دخلت الأزمة السورية مُنعطفاً جديداً بعد التدخل العسكري الروسي في مجريات الأحداث هناك، حيث شنت القوات الروسية غارات جوية ضد أهداف مُعلنة في الأراضي السورية مع نهاية شهر سبتمبر 2015، وذلك بعد أن حصل الرئيس “فلاديمر بوتين” على موافقة الكرملين لاستخدام القوة العسكرية خارج الحدود، تحت مبرر محاربة تنظيم “داعش”، ودعم نظام الرئيس “بشار الأسد” في مواجهة “الجماعات الإرهابية” بحسب تعبير “بوتين”.
وفي سياق هذه التطورات الفارقة في الأزمة السورية، وحدود أدوار الأطراف الفاعلة فيها، من الأهمية بمكان البحث في دوافع ذلك القرار الروسي، وتحديد المناطق التي ركزت عليها الضربات الجوية الروسية، مع مقارنة التدخل العسكري الروسي حالياً في سوريا بالتجربة السابقة للاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وصولاً إلى الإجابة على تساؤل رئيسي مفاده: متى وكيف ستخرج القوات الروسية من سوريا؟
دوافع التدخل العسكري الروسي
أعلنت روسيا أنها بدأت منذ 30 سبتمبر الماضي تنفيذ غارات جوية على مواقع لتنظيم “داعش” داخل الأراضي السورية، حيث كشف الرئيس “فلاديمير بوتين” عن سيناريو التدخل العسكري الروسي في سوريا والتي بيّنها في ثلاث خطوات لإنهاء الأزمة السورية والقضاء على “داعش”، أولها دعم الجيش السوري فقط في كفاحه ضد التنظيمات الإرهابية تحديداً، وثانيها أن يكون هذا الدعم جوياً فقط دون مشاركة في عمليات برية، وثالثها اقتصار مثل هذا الدعم من ناحية الزمن على فترة قيام الجيش السوري بإجراء عمليات هجومية.
ومُتبعاً نهج “الحرب الاستباقية”، كان الرئيس الروسي قد أعلن صراحة قبل أيام من بدء أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن ما يدفع بلاده إلى دعم بقاء نظام “بشار الأسد” هو أن هناك في سوريا أكثر من 2000 مقاتل من دول الاتحاد السوفيتي السابق، مُعرباً عن مخاوفه من عودة هؤلاء المتطرفين إلى روسيا، ومن ثم فالأفضل – من وجهة نظره – مساعدة “الأسد” على قتالهم في الأراضي السورية.
وبالتالي، تعكس التصريحات المعلنة للمسئولين الروس أن ثمة أهداف ودوافع رئيسية وراء تدخل موسكو عسكرياً في سوريا، وتدور في مُجملها حول دعم نظام “الأسد” ورفع مستويات هذا الدعم من المستوى السياسي والدبلوماسي إلى المستوى العسكري والأمني الواسع، خاصةً في ظل الخسائر التي مُنيت بها قوات “الأسد” مؤخراً وفقدها السيطرة على العديد من الأراضي (80% من مساحة البلاد) لصالح التنظيمات المعارضة التي تصفها روسيا بـ”الإرهابية”، مروراً بالمساعدة في القضاء على تنظيم “داعش”، وصولاً إلى المخاوف الروسية من عودة المقاتلين الأجانب في سوريا إلى روسيا واستهدافها بهجمات إرهابية.
غير أن القراءة الواقعية للمعطيات السائدة سواء في روسيا أو فيما يتعلق بمصالحها الاستراتيجية في سوريا تحديداً وإقليم الشرق الأوسط بصفة عامة، تكشف عن أبعاد ودوافع أخرى – علاوة على ما سبق – تقف وراء قرار “بوتين” بشن غارات جوية في الأراضي السورية، وتتمثل في الآتي:
1- تأهيل ميناء طرطوس ليكون قاعدة عسكرية روسية تنفيذاً للاتفاق الموقع بين الدولتين منذ عام 2008، فضلا عن مساعدة النظام السوري في تأسيس مطار عسكري بالقرب من مطار اللاذقية المدني، وبدء العمل في إقامة قاعدة عسكرية روسية في مطار حميميم على بعد 22 كيلومتراً جنوب مدينة اللاذقية.
