على مدى نحو أسبوع تقريباً، قامت إيران بتحركات دبلوماسية على مستوى الإقليم. فقد استقبلت الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، في 29 أبريل الفائت (2023)، ثم أعلنت عن زيارة سيقوم بها الرئيس إبراهيم رئيسي إلى سوريا في 3 مايو الجاري. وتوازى ذلك مع زيارتين قام بهما وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى سلطنة عمان، في 25 أبريل الفائت، حيث التقى مسئولين عمانيين ورئيس وفد التفاوض الحوثي محمد عبد السلام، ثم إلى لبنان، بعد ذلك بثلاثة أيام، حيث التقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري وأمين عام حزب الله حسن نصر الله، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية زياد النخالة. وخلال اتصال هاتفي مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وجّه للأخير دعوة لزيارة طهران.
من دون شك، فإن تواصل إيران سواء مع مسئولي هذه الدول، أو مع حلفاءها الإقليميين، لا يعبر عن توجه جديد، فدائماً ما تسعى إيران إلى توسيع نطاق التنسيق مع الأخيرين تحديداً، وقد استثمرت لتحقيق ذلك موارد كبيرة خلال العقود الأربعة الماضية. لكن الجديد في الأمر هو أن يكون ذلك كله خلال أقل من أسبوع، بحيث شملت تلك التحركات كل الدول التي تُتَّهم إيران بأنها تسعى إلى تعزيز نفوذها فيها، ولاسيما العراق وسوريا واليمن ولبنان والأراضي الفلسطينية.
ويعني ذلك في المقام الأول، أن هناك ظروفاً جديدة دفعت إيران إلى القيام بمثل هذه التحركات الدبلوماسية المتوازية على أكثر من مستوى وفي أكثر من ملف. ومن دون شك، فإن ذلك في مجمله يعبر عن الجزء المعلن من هذه التحركات، في حين أن هناك قسماً آخر غير معلن، وربما يكون هو الأكثر أهمية، يجرى على مستويات أمنية وسياسية بعيداً عن الأضواء والإعلام.
ارتدادات استئناف العلاقات مع السعودية
بالطبع، فإن أحد أهم التطورات التي فرضت هذه الظروف الجديدة يتعلق باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، عقب توقيع اتفاق بكين في 10 مارس الماضي. وهنا، فإن هذا الاتفاق سوف يفرض بالتبعية تداعيات مباشرة – بمستويات مختلفة – على مجمل هذه الملفات المشار إليها، والتي تحظى باهتمام خاص من جانب الرياض وطهران.
ففي اليمن، تتواصل الجهود التي تبذل من أجل تثبيت وقف إطلاق النار، وربما تطوير ذلك ليصل إلى مرحلة إبرام تسوية سياسية تنهي الأزمة الحالية، خاصة بعد تنفيذ عملية تبادل الأسرى بين المليشيا الحوثية والحكومة الشرعية. ويمكن القول باطمئنان إن هذا الملف تحديداً سوف يكون محور الاختبار الحقيقي لاتفاق بكين.
وفي لبنان، يبدو أن إيران مهتمة في الوقت الحالي بدعم الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية لأزمة الفراغ الرئاسي، وهو الملف الذي يحظى بدوره باهتمام خاص من جانب قوى إقليمية مثل السعودية ودولية على غرار فرنسا.
وفي سوريا، تحاول طهران في الوقت الحالي استثمار الانفتاح العربي على سوريا، والذي انعكس في الزيارات المتبادلة التي قام بها مسئولون سوريون وعرب خلال الفترة الأخيرة، رغم أن هناك اتجاهات في طهران لا تخفي قلقها من تبعات هذا الانفتاح، خاصة على مستوى النفوذ الذي راكمته إيران على مدى الأزمة السورية التي بدأت في مارس 2011.
أما في العراق، فإن هناك ترقباً إقليمياً – ربما لا يقتصر فقط على إيران والسعودية – للتفاعلات التي تجري على الساحة الداخلية، والتي تتجاوز إلى حد كبير حسابات التوازنات السياسية بين القوى المختلفة، بالتوازي أيضاً مع الجهود التي تبذل من أجل مواصلة تطوير العلاقات بين العراق ومحيطه العربي. وقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن هذه التفاعلات تتوازى مع تحركات إقليمية قام بها قادة بعض هذه القوى العراقية، على غرار زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم الذي قام بزيارة الأردن وسوريا والسعودية، في 5 و6 و16 أبريل الفائت، حيث التقى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني والرئيس السوري بشار الأسد وولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
صفقة نووية محتملة
قد لا تنفصل هذه التحركات في مجملها عن الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى صفقة نووية محتملة بين إيران والقوى الدولية، عقب تعثر المفاوضات التي أجريت بين الطرفين على مدى الفترة من أبريل 2021 وأغسطس 2022، والتي توقفت بعد رفض إيران مسودة الاتفاق التي عرضها مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.
فرغم اتساع نطاق الخلافات بين إيران وتلك القوى، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، سواء حول الأنشطة النووية الإيرانية، أو بشأن الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية، أو إزاء الهجمات التي يتعرض لها الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، لا سيما في سوريا، وقبل ذلك السياسة التي تعاملت بها السلطات الإيرانية مع الاحتجاجات التي اندلعت بداية منتصف سبتمبر الماضي والتي اتهمت فيها طهران واشنطن وتل أبيب بالعمل على تأجيجها، رغم كل ذلك، لم يعلن أي من الأطراف المعنية فشل المفاوضات وانهيار الاتفاق النووي الحالي الذي تم الوصول إليه بين إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، ويواجه اختباراً صعباً في المرحلة الحالية بفعل إمعان إيران في تخفيض مستوى التزاماتها فيه رداً على الانسحاب الأمريكي منه في 8 مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
بل إن إيران توجه من الإشارات ما يفيد بأنها ما زالت معنية بالوصول إلى صفقة جديد يمكن أن تؤدي إلى إعادة تفعيل الاتفاق الحالي أو الوصول إلى اتفاق جديد يستوعب قسماً من الخلافات العالقة بين الطرفين. إذ قلّصت حدة التوتر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد الزيارة التي قام بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي إلى طهران يومي 3 و4 مارس الماضي، والتي انتهت بالتوافق على تعزيز عمليات التفتيش داخل المنشآت النووية، واستمرار التباحث حول التساؤلات التي تطرحها الوكالة بشأن العثور على جزيئات يورانيوم في ثلاثة منشآت ولم تتلق بعد إجابات عليها من جانب إيران.
