ثمة ثابتان في المشهد الإسرائيلي – الفلسطيني، الأول أن الصراع على المقدسات انطلاقاً من القدس والمسجد الأقصى والأماكن المسيحية قديم ومتجذر ويعود في تاريخه الحديث لبدايات الغزوة الاستيطانية لفلسطين، والثاني أن استمرار سياسات الحكومات الإسرائيلية في التمسك بتوسيع الاستيطان وقضم الأراضي الفلسطينية سيبقي فتيل الصدام مشتعلاً، فما من شعب في التاريخ قبل بالاستيلاء على أرضه أو بدوس كرامته.
كانت ثورة البراق في أغسطس (آب) 1929 فاتحة الصراع الأبدي على المسجد الأقصى الذي نشهده سنوياً. حينها وفي ظل الانتداب البريطاني اندفع مئات المستوطنين اليهود في تظاهرات بالقرب من المسجد مدعين أن الحائط يعود لهم، فتصدى لهم الفلسطينيون وتفجرت الثورة الشهيرة التي ستؤدي إلى مقتل 133 يهودياً و116 عربياً مسلماً وإلى إقرار عصبة الأمم العودة لما كان سائداً في زمن الحكم العثماني، الحائط للعرب المسلمين ولليهود حق الوصول إليه للصلاة والتضرع.
ليس في المشهد اليوم من جديد سوى اختلاف الظروف، فقد قامت دولة إسرائيل عام 1948 وتوسعت لتشمل القدس و”الأقصى” في 1967 وبات الصراع على “الأقصى” جزءاً رمزياً مهماً من صراع أشمل يتعلق بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته المستقلة في مواجهة دولة تؤجج الصراع والصدام في كل لحظة.
تفاقم الصراع مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بقيادة بنيامين نتنياهو ليس لأن الحكومة أكثر يمينية وتطرفاً من سواها، فالسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لم تتغير، بل لأنها ضمت رموزاً من نوع بن غفير وبتسلئيل (ظل الله في الترجمة العربية) سموتريتش، كان حضورهما وحده كافياً لصب الزيت على النار المشتعلة.
جعلت هذه الحكومة من الأرض الفلسطينية ساحة مفتوحة للصدامات اليومية وقسمت المجتمع اليهودي نفسه إلى جماعتين متناحرتين، بين من يستعجل تكبيل القضاء خدمة للحاكم، ومن يرفض فيتظاهر دورياً في تجمعات شعبية لم تشهد إسرائيل مثيلاً لها في اتساعها وشمولها أوساطاً عسكرية وإدارية تشكل عصب المؤسسة الحاكمة.
اكتشفت الإدارة الأميركية، الحليف الأول لإسرائيل، مبكراً خطورة نهج حكومة نتنياهو الجديدة فسعت إلى ضبط سلوكها على مستويات ثلاثة، الأول المستوى الفلسطيني والثاني الإسرائيلي الداخلي والثالث المستوى الإقليمي.
في هذا الإطار جاءت زيارات المسؤولين الأميركيين المتلاحقة إلى إسرائيل والاتصال “الحاد” بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو. وحرص الأميركيون على التهدئة عشية شهر رمضان وعلى لجم التهديد بتوجيه ضربة إلى إيران على خلفية مشروعها النووي، وكانوا حاسمين في رفضهم سعي نتنياهو إلى تعديل مهمات القضاء وإثارة الشقاق الداخلي الكبير.
تراجع نتنياهو في الشق القضائي وصمت في الموضوع الإيراني النووي، لكن نهج حكومته الفلسطيني لم يتغير.
أطلقت العدوانية الإسرائيلية ردوداً طبيعية من جانب الفلسطينيين ولا ينتظر أن تتوقف هذه الردود، لكنها سمحت في المقابل لتجار المناسبات والقضايا بالخوض في المأساة سعياً إلى تغطية أو تعويض ومحاولة لكسب موقع في صراع مفتوح.
دخلت إيران بشكل مفضوح على خط المواجهة المفتوحة في فلسطين منذ أعوام، لكنها هذه المرة زادت منسوب استغلالها لقضية المسجد الأقصى إلى حد التلاعب باستقرار بلد آخر هو لبنان. فسعت إيران الخميني ثم الخامنئي دائماً إلى جعل القدس وفلسطين عنواناً تبريرياً لسياستها الإقليمية التوسعية وبعد “الانضباط” الذي يفرضه عليها اتفاق بكين، لا يعود أمامها إلا رفع شعار القدس كحصان أساس لسياستها الخارجية، لكن هذا ليس الدافع الوحيد. فلتغطية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية يحتاج النظام الإيراني إلى وسيلة إلهاء خارجية وتوفر القدس برمزيتها الدينية هذه الوسيلة. وإزاء العجز عن الرد على الضربات الإسرائيلية المتلاحقة لمواقع الحرس الثوري الإيراني في سوريا، يحتاج النظام إلى رد لا يمكنه تحقيقه في سوريا أو في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، فأصبحت الطريقة الأسهل هي اللجوء إلى الأذرع المتاحة التي جرى تمويلها وتدريبها استعداداً لهذه اللحظة.
