوف العليا للقيادة العسكرية في الجمهورية الإسلامية. ووفقاً لتقريرَيْهما، تضم الوثيقة ملاحظات من اجتماع عُقد في 3 كانون الثاني (يناير) بين قادة في “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني والمرشد الأعلى علي خامنئي، وهي ملاحظات فردية مفصلة أدلى بها خمسة وأربعون مسؤولاً، هم: ستة رجال دين، وثلاثة ألوية في الجيش، وثلاثة وعشرون عميداً، وخمس سردارات (مصطلح عام يطلق على الجنرالات من جميع الفئات)، وثمانية عقداء. وفي النهاية، تم تقديم تقرير عن ملاحظات خامنئي التي دامت أربعين دقيقة.
وإذا كانت الوثيقة أصلية، فإنها تقدم صورة سلبية عن استقرار النظام وحالة “الحرس الثوري” الإيراني أكثر بكثير من تلك التي تعكسها عادةً التعليقات السائدة داخل إيران أو خارجها. ويركز هذا المرصد السياسي -الذي هو الأول في سلسلة متعددة الأجزاء- على مصدر الوثيقة وتداعياتها على السياسة العامة.
وهمية أم حقيقية؟
يجب توخي الحذر عند تقييم الوثيقة، بالنظر إلى وجود حجج مقنعة تؤيد صحتها أو تدحضها. ويمكن تلفيق مثل هذا المنتج بسهولة هذه الأيام، وقد تثير خلفية المنظمتين اللتين نشرتاه تساؤلات حول مصداقيته أيضاً. ومن المفترض أن يكون هذا هو السبب وراء عدم تغطية الوثيقة بشكل كبير من قبل المؤسسات الإعلامية الأخرى -في الواقع، لا يبدو أن أي صحيفة غربية كبرى التقطت الخبر.
كما تجاهلت وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع التقرير القصير الأول عن اجتماع 3 كانون الثاني (يناير)، الذي نشره المحامي والناشط الحقوقي المقيم في بريطانيا، كاوه موسوي، على “تويتر” في اليوم الذي أعقب عقد الاجتماع، كما لفت التقرير القليل من الاهتمام من المحللين. ثم جاءت قصص “إيران إنترناشيونال” و”إيران واير”، إضافة إلى الوثيقة الكاملة. وتُعد كل من هاتين الوسيلتين الإعلاميتين ناقدة بلا هوادة للنظام الإيراني -لدرجة أن طهران جعلت التخفيف من تغطية وسيلة الإعلام الأولى مطلباً مركزياً في مفاوضات التطبيع الأخيرة مع المملكة العربية السعودية (يقع مقر “إيران إنترناشيونال” في لندن، لكنها تتلقى التمويل من أفراد سعوديين). وبسبب هذه السمعة جزئياً، تتلقى “إيران إنترناشيونال” بطبيعة الحال عدداً كبيراً من الأخبار التي يُزعم أنها تسريبات لمعلومات حساسة.
تأسست “إيران واير” في العام 2013، بجهود الصحفي الإيراني الكندي الحائز على جوائز “مازيار بهاري” بعد إطلاق سراحه من “سجن إيفين”. وتعمل هذه الوسيلة الإعلامية مع الكثير من الصحفيين الإيرانيين البارزين ولديها أخبار باللغة الفارسية أكثر بكثير من الإنجليزية. وتصف وسيلة الإعلام نفسها بأنها “تركز بقوة على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في إيران” بينما تتجنب إلى حد كبير “القضايا الكلية، مثل البرنامج النووي، التي تغطيها المؤسسات الإعلامية الكبرى بكثرة”. كما أن لديها شراكة مستمرة مع موقع الأخبار الأميركي “ديلي بيست”.
وعلى الرغم من علامات الاستفهام حول مصدر الوثيقة، يبدو أن النظام لم يعلن عن أي تنصل رسمي من التسريب المزعوم -وهو تناقض صارخ مع ممارسته المعتادة المتمثلة في التنديد بقوة بالتقارير غير المواتية، حتى تلك التي تكاد تكون دقيقة بشكل شبه مؤكد. وهناك أيضاً سبب قوي للاعتقاد بأن اجتماع 3 كانون الثاني (يناير) قد حدث، حيث ظهرت تقارير كثيرة عن اجتماع قادة “الحرس الثوري” الإيراني مع خامنئي خلال ذلك الأسبوع لإحياء ذكرى مقتل جنرال “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري”، قاسم سليماني.
