كان من المقرر أن يشهد شهر مايو جولة للرئيس الأمريكي جو بايدن بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، يفتتحها بزيارة إلى هيروشيما باليابان لحضور قمة مجموعة السبع، ثم زيارة قصيرة وتاريخية إلى بابوا غينيا الجديدة. وأخيراً، زيارة إلى أستراليا لحضور قمة مع قادة الرباعية: رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، حيث يعمل بايدن منذ توليه على إعادة تنشيط الرباعية كجزء من جهوده الأوسع لتركيز الولايات المتحدة بشكل أكبر على المحيط الهادئ.
وكان من المتوقع أن تؤدي هذه الجولة إلى تحقيق أهداف عدة لإدارة بايدن مثل توثيق الروابط مع الحلفاء القدامى، وصناعة التاريخ كأول رئيس للولايات المتحدة يزور دولة بابوا غينيا الجديدة. كما شكلت هذه الجولة لبايدن – الذي أعلن أخيراً الترشح لإعادة انتخابه – فرصة لإثبات أنه لا يزال لديه ما يقدمه خلال فترة الرئاسة الجديدة. بيد أن تجاذبات المشهد الداخلي دفعت بايدن لتغيير مخطط هذه الجولة مكتفياً بحضور قمة مجموعة السبع باليابان، وهو ما كان له تداعيات ملموسة على مردود الزيارة ودلالتها بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية.
قضايا على المحك
أتت تحركات بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في ظل أجواء مشحونة تحمل في طياتها وضع عدد من القضايا على المحك، لعل أهمها:
– مكانة الولايات المتحدة كشريك وفاعل موثوق على الساحة الدولية، فمنذ بداية رئاسته أعلن بايدن شعار “أمريكا عادت” بهدف طمأنة الحلفاء بأن الولايات المتحدة عادت إلى دورها التاريخي على المسرح الدولي بالمخالفة لسياسة “أمريكا أولاً” التي اتبعها سلفه دونالد ترامب. وتكتسب منطقة جنوب المحيط الهادئ أهمية خاصة في هذا الصدد، ولاسيما وأن الولايات المتحدة كانت قد اتجهت لتجاهلها بعد الحرب الباردة وأزالت بعض سفاراتها وقلصت مساعداتها للمنطقة.
– وفي المقابل، ملأت الصين الفراغ من خلال زيادة المساعدة والتنمية والتعاون الأمني. وكثيراً ما أعلن بايدن عن التزامه بتغيير هذا الوضع فبدأت واشنطن في جذب دول جزر المحيط الهادئ من خلال الزيارات الرسمية وممارسة النفوذ السياسي.
– متابعة تطورات موقف الدول الحليفة من الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي القضية التي أعلنت في اجتماع وزراء مجموعة السبع في إبريل الماضي، حيث تعهد التحالف بإنشاء جبهة موحدة في حرب روسيا.
– الأعمال الاستفزازية من جانب الصين في بحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان، تنزعج إدارة بايدن من التهديدات الصينية المتزايدة والمناورات العسكرية حول تايوان، ولاسيما بعد أن توترت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك، نانسي بيلوسي، إلى تايبيه في أغسطس من العام الماضي. وزادت حدة هذه العلاقات بعد أن أسقطت الولايات المتحدة بالون تجسس صيني مشتبه به في فبراير بعد أن اجتاز الولايات المتحدة.
نجاحات محدودة:
على الرغم من اقتصار تحركات بايدن في المنطقة على حضور قمة مجموعة السبع، إلا أن فعاليتها مكنت إدارة بايدن من تحقيق نجاحات محدودة، فقد عقدت القمة في 19 إلى 21 مايو، بمدينة هيروشيما مسقط رأس رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، الذي رأى أن عقد القمة بالمدينة سيمنحه فرصة لتوضيح تصميمه على بناء عالم خالٍ من الأسلحة النووية.
في هذا السياق أتت مشاركة بايدن في إحياء ذكرى إسقاط القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما لتحمل رمزية كبيرة لدولة استخدمت هذه الأسلحة النووية – دون أن تعتذر عنها – وتتحكم في أقوى ترسانة نووية في العالم. ولاسيما مع تصريحات بايدن بأن “صور الدمار في هيروشيما تذكرنا بالضرر البغيض الذي يمكن أن تحدثه الأسلحة النووية، ومسؤوليتنا الجماعية ضمان عدم استخدام هذه الأسلحة مجدداً”.
