غيرت حرب أوكرانيا كثيراً من المفاهيم الأمنية، ودفعت الدول إلى مراجعة استراتيجيتها الدفاعية وعلاقتها الدولية بما في ذلك اليابان، التي سعت طويلاً إلى نفض غبار الحرب العالمية الثانية بالنأي عن نفسها من التحالفات العسكرية، لكنها تتجه اليوم لعلاقة أكثر قرباً مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، معلنة محادثات لفتح مكتب اتصال سياسي للحلف العسكري الغربي، وهو الأول من نوعه في آسيا.
كما يعزم الطرفان رفع مستوى تعاونهما في مجالات الفضاء الإلكتروني والمعلومات المضللة والتقنيات الناشئة والمدمرة، إذ من المنتظر أن يوقع الجانبان برنامج شراكة قبل قمة الناتو يوليو (تموز) المقبل في فيلنيوس.
وتأتي هذه الخطوات عقب إدراج الناتو للصين للمرة الأولى، ضمن مفهومه الاستراتيجي الذي صدر العام الماضي، الذي حذر من أن “طموحات بكين المعلنة وسلوكها” يمثلان “تحديات منهجية” للأمن عبر المحيط الأطلسي.
العالم “أقل استقراراً”
وأوضح وزير الخارجية الياباني يوشيماسا هاياشي في مقابلة صحافية لشبكة “سي إن إن” الأميركية الأسبوع الماضي أن غزو روسيا أوكرانيا جعل العالم “أقل استقراراً”، وهو ما أجبر اليابان على “إعادة التفكير في الأمن الإقليمي”.
وكان هاياشي واضحاً بشكل لا لبس فيه بشأن التهديد الذي تستشعره طوكيو جراء إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزو أوكرانيا، قائلاً “ما يحدث لا يقتصر فقط على أوروبا الشرقية، يؤثر بشكل مباشر في الوضع هنا في المحيط الهادئ. لهذا السبب أصبح التعاون بيننا في شرق آسيا وحلف الناتو ذا أهمية متزايدة”.
وأضاف وزير الخارجية الياباني أن بلاده ليست عضواً في معاهدة حلف شمال الأطلسي، لكن الخطوة تبعث رسالة بأن شركاء التكتل في آسيا والمحيط الهادئ “ينخرطون بثبات للغاية” مع الناتو.
وتحدث المسؤول الياباني عما وصفه بالبيئة الأمنية الإقليمية “الشديدة والمعقدة” المحيطة باليابان، مشيراً إلى أنه إضافة إلى العدوان الروسي المتزايد، فإن طوكيو تكافح في مواجهة خطر التسلح النووي لكوريا الشمالية والصعود الصيني.
ولدى الناتو مكاتب اتصال سياسي مماثلة في بلدان أخرى ليسوا أعضاء في التحالف مثل أوكرانيا وفيينا، ومع ذلك تمثل خطوة اليابان تطوراً مهماً على الصعيد الدولي بالنظر إلى تعميق خطوط الصدع الجيوسياسي مع الصين التي سبق وحذرت من مثل هذه الخطوة.
والعام الماضي اتهمت بكين حلف الناتو بإثارة الصراعات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي مارس (آذار) الماضي قالت إن تحرك الناتو شرقاً من شأنه أن “يقوض السلام والاستقرار حتماً”، ومن ثم فإن التوجه لفتح مكتب في اليابان من شأنه أن يثير التساؤلات بشأن التصعيد المحتمل في المنطقة.
“اندبندنت عربية” تواصلت مع الخارجية اليابانية في هذا الصدد، التي بدورها أحالت الطلب على سفارتها في القاهرة، التي قالت “في ما يتعلق بإنشاء مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي في اليابان، تجري دراسات عدة داخل الناتو ونحن نمتنع عن إعطاء إجابة نهائية في هذا الوقت”.
السيطرة الإقليمية
اقتراب اليابان من الناتو ليس مهماً لطوكيو فحسب، بل أيضاً لعلاقة منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع الحلف. إذ لم تنضم أية دولة آسيوية إلى الناتو، لكن بعض دول آسيا والمحيط الهادئ تتعاون معه، بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية.
في حديثه إلى “اندبندنت عربية” قال ديفيد دي روش الأستاذ لدى مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية والمسؤول الأميركي السابق لدى الناتو، “بطبيعة الحال لن ترحب بكين بهذا التطور. إذ تعتبر نفسها القوة الإقليمية المهيمنة الطبيعية في شرق آسيا، وتعارض أي تطور من شأنه أن يقلل من إمكان تحقيق بكين قدرة الإملاء على جيرانها”.
وتعمل الصين على زيادة قواتها البحرية والجوية في مناطق بالقرب من اليابان، بينما تدعي أن جزر سينكاكو، وهي سلسلة جزر غير مأهولة بالسكان تسيطر عليها اليابان في بحر الصين الشرقي، تقع ضمن أراضيها السيادية.
وفي مواجهة الاحتكاك المتزايد أعلنت اليابان أخيراً خططاً لأكبر حشد عسكري لها منذ الحرب العالمية الثانية، كما تصاعدت التوترات بين اليابان وروسيا في الأشهر الأخيرة، مدفوعة جزئياً بالتدريبات العسكرية الروسية في المياه بين البلدين والدوريات البحرية الصينية – الروسية المشتركة في غرب المحيط الهادئ بالقرب من اليابان.