كانت الصواريخ التي أطلقت من جنوب لبنان ضد إسرائيل إيرانية بكل المقاييس، لا فرق أن تكون حركة “حماس” أو “حزب الله” هو من أطلقها. وفي لحظات كاد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المديد حول الأرض و”الأقصى” يتحول إلى حرب إسرائيلية على لبنان في تكرار لتجارب تدميرية خائبة دفع لبنان ثمنها ولا يزال، وتكرر من خلالها منظمات فلسطينية ولبنانية سياسات لم تخدم قضية فلسطين بقدر ما أضرت بها وبالقضية وقدمت خدمات مجانية لأنظمة حكم بنت سلطاتها على التجارة بفلسطين.
حسمت إيران مبكراً أن الصواريخ التي أطلقت من جنوب لبنان هي “فلسطينية” وسبقتها إسرائيل في إعفاء “حزب الله” من المسؤولية. إسرائيل وإيران أعفيا الحزب الإلهي، كل لأسبابه التي تلتقي عند جعله عنصراً حاسماً في السياسة الداخلية اللبنانية.
تبرعت إيران بجعل لبنان ساحة من “الساحات الموحدة” التي تستعملها عند الحاجة في مواجهة إسرائيل وأميركا. قالت وكالة “مهر نيوز” الحكومية إن “هذا الرد هو بمثابة رسالة واضحة من المقاومة إلى الداخل الإسرائيلي بأن تماديه في الاعتداء على القدس والمسجد الأقصى لن يمر من دون عقاب”، و”جاءت الصواريخ من جنوب لبنان لتقلب جميع الموازين وتعزز مبدأ وحدة الساحات. وتؤكد ذلك تفاهمات قادة المقاومة الفلسطينية وقادة محور المقاومة في لقاءات عقدت أخيراً”.
مبدأ وحدة الساحات هو شعار إيراني و”محور المقاومة” هو مجموع التنظيمات التي تقودها وتمولها إيران، وقادته إسماعيل هنية زعيم “حماس” المقيم بين قطر وتركيا، وزياد النخالة زعيم “الجهاد الإسلامي” المقيم بين دمشق وطهران، غالباً ما يلتقيان في بيروت زعيم “حزب الله” حسن نصرالله وينسقون سوياً ترجمة السياسات الإيرانية فلسطينياً، وكان لافتاً أن صواريخ الجنوب أطلقت في وقت كان هنية في بيروت.
لن تنتهي جولة الاستغلال الإيراني للقدس وستبقى زاداً لنهجها الإقليمي، خصوصاً بعد التحولات الدولية الجارية، وتوفر إسرائيل لها المادة المناسبة تماماً عبر سياساتها العنصرية والقمعية تجاه شعب فلسطيني هو المعني الأول بالدفاع عن وطنه وإيجاد السبل الكفيلة التي توصله إلى حقوقه، وأول هذه السبل تحقيق الوحدة الوطنية حول الأهداف وإستراتيجية تحقيقها.
لا يعمل “محور المقاومة” على هذا النحو أبداً. فسياسته قامت على تمزيق الوحدة الوطنية الفلسطينية ونسف التراث النضالي الفلسطيني الذي أرساه قادة من أمثال ياسر عرفات وجورج حبش وغيرهما، وعدم الاستفادة من التجارب.
مع محور طهران انقسمت فلسطين وصارت عنواناً مذهبياً دينياً بدلاً من أن تبقى قضية حرية وتحرر وطني وعنواناً إنسانياً عربياً شاملاً.
وفي هذا السبيل لا تترك إيران سبيلاً للاستغلال إلا وسلكته. إنها تستعد الآن ليوم الجمعة المقبل، 23 رمضان، 14 أبريل (نيسان)، كمناسبة تحتفل فيها بـ”يوم القدس”. وربما لا تكون الصواريخ مادة احتفال وحيدة، لكن الأكيد أن نظام خامنئي يندفع بأقصى قوته لتصوير نفسه المقاتل الأول من أجل “الأقصى”.
في المناسبة أعلنت إيران من مقبرة قاسم سليماني “إننا قريبون في هذا العام أكثر من أي وقت مضى من تحرير القدس” وحددت شعاراً لهذا العام سيرفعه أنصار إيران في تظاهراتهم المعتادة “القدس على أعتاب التحرير”.
خامنئي قال قبل أيام إن إسرائيل لن تعيش 25 عاماً. حملة الإعلام والاستغلال ستستمر، ولا شيء يقف في طريق الديماغوجية الإيرانية.
هي تحرض وتستعمل “الساحات العربية”، لكن لا شيء يمنع القائد في “الحرس الثوري” محمد رضا نقدي أن يقول في تشييع الضابط في “الحرس” الذي قتل في سوريا أخيراً ميلاد حيدري، إن “الأكراد الذين حرروا المسجد الأقصى مرة في السابق سيكونون رواد التحرير هذه المرة”.
كان نقدي يتحدث في كردستان إيران، وما من جمرك على كلام القادة الإيرانيين، طالما كان البيع والشراء من دماء الآخرين.
اندبندت عربي