من ناحية أخرى، تمت دعوة قادة الهند وأستراليا والبرازيل وكوريا الجنوبية وفيتنام وإندونيسيا وجزر القمر وجزر كوك للمشاركة في قمة “مجموعة السبع”، إضافة إلى رؤساء منظمات دولية، كالأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، وهو ما أتاح لبايدن الاجتماع مع رئيس كوريا الجنوبية ورئيس وزراء اليابان لمناقشة إجراءات التعاون بين الدول الثلاث للرد على التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، فضلاً عن مساعدة الدولتين الحليفتين على تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي وتجاوز المظالم التاريخية الناجمة عن استعمار اليابان لشبه الجزيرة الكورية في الفترة من 1910 إلى 1945. وهو ما يُعد أمراً مهماً لواشنطن لدعم منظومة علاقاتها بالمنطقة.
كما شملت القمة محادثات مهمة حول الغزو الروسي لأوكرانيا، بمشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تضمنت مناقشات حول ساحة المعركة وآليات العمل على سد أي ثغرات في العقوبات حتى يعظم تأثيرها. وأسفرت القمة عن إعلان دول مجموعة السبع الكبرى في بيانها المشترك عن “ضرورة تسريع التخلص التدريجي من الاعتماد على الطاقة الروسية”، كما أعلنت أنها ستفرض عقوبات على جميع الصادرات “التي تستخدمها روسيا لبناء قدراتها العسكرية”.
وركزت القيود الجديدة بشكل أساسي على إزالة جميع الثغرات التي سمحت لموسكو بتجاوز العقوبات المفروضة، وهو ما برز بوضوح خلال إعداد الحزمة الحادية عشرة من العقوبات، وترجمه بيان القمة في الانتقال لتطبيق التدابير “خارج الحدود الإقليمية”، أي ضد البلدان التي تساعد موسكو في عملية “الإفلات” هذه على نطاق واسع.
تداعيات تقليص الجولة
كما سبقت الإشارة قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن تقليص رحلته إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ بإلغاء زيارتيه إلى أستراليا وبابوا غينيا الجديدة، وذلك بسبب حاجته للعودة إلى الولايات المتحدة لحضور مفاوضات الميزانية ومفاوضات سقف الديون الجارية في الكونغرس، حيث كانت الإدارة الديمقراطية والمعارضة الجمهورية، تخوضان سباقاً مع الوقت لتجنّب احتمال تخلّف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها في الأول من يونيو.
وكان يشترط الجمهوريون أن يوافق بايدن على خفض كبير في نفقات الميزانية، مقابل موافقتهم على رفع سقف الدين، بينما يتهمهم الديمقراطيون باستخدام تكتيكات لدفع أجندتهم السياسية، معرضين الاقتصاد الأمريكي للخطر. وفي حال فشل الجانبان في التوصل لاتفاق ستشهد واشطن حالة تخلف عن السداد غير مسبوقة، ستترتب عليها تداعيات كارثية مع تهديدات بأن تعجر الدولة عن دفع رواتب الموظفين الفدراليين، والارتفاع المحتمل في أسعار الفائدة، مع آثار غير مباشرة على الشركات والرهون العقارية والأسواق العالمية.
وعلى الرغم من أن الولايات المتّحدة وصلت قبل أشهر إلى “سقف الدين العام” الذي يزيد على 31 تريليون دولار (وهو الحد الأعلى على الإطلاق في العالم). وتمكن الحكومة من إدارة الموقف، فإن التهديدات السياسية لهذا الموقف تضاعفت في الوقت الحالي في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، وإدراك إدارة بايدن الديمقراطية أن هزيمة اقتصادية محتملة، أياً كان سببها، ستهدد فرصه وفرص حزبه في إعادة انتخابه.
