بعد الهيجان الإرهابي لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» في باريس، أرسلت فرنسا حاملة طائرات إلى [سواحل] سوريا وعملت على تطبيق تدابير أمنية غير مسبوقة ضمن أراضيها. ومن غير الواضح كيف سيرد لبنان، الذي كان قد تعرض لهجوم قام به التنظيم قبل يوم واحد فقط من هجمات باريس. يُذكر أن الهجوم على بيروت كان أقل فتكاً من ذلك الذي شهدته باريس، ولكن الآثار طويلة الأمد على الأمن والاستقرار في لبنان يمكن أن تكون ذات تبعات أوسع نطاقاً.
في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر وقع تفجير انتحاري مزدوج في برج البراجنة – حي شيعي في بيروت معروف بأنه معقل لميليشيا «حزب الله» المدعومة من إيران – أدى إلى مقتل 40 شخصاً وجرح أكثر من 200 آخرين. ومن خلال عمله على نفس نهج تنظيم «القاعدة في العراق»، استهدف تنظيم «الدولة الإسلامية» مسجداً شيعياً. ففي عام 2006، دمر تنظيم «القاعدة» مزاراً شيعياً في سامراء، الأمر الذي أثار احتداماً هائلاً بين السنّة والشيعة أودى بحياة الآلاف. وعلى الرغم من أن تفجير بيروت لم يُثر بعد أي ضربات انتقامية، إلا أنه وضع حداً لفترة من الراحة من الإرهاب التي عاشها لبنان على مدى حوالي العام، وأعاد من جديد شبح استئناف العنف الطائفي من أجل زعزعة الاستقرار في الدولة.
إن لبنان، الدولة المكوّنة بشكل رئيسي من الشيعة والسنّة والمسيحيين، قد انقسم حول موضوع الحرب في البلد المجاور منذ أن بدأت هذه في عام 2011. ففي حين أن الشيعة يدعمون العلويين، وبشكل خاص نظام الأسد الشيعي إسمياً، يتعاطف السنّة إلى حد كبير مع الثوار الذين يقودهم السنّة أيضاً.
لقد شهد لبنان بين عامي 2013 و2015 أكثر من عشرة تفجيرات انتحارية وبالسيارات المفخخة مرتبطة بسوريا. وفي حين وقعت بعض هذه التفجيرات في المناطق السنيّة، إلا أن غالبيتها كانت موجّهة نحو الشيعة والعلويين، وذلك من المفترض في إطار رد سني على «حزب الله» بسبب نشر قواته العسكرية في سوريا دعماً للأسد. وقد قتل النظام السوري حتى الآن أكثر من 300 ألف شخص، معظمهم من السنّة، بدعم من إيران و «حزب الله»، الأمر الذي أثار غضب السنّة في لبنان والمنطقة.
وفي ظل الهجمات الإرهابية المتكررة ضد أهداف طائفية، سعى زعماء الطوائف اللبنانية باستمرار إلى تهدئة التوترات. فعلى سبيل المثال، في أعقاب هجوم تموز/ يوليو 2013 الذي وقع بانفجار سيارة مفخخة في مقر «حزب الله» جنوب بيروت، وجّه كلاً من «حزب الله» والزعيم السنّي سعد الحريري اللوم بصورة غير محتملة إلى إسرائيل.
ومع ذلك، من غير المؤكد ما إذا كان الزعماء سيواصلون اعتماد هذا الهدوء.
يُشار إلى أنه في اليوم نفسه الذي وقعت فيه تفجيرات بيروت، أبطل “الجيش اللبناني” قنبلة في جبل محسن، وهو حي علوي في طرابلس. ومنذ ذلك الحين، ذكرت الصحف اللبنانية أن الأجهزة الأمنية اكتشفت 450 ألف دولار في مخبأ تابع لمسلحين سنّة في بيروت، كما عثرت على عدة أحزمة ناسفة في سهل البقاع الذي يسيطر عليه «حزب الله».
إن لبنان اليوم، مع وجود 1.5 مليون لاجئ سوري، هو البلد الأسرع نمواً في العالم. يُذكر أن معظم هؤلاء السوريين هم من السنّة الذين فروا من وحشية نظام الأسد. وبالتالي، يبرز قلق دائم في لبنان من أن تكون الخلايا النائمة التابعة لـ تنظيم «داعش» مقيمة في صفوف هذا المجتمع. هذا ويبقى أمن الحدود مع سوريا موضع قلق.
وفي حين ينظر اللبنانيون السنّة والشيعة والمسيحيون بشكل مماثل إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» على أنه يشكل التهديد البارز، إلا أن الكثير من السنّة استاؤا من الصفقة الخاسرة بين وزارة الداخلية و”قوى الأمن الداخلي” حيث السيطرة السنّية، و”قوات الأمن العام” التي يهيمن عليها الشيعة، والجيش متعدد الطوائف، و «حزب الله» الذي حافظ على أمن البلاد خلال العام الماضي. وكجزء من هذه الصفقة، تم منح الميليشيا الشيعية بطريقة فعّالة إذن مرور لقواتها ذهاباً وإياباً من سوريا وإليها، في حين يتم القبض بانتظام على المسلحين السنّة، من اللبنانيين والسوريين على حد سواء.