انشقاقات وضعف الروح المعنوية داخل “الحرس الثوري”؟
على غرار أي منظمة تضم نحو 600.000 شخص (بمن فيهم المنتسبون مثل أفراد ميليشيا “الباسيج”)، لا شك في أن “الحرس الثوري” يتّبع سياسات داخلية معقدة يختلف فيها كبار المسؤولين في الرأي (حتى بمرارة)، وتُعبّر في إطارها العناصر الممتعضة عن عدم احترامها لرؤسائها. وتبدو هذه السمات مرجحة بشكل خاص في جماعة تضم الكثير من المكونات المختلفة مثل “الحرس الثوري”، الذي لديه فروع منفصلة وكبيرة وقوية مخصصة لأداء مهام متنوعة، مثل تطوير الطائرات من دون طيار والصواريخ، ودعم الإرهابيين الأجانب وحركات التمرد، والمشاركة في العمليات الجوية والبحرية، وإدارة الأعمال المربحة، ومطاردة العملاء الأجانب داخل إيران، وتنظيم القمع الجماعي للمواطنين. وبهذا المعنى، فإن التباين الكبير في وجهات النظر التي تم الإعراب عنها في الوثيقة المكونة من أربع وأربعين صفحة لا ينبغي أن تكون مفاجأة.
ومع ذلك، من المدهش الاطلاع على مدى اتساع هذه الاختلافات وشدة التشبث بها. على سبيل المثال، يدافع بعض المتحدثين الذين تم إيجاز ملاحظاتهم كما يُزعم في الوثيقة، وبشدة عن مجتبى، نجل خامنئي، بسبب تدخلاته الأخيرة في شؤون “الحرس الثوري” الإيراني، بينما ينتقده آخرون بشدة أيضًا. وتأتي الانتقادات في الغالب من الضباط المسؤولين عن المحافظات؛ بينما يأتي معظم الدعم من أولئك المتواجدين في طهران.
كما تشير الوثيقة إلى ضعف المعنويات العسكرية. ونُقل عن عبد الله حاجي صادقي، ممثل خامنئي في “الحرس الثوري”، قوله: “بناءً على تقاريرنا، يبدو أن قوات الحرس الثوري ليست في الوضع نفسه الذي كانت عليه في العام الماضي، لا سيما فيما يتعلق بمعنوياتها، حيث إنها شهدت تراجعاً”. وأفاد محمود محمدي شهرودي، قائد طلاب الحوزة في “الباسيج”، كما زُعم، بأن “حوالي 5.000 عضو قد غادروا” في الأشهر الأخيرة، مضيفاً: “أعتقد أن القضايا الأخيرة المتعلقة بالتخلي عن الزي الديني، وكذلك المعتقدات المتضاربة بين الطلاب ورجال الدين في الشهرين الماضيين، ربما كانت مفاجئة”. وذكر محسن كريمي، قائد “لواء روح الله” التابع للحرس الثوري الإيراني المتمركز بالقرب من طهران، أن بعض الجنود قد اعتُقلوا بعد تنظيمهم احتجاجات. كما وصَف الوضع على أرض الواقع حول مدينة أراك جنوب غربي العاصمة، مشيراً إلى تراجع الإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية بمقدار النصف. وأشار حسن حسن زاده، قائد “فيلق محمد رسول الله” التابع لـ”الحرس الثوري” في طهران الكبرى، إلى أنه تبين أن بعض الجنود تعاطفوا مع الناس في الشارع أثناء الاحتجاجات بدلاً من تنفيذ الأوامر. وصرح إحسان خورشيدي، نائب قائد “الحرس الثوري” في محافظة البرز: “لقد شهدنا مؤخراً حالات عرقلة للعمل ومساعدة للمدنيين قدمتها القوات المسلحة للمدنيين”. كما وصف جنودًا يسرقون من مستودع لتوزيع البضائع على المدنيين.