2- رغبة روسيا في مواجهة العزلة الغربية والضغوطات المفروضة عليه في السنوات الأخيرة، حيث أن تواجد روسيا مجدداً في سوريا يعكس أنها ليست مجرد قوة إقليمية في أوروبا الشرقية ومنطقة القطب الشمالي فقط، ولكنها أيضاً فاعل دولي قادر على نشر قدراته العسكرية في مناطق أخرى بالعالم. وبالتالي، تحاول موسكو بهذه الخطوة تخفيف الضغوط التي تمارسها عليها الولايات المتحدة في مناطق الجوار الجغرافي الروسي المباشر ومنها أوكرانيا، وذلك عبر ضغط روسي مقابل في مناطق تمثل أهمية استراتيجية للإدارة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بما يُمكنها من فتح حوار مباشر تجاه جميع القضايا عبر التفاوض والمقايضة.
3- سعي موسكو إلى إعادة شبكة تحالفاتها الإقليمية في الشرق الأوسط والتي كانت قائمة إبان الحرب الباردة قبل أن تفقدها منذ عقود. كما أن ثمة مخاوف روسية من استبعادها عند إعادة رسم خريطة المصالح الاستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية، لاسيما بعد الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب.
4- ممارسة ضغوط مباشرة على الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وإقناعهم بالصيغة الروسية المتصورة لحل الأزمة السورية، ويدور مضمونها حول تأسيس حكومة انتقالية في سوريا يكون “بشار الأسد” جزءاً منها لمواجهة مخاطر وتهديدات تنظيم “داعش”.
5- منع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من القيام بأي خطوات من شأنها تحديد “مناطق محررة” في سوريا وفرض حظر جوي عليها، حيث أكد نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا “ميخائيل بوغدانوف” قبل أيام من التدخل العسكري في سوريا أن بلاده ترفض إقامة منطقة حظر جوي في سوريا، بناءً على اقتراح تركيا، مُعللاً ذلك بضرورة احترام سيادة الدول.
خريطة التدخل الروسي
في إطار تعزيز الوجود العسكري الروسي داخل الأراضي السورية، تدفقت العديد من الأسلحة من موسكو باتجاه دمشق، حيث تشير التقديرات إلى مشاركة أكثر من خمسين طائرة روسية في غاراتها الجوية بسوريا، وتشمل طائرات مقاتلة وطائرات متعددة الأغراض ومروحيات. ومن أبرزها 28 طائرة من طراز “سوخوي سو 30 إس إم”، و12 مقاتلة من نوع “سوخوي 24″، و6 طائرات “ميغ 31″، بالإضافة إلى “صواريخ أي إس 22″، و”طائرات أي إن 124″، و”الصاروخ إكس 29″، و”المروحية مي 24″، فضلاً عن “دبابات تي 90” المتطورة.
وبتتع خريطة الغارات الروسية في الأراضي السورية منذ بدئها نهاية سبتمبر الماضي، يُلاحظ أن هذه الهجمات تتركز على ثلاثة مناطق، هي:
1- محافظة إدلب الشمالية، بجوار المعقل الساحلي للنظام حول اللاذقية، حيث يبرز فيها نفوذ “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”.
2- جنوب شرق اللاذقية في سهل الغاب ومناطق أخرى في محافظة حماة، لمنع المتمردين من الضغط على الساحل بشكل أكبر.
3- المناطق حول حلب، أكبر مدن سوريا، حيث يتواجد تنظيم “داعش” ومجموعات متنوعة من الجماعات المتمردة والقوات الحكومية، حيث يبدو كاستعداد لهجوم كبير من النظام.
خريطة بمناطق تركز الغارات الجوية الروسية في سوريا
وإذا كانت التصريحات الرسمية في موسكو تؤكد أن هدف التدخل العسكري الروسي في سوريا هو مكافحة الإرهاب والقضاء على تنظيم “داعش”، فإن الوقائع تثبت عكس ذلك. فوفقاً لتقارير صادرة عن “معهد دراسات الحرب” الأمريكي عن الفترة من 30 سبتمبر إلى 16 أكتوبر 2015، فإن الطائرات الحربية الروسية تركز غاراتها على القوى المعارضة لنظام “بشار الأسد”، وليس تنظيم “داعش” المتطرف.