ومما يزيد من حدة التوتر أن «حزب الله»، في مبادرة مثيرة للجدل، يقوم الآن بتجنيد المسلمين السنّة من سهل البقاع لقتال معارضي نظام الأسد (السنّة) في سوريا. ففي أيلول/ سبتمبر، وبعد أن ترددت شائعات عن مقتل أحد أعضاء ما يُسمى بـ “سرايا المقاومة” أو “كتائب المقاومة” في المعارك، اقتحم السنّة مسجداً في البقاع احتجاجاً على الإمام الذي جند المقاتلين.
وعلى الرغم من أن صمود لبنان يشكل أسطورة بحد ذاتها، إلا أن الهجمات التي شهدتها بيروت تأتي في وقت حساس بشكل خاص بالنسبة إلى العلاقات الطائفية في الدولة. فالخلاف بين «حزب الله» والمسيحيين والسنّة المعتدلين في لبنان قد أعاق البرلمان، وترك البلاد تغرق في فراغ رئاسي منذ أيار/ مايو 2014. وفي ظل غياب رئيس للجمهورية، لم يتم اتخاذ أي قرارات بارزة أو القيام بتعيينات كبرى.
وما يتردد في بيروت حالياً هو أنه سيتم قريباً انتخاب مرشح رئاسي يشكل “حلاً وسطاً” يُدعى سليمان فرنجية، وهو عضو في البرلمان عن منطقة زغرتا معروف بعلاقته الوطيدة مع أسرة الأسد. وللأسف، نظراً إلى ارتباطه مع عائلة الأسد، فإن انتخاب فرنجية لن يساعد كثيراً على التخفيف من غضب السنّة أو تهدئة الضغوط الطائفية في لبنان.
ووسط الشلل الحكومي، فحتى النفايات قد أصبحت قضية طائفية. ففي الصيف الماضي، وبعد إغلاق مكب النفايات [مستودع القمامة] الرئيسي في لبنان، تناثرت آلاف الأطنان من النفايات في شوارع بيروت. وتم التوصل إلى حل وسط يتمثل بإنشاء مكبين جديدين، واحد في منطقة سنية والآخر في منطقة شيعية. وفي حين تم تحديد موقع في منطقة عكار السنية، تعثرت الجهود لإيجاد موقع مناسب في المنطقة الشيعية، وعندما توجهت الشاحنات إلى عكار للبدء بعملية الإنشاء، أحرق السنّة الغاضبون الشاحنات، رافضين قبول “النفايات الشيعية”.
وفي العقود الأخيرة، أصبح العنف والحكومة غير الفعالة والتوترات الطائفية عوامل تشكل القاعدة وليس الاستثناء في لبنان. وبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا، ومع تصعيد تنظيم «داعش» من عملياته في لبنان، بات الوضع الراهن الذي هو هش بالفعل في بيروت تحت تهديد خطير ومتزايد.
ولا يمثل لبنان، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، موضع اهتمام “استراتيجي” للولايات المتحدة. ومع ذلك، تتمتع واشنطن بمصلحة قوية في استقرار لبنان. ولا ينحصر ذلك فقط على كون الدولة إحدى الأمثلة الإقليمية القليلة على التعددية الدينية والعرقية، بل هي أيضاً موالية للغرب، مع استثناء ملحوظ من «حزب الله». وفي الواقع، على الرغم من تهديدات «حزب الله»، أسفرت العمليتان الانتخابيتان البرلمانيتان الأخيرتان في لبنان عن أغلبية برلمانية معتدلة موالية للغرب.
بالإضافة إلى ذلك، يشارك لبنان حدوداً طويلة مع إسرائيل، وسيكون ضبطها أكثر صعوبة إذا ازداد وضع الأمن في البلاد سوءاً. كما أن المشاكل الأمنية الخطيرة في لبنان ستعني أيضاً المزيد من اللاجئين. وكان قد فر نحو 900 ألف لبناني من البلاد خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وللأسف، في حين أن المساعدة العسكرية والأمنية التي تقدمها واشنطن في العام المالي 2015 والتي تبلغ 80 مليون دولار قد تساعد لبنان على الصمود في وجه الهجوم الحالي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنها لن تساعد كثيراً على التخفيف من المشاكل الطائفية المزمنة والمسببة للتآكل في المجتمع على نحو متزايد والتي تؤدي الحرب السورية إلى تفاقم حدتها يوماً بعد يوم. وفي الواقع، إن الدمار المستمر سوف يجعل من لبنان على الأرجح أرضاً أكثر خصوبة للتشدد على غرار نموذج تنظيم «داعش».
وبعد مرور خمس سنوات على الحرب [في سوريا]، يشكل الاستقرار المستمر في لبنان شعاع أمل غير متوقع في منطقة مظلمة. لكن، بينما يشن تنظيم «الدولة الإسلامية» معركة ضد «حزب الله» في لبنان، أصبح هذا الوضع الإقليمي الفريد من نوعه في خطر على نحو متزايد. ولحسن الحظ، ونظراً إلى أن ذكريات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً لا تزال حية نسبياً في أذهان اللبنانيين، يبدو أن لا رغبة لديهم في حرب ثانية. ولكن كلما استمرت الحرب في سوريا، كلما كان لبنان أكثر عرضة للعيش في تجربة كتلك التي عاشتها مدينة سامراء في العراق.
ديفيد شنيكر
معهد واشنطن