عدم وجود صوت واضح يحظى باحترام عالمي
يتمثل أحد أبرز جوانب التعليقات الواردة في الوثيقة المسربة في قلة الاحترام والدعم الذي تظهره (الصفوف العليا للقيادة العسكرية) تجاه النظام وقيادة “الحرس الثوري”. فقد انتقد الكثير من المتحدثين الرئيس إبراهيم رئيسي وفريقه على خلفية عدم الكفاءة وسوء الإدارة، لكن انتقاد الحكومات المنتخبة ليس بالأمر المعتاد بين مسؤولي النظام والعسكريين. والمثير للدهشة هو أن قلة منهم أدلوا بتصريحات صريحة تدعم الاتجاه العام للثورة أو قيادة خامنئي.
من المؤكد أن بعض المسؤولين من أصحاب هذه التعليقات كانوا يدافعون عن المرشد الأعلى. على سبيل المثال، يُزعم أن المستشار العسكري لـ”فيلق القدس” في العراق، عواز شهابيفر، يشكو مما يلي: “تُظهر هذه المحادثات أنكم تعترضون على القيادة. كان من المفترض أن نقف إلى جانب الزعيم في الأوقات الصعبة”. لكن قلَّة يلاحظون هذا الموضوع، ولا إشارة في الوثيقة إلى أن المتحدثين صاغوا انتقاداتهم الصريحة في سياق الدعم العام للقيادة أو أيديولوجية الثورة.
بطبيعة الحال، قد ينتج ذلك من كيفية الإبلاغ عن الملاحظات. ربما وجد المقرر أن مثل هذه التصريحات غير استثنائية لدرجة أنه لم يقم بإدراجها. ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا هو الحال، بحيث لا توجد شخصية في النظام ما تزال تتمتع بالمستوى نفسه من الاحترام والولاء المطلق الذي شوهد في الماضي.
التداعيات السياسية
حتى إذا ثبت أن الوثيقة المسربة حقيقية، فإنها تظل مجرد وصف للاجتماع وليست نسخة حرفية كاملة عما جرى فيه، وبالتالي ربما تعكس ما أراد المقرر أو المسرب إظهاره بقدر ما تم التعبير عنه أساساً. ومع ذلك، تجدر الإشارة مجدداً إلى أن النظام لم يسارع إلى الإصرار على أن جميع قادة “الحرس الثوري” يتشاركون الآراء الإيجابية ذاتها، أو أن التقارير عن الانقسامات الداخلية وهمية أو مبالغ فيها. ويشير ذلك إلى أن بعض رموز النظام على الأقل على استعداد للتعايش مع التقارير التي تفيد بأن الأصوات القوية داخل النظام تطالب بتغيير جوهري، أو حتى أنها أرادت الإعلان عن هذه التقارير.
تتمثل الخلاصة الرئيسية من الوثيقة في أن على صانعي السياسات والمحللين الأجانب أن يكونوا حذرين بشأن أي تقييمات تقول إن سيطرة الجمهورية الإسلامية على المجتمع الإيراني محكمة، أو أن قادة “الحرس الثوري” الإيراني مستعدون للقيام بكل ما يلزم وقادرون وراغبون على القيام بذلك، لإبقاء النظام في السلطة بينما يستمر النظام في تجنب تقديم التنازلات الكبرى للرأي العام. ربما تكون الأصوات الداخلية المؤيدة للإصلاح التي تمنح المواطنين المزيد من الحرية (حتى وإن لم يكن لها صوت أكبر في قرارات الحكومة) أقوى مما يُعتقد. والقاعدة العامة للأنظمة الاستبدادية هي أنها تبدو وكأنه لا يمكن تحدّيها -إلى أن يتغير الوضع فجأة ويبدو أنها لا تستطيع الاستمرار (في سياستها). وتشير الوثيقة التي يُزعم أنها مسربة إلى أنه لا يمكن معرفة ترتيب الجمهورية الإسلامية على هذا المقياس بشكل مؤكد.
الغد