وتشير بعض الإحصاءات الأخرى إلى أن ما بين ٩٣ إلى ٩٥٪ من الغارات الروسية تستهدف مواقع مدنية سورية أو فصائل “الجيش السوري الحر” والفصائل المقاتلة للنظام السوري، وأن ما بين ٥ إلى ٧٪ فقط من هذه الغارات تستهدف مناطق تسيطر عليها “داعش”. وجدير بالذكر أن تنظيم “داعش” يسيطر على محافظة الرقة، وعلى أجزاء من دير الزور في الشرق، وبعض مناطق ريف حلب الشمالي.
وبالتالي، فإن خريطة الضربات الجوية الروسية في سوريا تؤكد أن موسكو سارعت إلى دعم نظام “الأسد” إثر تراجعه الكبير منذ بداية العام الحالي أمام القوى المعارضة، كما تعكس هذه الضربات الرغبة الروسية الحثيثة في المحافظة على ما يسمى “سوريا المفيدة” لها وحلفائها، أي الأراضي التي تخضع لسيطرة النظام، وتشمل مناطق حمص وحماة وإدلب، وهي المحافظات الثلاث المحاذية لمعقل الرئيس السوري “بشار الأسد” في اللاذقية الساحلية.
وعلى الرغم من كثافة هذه الضربات الجوية الروسية، بيد أن تأثيرها يظل محدوداً نسبياً في الميزان العسكري العام على الأرض، ولكن إذا ما تأكدت الأنباء عن وجود تعزيزات برية إيرانية ومن مقاتلي “حزب الله”، إلى جانب الجيش النظامي السوري، استعداداً لعمليات برية في ريف حمص وحماة وإدلب وحلب، فهذا يفرض تقييماً مختلفاً للغارات الجوية الروسية، من حيث نطاق الأهداف وما يمكن أن تحققه.
ومن ناحية أخرى، فإن ما تقوم بها الطائرات الروسية يُفاقم من المأساة الإنسانية التي يعاني منها السوريون، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها أكبر كارثة شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فقد أدى التدخل العسكري الروسي إلى نزوح الآلاف من مدنهم وقراهم في اللاذقية وحماة وإدلب وحمص، وزاد من عدم قدرة المرافق الصحية عن القيام بدورها، وأُغلقت مدارس ومعاهد تعليمية خشية القصف الروسي.
ومن المتوقع أن يزيد الروس من حملاتهم الجوية خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، وذلك قبل حضور “بوتين” اجتماع قمة العشرين “G 20” خلال شهر نوفمبر 2015 في مدينة أنطاليا التركية، حيث تسعى موسكو إلى إثبات جدوى تدخلها العسكري في سوريا، وبما يؤدي إلى ترسيخ دورها في رسم أي تسوية سياسية مقبلة للأزمة السورية.
هل من أفغانستان أخرى؟
ثمة محددات تُرجح استبعاد سيناريو “شبح” تحوّل سوريا إلى مستنقع أفغاني آخر. وتتمثل هذه المحددات في الآتي:
1- تأكيد الرئيس الروسي “بوتين” على أن تدخل بلاده العسكري في سوريا سيكون قاصراً على الضربات الجوية فقط دون أي عمليات برية، حيث قد تعتمد موسكو في الحروب البرية هناك على القوات النظامية السورية أو مليشيات تابعة لإيران و”حزب الله” دون توريط الجنود الروس في هذا “الفخ”، وتفادياً لما حدث في أفغانستان.
2- اختلاف الطبيعة الجغرافية والطرق الممهدة في سوريا عن التضاريس الحادة والجبال الوعرة في أفغانستان، وهي الظروف التي سهلت من استهداف القوات السوفيتية هناك.
3- اعتماد روسيا على أسلحة ومعدات عسكرية ومقاتلات وصورايخ حربية ذات تقنية عالية في سوريا، بما يضمن حسم الكثير من المعارك مع الجماعات المسلحة، وذلك على عكس المدرعات والمروحيات الأقل تطوراً والتي كان يسهل استهدافها في أفغانستان.