رغم أن بكين ادعت الحياد في حرب أوكرانيا وعدم وجود علم مسبق بنوايا روسيا، فإنها رفضت إدانة تصرفات موسكو. وبدلاً من ذلك قامت بترديد سردية الكرملين التي تلقي باللوم على الناتو لإثارة الصراع، مما أدى إلى مزيد من تصدع العلاقات مع كل من أوروبا والولايات المتحدة.
علاوة على اتهام مسؤولون كبار بوزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة بالسعي إلى بناء كتلة شبيهة بحلف شمال الأطلسي في المحيطين الهندي والهادئ، مع تحذير أحد المسؤولين من عواقب “لا يمكن تصورها”.
ضرره أكبر من نفعه
لا يقف المراقبون الغربيون على أرض واحدة بشأن خطوة فتح مكتب للناتو في اليابان، فتعتقد كيلي جريكو الزميل لدى مركز ستيمسون في واشنطن أن مشاركة الناتو بشكل أكبر في المنطقة “قد تضر بالأمن والاستقرار أكثر من نفعها، فمن منظور عسكري تفتقر القوات البحرية والجوية الأوروبية إلى القدرات اللازمة للمساهمة بشكل هادف في الردع في المنطقة، ففرنسا والمملكة المتحدة فقط هما من يحافظان على وجود بحري منتظم في المنطقة، وحتى هاتين القوتين البحريتين الأوروبيتين الرئيستين غير قادرتين على نشر أكثر من سبع فرقاطات ومدمرتين في المنطقة لفترة طويلة”.
وبالمثل لا تملك القوات الجوية الأوروبية قدرة مستقلة على إبراز القوة الجوية على مسافات شاسعة، لذا فإن احتمال توسيع دور الناتو ليشمل منطقة المحيطين الهندي والهادئ مفرط في الطموح، بالنظر إلى الحقائق الصعبة للقدرات العسكرية الأوروبية.
وتمثل سياسة الناتو نحو بكين رد فعل دفاعياً لقوة الصين المتنامية وطموحها الاستراتيجي، لا سيما إعلانها شراكة “بلا حدود” مع روسيا. وقال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ “علينا معالجة حقيقة أن الصين تقترب منا” في الفضاء الإلكتروني وفي القطب الشمالي وحتى في أوروبا، مضيفاً “نحن لا نعتبر الصين عدواً أو خصماً”.
لكن رغم أن أهداف الناتو دفاعية ترى جريكو أن سياسات التحالف والخطاب المرتبط بها “قد تبدو تهديداً للصين، بالتالي تحفز قادتها على التصرف بشكل أكثر عدوانية تجاه الناتو والدول الأعضاء فيه، جنباً إلى جنب مع عدم ثقة الصين في نوايا الناتو”.
بغض النظر عن النوايا السلمية لبروكسل، تعتقد جريكو أن يجري تفسير الوجود العسكري الموسع لحلف الناتو وتعاونه العملي مع دول المحيطين الهندي والهادئ على أنه “هجوم وتهديد”، مما يؤدي بدوره إلى رد فعل عنيف وغير متوازن، بما في ذلك زيادة التعاون الصيني – الروسي، وستكون النتيجة رد فعل مزعزع للاستقرار مع تراجع الاستقرار والأمن في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
الدفاع الجماعي
في حين يرتبط الناتو بعلاقات طويلة مع عديد من الدول غير الأعضاء، لكن ما يهم بشأن خطوة اليابان، وفق دي روش، أنها تعكس اتجاه الناتو بشكل أكبر نحو مبادئه التأسيسة كمجموعة أمنية جماعية تلتزم بوجهة نظر النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد. لطالما كانت اليابان دولة تشترك في القيم والمخاوف الغربية، لكنها كانت لاعباً أمنياً أقل نشاطاً بسبب تاريخها الرهيب في زمن الحرب.
لكن تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في مراجعة كل طرق التفكير القديمة هذه، فعديد من البلدان تدرك الآن الدور الحتمي للدفاع الجماعي لمعارضة التدخل الاستعماري الصريح. ويضيف دي روش إنه من المهم الاعتراف بأن روسيا تحتل الأراضي اليابانية التي جرى الاستيلاء عليها في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالنظر إلى وجود المستعمرات الروسية على الأراضي اليابانية، فمن المنطقي زيادة التعاون الياباني مع الناتو.
وفي أبريل (نيسان) الماضي أجرت السفن الحربية الروسية مناورات مضادة للغواصات في بحر اليابان، المعروف أيضاً باسم البحر الشرقي، وفي مارس أطلقت زوارق الصواريخ الروسية صواريخ كروز على هدف وهمي في المياه نفسها.
وبعد أن أجرى رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا زيارة مفاجئة إلى أوكرانيا في مارس، حلقت قاذفتان روسيتان استراتيجيتان قادرتان على حمل أسلحة نووية فوق المياه قبالة الساحل الياباني لأكثر من سبع ساعات، بحسب وكالة “رويترز” آنذاك.
في حين برر بوتين غزوه أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 بالقول إنه أراد وقف زحف الناتو في شرق أوروبا من خلال انضمام مزيد من الدول، لكن الغزو نفسه عزز وعمل على توسيع ذلك التحالف العسكري، فانضمت فنلندا إلى الناتو في أبريل الماضي، وتواصل السويد عملية الانضمام لتتخلى البلدان عن الحياد الذي طالما التزمت به.
ويقول دي روش إن من المفارقات أنه بعد سنوات فقط من وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلف الناتو بـ”الموت العقلي”، يبدو أن الغزو الذي يقوده فلاديمير بوتين أصبح المحرك والمهندس لتجديد وتوسيع الحلف مع شراكات عالمية كبيرة.
اندبندت عربي