ورغم وجاهة مبررات بايدن لتقليص الجولة، فقد أدت تلك الخطوة إلى تعرض إدارة بايدن لانتقادات عدة حيث رأى كثيرون أن واشنطن تتعامل مع الحلفاء والشركاء كأنهم قطع شطرنج، وأنه من السهل أن تتراجع عن التزاماتها إزاءهم بسبب قضاياها المحلية، وهو ما يكرس الانطباع بأن واشنطن تواجه تراجعاً في قوتها، وأنها واقعة في ارتباك استراتيجي يثير الشكوك حول قدرتها على قيادة العالم وأداء دور القطب الأوحد للعالم، وهو ما يمثل انتكاسة للسياسة الخارجية لبايدن، وأن السياسة الداخلية لواشنطن تقوض سياستها الخارجية في وقت حرج.
فيما يرى مراقبون أن هذا التقليص يُعد هدية من إدارة بايدن للصين التي تستعرض قوتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بكل الطرق الممكنة، والتي ستعمل على إرسال رسالة لدول المنطقة مفادها أنه لا يمكنها الاعتماد على واشنطن كبديل لها.
في السياق ذاته ترتب على تقليص بايدن لجولته، إلغاء القمة التي كانت مقررة لزعماء الرباعية في سيدني (وهي شراكة بين الهند وأستراليا واليابان والولايات المتحدة تركز على تقديم السلع والأمن في المنطقة)، وعلى الرغم من أن قادة المجموعة الرباعية اتجهوا للاجتماع على هامش مجموعة السبعة في اليابان، فإن إلغاء اجتماع المجموعة الرباعية في أستراليا سيؤثر بالتأكيد في هذه الآلية، خاصة مع محاولات تحقيق التوازن بين مخاوف الهند والحساسيات السياسية الأسترالية.
ولم يكن إلغاء القمة في صالح رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، على وجه الخصوص، الذي يحاول أن يقنع ناخبيه بإحداث تحول في استراتيجية الدفاع الأسترالية وإنشاء تحالف أمريكي أسترالي مطور يقوم على استثمارات كبيرة في القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية.
وهو ما يعيد للأذهان أحد أكبر الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الولايات المتحدة بالانسحاب من الشراكة في منطقة المحيط الهادئ في عام 2017، مما أضر بشدة بمحاولة واشنطن للتنافس اقتصادياً مع الصين التي حققت تقدماً كبيراً في صياغة العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الإقليمية الرئيسية والانضمام إليها. حيث أصبحت الولايات المتحدة خارج معظم الاتفاقيات التجارية بالمنطقة وفي آسيا عموماً.
فضلاً عن الإحباطات الكبرى بسبب إلغاء رحلة بايدن إلى بابوا غينيا الجديدة، فقد كانت هناك توقعات عالية لهذه الرحلة التي كانت ستُعد الأولى من نوعها في الوقت الذي يسعى فيه البلدان لاتفاق أمني. ورغم أن بايدن أوفد وزير خارجيته، أنطوني بلينكن، إلى بابوا غينيا الجديدة بديلاً عنه، مع توقيع اتفاق التعاون الدفاعي كما هو مخطط. إلا أن حالة من خيبة الأمل تنتشر بين سكان الدولة الجديدة التي كانت قد أعلنت يوم زيارة بايدن عطلة رسمية.
وربما يقوض هذا الإحباط النجاحات التي سعت واشنطن لإحرازها بالمنطقة في العام المنصرم من خلال إعلان تدشين سفارات جديدة في تونغا وكيريباتي وإعادة فتح بعثتها الدبلوماسية في جزر سليمان، واستضافة قمة غير مسبوقة لدول المحيط الهادئ.
كما أبرمت اتفاقات جديدة مع ميكرونيزيا، وبالاو، وبابوا غينيا الجديدة، علماً بأن التفاهم مع الأخيرة يتيح للقوات الأمريكية، حق استخدام موانئ جوية وبحرية في الجزيرة. ولاسيما وأن الصين (الغريم التقليدي للولايات المتحدة في المنطقة) لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء تلك التحركات فأبرمت صفقة مع جزر سليمان بقيت تفاصيلها قيد الكتمان، كما تقوم بمشروعات بناء تشمل الملعب الذي سيستضيف دورة ألعاب المحيط الهادئ في العاصمة هونيارا، إضافة إلى مركز طبي ومهاجع للطلاب.
المستقبل للدراسات