4- تعد القاعدة الجوية الروسية المؤقتة في اللاذقية، ونقطة الدعم الفني والإسناد للبحرية الروسية في طرطوس، عاملان يسمحان لموسكو بإنشاء منطقة مغلقة فوق سوريا والعراق وشرق البحر الأبيض المتوسط ليس على الإرهابيين فحسب، بل وأمام قوات الولايات المتحدة والناتو الجوية.
5- صعوبة استمرار روسيا في حرب طويلة قد تنهكها في سوريا مثلما حدث في أفغانستان، فموسكو تواجه أزمة اقتصادية عميقة في ظل هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية المفروضة عليها، كما أن نفقاتها العسكرية الحالية غير قابلة للاستمرار، ولا يمكن لروسيا أن تخوض حرباً ممتدة في كل من أوكرانيا وسوريا في آن واحدة.
استراتيجية الخروج العسكري
لاشك أن روسيا تدرك تماماً أن إطالة وجودها العسكري في سوريا ليس في صالحها، حتى لا تغرق في هذا المستنقع كما يتمنى خصومها. وفي ضوء الحسابات المُسبقة لبوتين وتقديراته الاستراتيجية لتداعيات ونتائج الخطوة التي اتخذها في سوريا نهاية سبتمبر الماضي، من المرجح أن يكون لدى موسكو خطة للخروج عسكرياً من سوريا في الوقت المناسب وبأقل الخسائر البشرية، وبما يحقق أكبر المكاسب السياسية والاستراتيجية التي تعكس دوافع وأهداف هذا التدخل العسكري.
ووفقاً للمعطيات المتاحة، يمكن رسم ملامح الاستراتيجية الروسية المتوقعة في سوريا على المدى القصير، كالتالي:
1- محور الإستراتيجية الروسية: تتلخص استراتيجية الخروج العسكري الروسي من سوريا وفقاً لأهدافها المحددة، في التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية مع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، حيث تراهن موسكو من خلال عملياتها العسكرية في سوريا على فرض وقائع معينة في سياق الأزمة السورية، ومن ثم التفاوض بشأنها، حتى لو أدت المفاوضات إلى تنازلات مشتركة من قِبلها وقِبل الأطراف المواجهة لها، لكن حينها تكون قد فرضت نفسها لاعباً مُؤثراً ليس في سوريا فقط، وبل على مستوى المنطقة كلها في ظل تشابك الملفات بها.
وبناءً عليه، يمكن توصيف الضربات الجوية الروسية الحالية في سوريا بأنها عملية محددة الزمان وتستهدف مناطق بعينها، لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، وفي مقدمتها إمساك موسكو بدفة إدارة الصراع في سوريا وتوجيهه بما يناسب المصالح الروسية، ودون توريطها في صراعات بعيدة المدى على شاكلة تجربتها المريرة في أفغانستان.
2- متطلبات التنفيذ: من الواضح – سواء من حجم الاستعدادات اللوجستية أو الاستعجال الروسي في شن الضربات الجوية – أن عامل الوقت مهم لدى القيادة الروسية، حيث أنها تدرك أن طول الوقت قد يؤدي بالأطراف الدولية والقوى الإقليمية إلى إنتاج استراتيجيات مواجهة تؤدي إلى إغراق روسيا في “وحل” الأزمة واستنزافها، وهو ما لا ترغب فيه موسكو.
ولذلك، يتعين على روسيا التحضير للحل السياسي للأزمة السورية بموازاة حملتها العسكرية. وفي هذا الصدد، ثمة أنباء عن أن موسكو تجري بالفعل لقاءات بعيدة من الأضواء مع المعارضة السورية، على الرغم من موقفها العلني السلبي من الائتلاف الوطني السوري المعارض، تحضيراً لصيغة هذا الحل. كما حرص الرئيس “بوتين” على لقاء القادة الخليجيين، حيث استقبل في شهر أكتوبر كلاً من ولي ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، وولي عهد أبو ظبي الشيخ “محمد بن زايد” في مدينة سوتشي الروسية، بهدف تطمين القادة الخليجيين أنه لا يخوض حرباً ضد السنة في سوريا، والبحث أيضاً عن مخرج لهذه الأزمة.