كما أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لسلطنة عمان، في 26 أبريل الفائت، أن الأخيرة “لديها مبادرات جديدة” فيما يخص الاتفاق النووي سوف تسهم في عودة المفاوضات. وتوازى ذلك مع استمرار الحديث حول إمكانية إبرام صفقة تبادل سجناء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترد على هذه “الإشارات الإيجابية” الإيرانية بـ”مرونة موازية”، فإنها على الأقل لم تتبن رد فعل متشدداً إزاء تطور الأنشطة النووية الإيرانية ووصولها إلى مراكمة كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، بل وإعلان الوكالة الدولية الدولية للطاقة الذرية عن العثور على كميات محدودة من اليورانيوم المخصب بنسبة 83.7%.
صحيح أن واشنطن ما زالت تفرض عقوبات على إيران لأسباب مختلفة، وما زالت حريصة على توجيه رسائل بأن “كل الخيارات ما زالت مطروحة”، بما فيها إرسال قطع ومعدات عسكرية نوعية إلى المنطقة، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تبد من الإشارات ما يفيد أنها في عجلة من أمرها للدخول في صدام مع إيران حالياً. ويعني ذلك في المقام الأول أن الطرفين ما زالا حريصين على ترك الباب “مُوارِباً” وتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامهما.
المهم في ذلك كله أن الملف النووي سوف تكون له مفاعيل إقليمية مباشرة على الأرض خلال المرحلة القادمة، أياً كان المسار الذي سوف يتجه إليه. بل يمكن القول إن هذه المسارات سوف يكون لها دور في ضبط حدود التغير المحتمل في السياسة الإيرانية إزاء الملفات الإقليمية المختلفة بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضها اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية.
مواجهة على أكثر من مستوى مع إسرائيل
يرتفع منسوب المواجهة مع إسرائيل تدريجياً. فالطرفان حريصان على توجيه رسائل تهديد مباشرة. ومن هنا، لا يبدو أن اللقاءات التي عقدها عبد اللهيان في بيروت، مع القوى اللبنانية والفلسطينية، والتي قد تتواصل خلال المرحلة القادمة، بعيدة عن تطورات إقليمية عديدة منها استمرار الضربات العسكرية الإسرائيلية للمواقع التابعة لإيران والنظام السوري والمليشيات الموالية لها في سوريا، وكان آخرها الضربة التي استهدفت مستودع ذخيرة وشحنة أسلحة تابعة لحزب الله في ريف حمص، في 29 أبريل الفائت. وقد كان لافتاً أن تلك الضربة جاءت بعد ساعات قليلة من إعلان طهران عن الزيارة التي سيقوم بها الرئيس رئيسي إلى دمشق، بما يعني أن إسرائيل تحاول في الوقت الحالي توجيه رسائل استباقية قبل إجراء الزيارة.
وبالتوازي مع ذلك، فإن الطرفين حريصان أيضاً على تأكيد نجاحهما في الاقتراب من حدود كل منهما. وتعكس زيارة عبد اللهيان إلى بيروت، في قسم منها، هذا التوجه، خاصة بعد التصعيد الذي جرى على الساحة اللبنانية في أبريل الفائت، والذي تخللته تصريحات توحي بأن هذا التصعيد قد يشهد نقلة غير مسبوقة خلال المرحلة القادمة، على غرار التصريح الذي أدلى به مستشار الأمن الوطني الإسرائيلي تساحي هنجبي، في 29 أبريل الفائت، وقال فيه أن “حزب الله اللبناني كان وراء هجوم نادر بقنبلة مزروعة على جانب طريق الشهر الماضي، مما أدى إلى إصابة قائد سيارة في شمال إسرائيل”.
وهنا، فإن إيران تحاول عبر ذلك الرد على نجاح إسرائيل بدورها في الاقتراب من حدودها عبر تطوير علاقاتها مع أذربيجان التي افتتحت سفارتها في تل أبيب في 29 مارس الماضي، حيث قام وزير الخارجية الإسرائيلي ايلي كوهين – الذي لم يخف رغبته في تشكيل جبهة موحدة ضد إيران – بزيارة أذربيجان والالتقاء بالرئيس إلهام علييف، في 20 أبريل الفائت. كما افتتحت إسرائيل، في اليوم نفسه، سفارتها في تركمانستان، وقال كوهين أيضاً بمناسبة ذلك: “أتيت لأفتتح سفارة إسرائيلية على بعد 17 كيلومتراً من الحدود مع إيران”.
على ضوء ذلك، يمكن القول في الأخير إن إيران سوف تواصل تحركاتها في الإقليم، والتي يبدو أنها سوف تتصاعد خلال المرحلة القادمة، التي ربما تشهد استحقاقات إقليمية ودولية لا تبدو هينة، سواء على صعيد البرنامج النووي، أو على مستوى الملفات الإقليمية، كالملف اليمني والسوري واللبناني، أو على مستوى المواجهة بين إيران وإسرائيل.
مركز الاهرام