3- التوقيت المتوقع للخروج: وفقاً لتوقعات “مؤسسة ستراتفور” الأمريكية المتخصصة في الاستخبارات، فإن روسيا لن تتحمل نفقات التدخل والعمليات العسكرية لقواتها في سوريا لأكثر من أربعة شهور، لافتةً إلى أن تكلفة الغارات الجوية العسكرية تبلغ نحو مليوني دولار يومياً على الأقل، كما أن إطلاق صواريخ كروز من السفن الروسية في بحر قزوين إلى أهداف في سوريا يُعد أمراً مكلفاً، إذ تبلغ تكلفة إطلاق الصاروخ 30 مليون دولار على الأقل. ويُضاف إلى ذلك، أن روسيا بحاجة إلى إنفاق 500 مليون دولار على الأقل للتأسيس اللوجيستي لقاعدتها العسكرية في سوريا.
وتأتي هذه التقديرات في الوقت الذي يتوقع فيه صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 3.8% العام الجاري بسبب تدني أسعار النفط، والعقوبات الغربية على خلفية التدخلات في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.
وبالتالي، فإن أي زيادة في حجم الإنفاق العسكري الروسي يُعمق جراح اقتصاد البلاد المُحمَّل أصلاً بنفقات دفاعية تتجاوز خُمس الموازنة على حساب التعليم والصحة وغيرها، علماً بأن حجم الإنفاق العسكري الروسي بلغ 84 مليار دولار في العام الماضي مقابل 610 مليارات في الولايات المتحدة، من دون حلفائها الإقليميين والدوليين. ولهذا فإن مرابطة القوات الروسية وتثبيت حضورها في سوريا يُعد مكلف جداً، وليس في مقدور الكرملين الاستمرار في ذلك أكثر من أربعة شهور طبقاً للتقديرات.
تحديات إنهاء التدخل
لاشك أن الاستراتيجية الروسية المتوقعة للخروج العسكري من سوريا بالكيفية والوقت المحددين من قِبل القيادة في موسكو، ستواجه تحديات قد تعوق تنفيذها وفقاً لما قد يكون مخططاً، منها:
1-عدم قدرة روسيا على إرغام الفصائل المعارضة السورية الاستسلام، بل قد تستطيع هذه الفصائل التكيَّف مع المُستجدات الميدانية وصد الهجمات الروسية، خاصةً في ظل الدعم العسكري المتوقع أن تحظى به تلك التنظيمات المعارضة المعتدلة عبر بعض الأطراف الإقليمية الرافضة للتدخل العسكري الروسي في هذه الأزمة، وأيضاً الراغبة في الإطاحة بنظام “بشار الأسد”.
2-إمكانية توحد “داعش” و”جبهة النصرة ضد الضربات الروسية، إعمالاً لمبدأ “عدو عدوي صديقي”. بل وقد يبث التنظيمان رسائل استنفار لجذب متطوعين من بلدان أخرى لقتال القوات الروسية، وذلك على غرار نموذج الحرب السوفيتية.
3-تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين في سوريا، وسط استقطاب الحرب هناك للعديد من الحركات والجهات للاقتتال بالوكالة على الأرض السورية، ما يُصعَّب من مُهمة القوات الروسية وخروجها بشكل آمن بعد تحقيقها للأهداف الموضوعة مُسبقاً.
وفي ضوء هذه التحديات، قد تتجنب الولايات المتحدة القيام بأي رد فعل مباشر وغير محسوب ضد الغارات الروسية، لكنها – عوضاً عن ذلك – قد تنتهج ما يُسمى “الصبر الاستراتيجي”، بمعنى إنهاك قوات “بوتين” في الحرب الأهلية السورية، وتركها تتكبد الخسائر على غرار ما حدث في أفغانستان.
ختاماً، تبقى فرص نجاح الاستراتيجية الروسية في سوريا متوقفة على مدى تطابق حسابات ورهانات موسكو في تحركاتها العسكرية مع الواقع، وقدرتها على بناء عملية تفاوضية في التوقيت الذي تعتقد فيه أن الظروف صارت ملائمة لذلك، فضلاً عن أهمية امتلاكها خيارات وبدائل أخرى في حال خرجت الأمور عن سياق تصوراتها لإدارة الأزمة السورية. وهذا ما ستكشف عنه تطورات الأحداث في سوريا خلال الشهور القليلة القادمة.
أحمد عاطف
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجي