بغض النظر عن موقفكم أو حزبكم أو برنامجكم المعلن، يبدو أنكم جميعا مهتمون حصريا بالسلطة السياسية والسيطرة على الشعب اليمني وموارد البلاد الطبيعية المحدودة القابلة للتسويق، وخاصة الهيدروكربونات، إلى جانب الوصول إلى التمويل الإنساني الدولي وغيره. لكن هذه الرؤية قصيرة المدى تهدد وجود اليمن ذاته لأنها تتجاهل المشكلة الأساسية في البلاد، وهي ندرة المياه. ويجب أن تدركوا أنه لا حياة دون ماء. لذلك، يجب أن تكون معالجة هذه المشكلة على رأس أولوياتكم، رغم تعدد المشاكل البيئية والاجتماعية والاقتصادية المهمة التي يواجهها اليمنيون.
تحدد المعايير الدولية عتبة ندرة المياه المطلقة بـ500 متر مكعب للفرد سنويا. ويصبح الرقم ألف متر مكعب إذا أدرجت الاستخدامات الزراعية وغيرها. وتتوفر لليمني الآن 74 مترا مكعبا، أو 15 في المئة من هذا العدد. ومع تنامي عدد السكان وتراجع الموارد المائية نتيجة للاستخراج المفرط وعوامل تغير المناخ الأخرى، من المتوقع أن ينخفض إلى 54 مترا مكعبا بحلول 2050.
وأجبر استنفاد مصادر المياه الكثيرين بالفعل على مغادرة العديد من القرى. فعندما تنفد المياه، تنتقل العائلات أولا إلى المكان الذي تجد فيه ما تشربه. ويؤدي هذا إلى زيادة الضغط على إمدادات المياه في تلك المناطق والعديد من القطاعات الأخرى، كالإسكان والتعليم والخدمات الطبية والوظائف والبنية التحتية وما إلى ذلك. ويشعل هذا تدريجيا التوترات الاجتماعية المؤدية إلى الصراع أو يفاقمه.
جزء كبير من اليمن سيصبح غير صالح للسكن بعد استنفاد الكثير من طبقات المياه الجوفية المهمة المتوقع في المستقبل القريب
ومع استنفاد العديد من طبقات المياه الجوفية المهمة المتوقع خلال الجيل القادم، سيصبح جزء كبير من اليمن غير صالح للسكن، مما يؤدي إلى خروج السكان من البلاد في النهاية. ومن المرجح أن يشق اللاجئون الذين يعانون من ندرة المياه طريقهم إلى دول مجلس التعاون الخليجي المجاورة، وليس عبر البحر باتجاه الصومال وإثيوبيا التي أرسلت أكثر من 77 آلف مهاجر إلى اليمن في الأشهر الستة الأولى من هذا العام.
وتقدر معظم التحليلات أن 90 في المئة من مياه اليمن تستخدم في الزراعة. ولا تتجدد سوى 2.1 مليار متر مكعب من 3.5 مليار متر مكعب من المياه المستخدمة سنويا، ويأتي الباقي من طبقات المياه الجوفية الأحفورية التي يستغرق تجددها ملايين السنين. وتشهد البلاد اعتماد الكثير من مياه الآبار العميقة لري منتجات التصدير عالية القيمة كالعنب والمانغو، والمحاصيل التجارية المحلية كالقات.
ويرجع الاستغلال المفرط في المقام الأول إلى حفر الآبار العميقة غير المنظم في العقود الأخيرة واستخدام مضخات الديزل ومؤخرا مضخات الطاقة الشمسية لاستخراج المياه. وشجعت سياسات دعم المعدات والوقود هذه العملية التي تكون في الغالب لصالح ملّاك الأراضي الأقوياء.
وتواجه المياه المنزلية أزمة رئيسية أخرى. وكان 47 في المئة فقط من سكان الريف قبل الحرب يحصلون على المياه الصالحة للشرب، وهو رقم يقدر أنه انخفض إلى 31 في المئة الآن. وأصبح وضع الصرف الصحي أسوأ، حيث انخفض من 21 إلى 8 في المئة.
وتمتعت 56 في المئة من الأسر في المناطق الحضرية بالمياه ولكن أكثر من النصف الآن يعتمدون جزئيا على شحنات الشاحنات الخاصة من بين وسائل أخرى.
وتمثل تعز حالة متطرفة حيث أن 40 في المئة من الأسر الموصولة بشبكة البلدية تستقبل المياه مرة كل شهرين، وتمثل تحذيرا للآخرين، خاصة في ما يتعلق بقضية النزوح الحساسة التي يمكن ملاحظتها الآن في عدن أيضا. وأدى تدمير البنية التحتية خلال الحرب إلى تقليص التوزيع الحضري إلى حوالي ربع ما كان عليه. وتفاقمت الأمراض وتضاعفت الوفيات نظرا إلى أهمية المياه النظيفة للصحة. وأصبحت خدمات المياه والصرف الصحي المنزلية الآن غير كافية وتعكس ضعف الدولة على مدى عقود وتأثير الحرب المستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات.
لكن يمكن حل المشكلة. أولا، من المهم أن نتذكر أن مدى توفر المياه ليس متساويا في كل مكان. وهذا ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار في أي تخطيط. ثانيا، نظرا إلى استخدام حوالي 90 في المئة من المياه في الزراعة، من شأن تحويل جزء صغير من هذا إلى الاستخدامات المنزلية وغيرها أن يمكّن اليمنيين من الازدهار في منازلهم. ويجب أن تكون الأولوية لاحتياجات الإنسان من الشرب والأغراض المنزلية الأخرى ثم احتياجات الثروة الحيوانية. ويجب أن يكون توليد الدخل غير الزراعي هو الأولوية التالية، مع التركيز على مجموعة من المشاريع التي لا تحتاج إلى مياه كثيرة. ويتمتع قطاع السياحة، على سبيل المثال، بإمكانات كبيرة، ولكن إدارته يجب أن تكون بطريقة صديقة للبيئة، خاصة بخفض استخدام المياه.
ستبقى الزراعة عنصرا رئيسيا في سبل العيش اليمنية، حيث يعيش 70 في المئة من السكان في المناطق الريفية ويعمل نصفهم تقريبا في الزراعة. وتعتمد حوالي 60 في المئة من الأراضي المزروعة على مياه الأمطار. ويجب أن يتمتع هذا القطاع، الذي أُهمِل لأجيال، على دعم وطني ودولي قوي، بما في ذلك البحث ونشر المحاصيل الأساسية سريعة النضج والمقاومة للجفاف مثل الذرة الرفيعة والقمح والمحاصيل عالية القيمة النقدية. وكل هذه النقاط ضرورية لتمكين الزراعة من إنتاج دخل كاف للملايين من اليمنيين. ويجب أن يقتصر الري بالآبار العميقة على المياه المتبقية المتاحة، وفقط في الحالات التي لا يحرم فيها أصحاب الحيازات الصغيرة الذين يعتمدون على آبار ضحلة من المياه اللازمة لمحاصيلهم.
وتعتبر السياسات اللازمة لتحقيق هذه المبادئ سهلة التصميم. لكن الصعوبات تتشكل في مرحلة التنفيذ الذي يجب أن يعالج المنافسة ويضمن التوزيع العادل بين المستهلكين المنتشرين من المنبع إلى المصب، ويحلّ القضية الحساسة والمعقدة الكامنة في نقل المياه من الريف إلى الحضر، ومنع الأقوياء من احتكار المياه المحدودة المتاحة. ويكون فيه الحكم الجيد هنا ضروريا لفرض إعطاء الأولوية لاحتياجات الأغلبية على الأقلية وفرض مبادئ منصفة على الجميع. وفي السيناريو المثالي، يجب أن يكون ذلك عن طريق المفاوضات والاتفاق، وحتى استخدام قوة الدولة إن لزم الأمر. ويمثل حل أزمة المياه فرصة لكم كقادة لإظهار التزامكم الحقيقي بمستقبل اليمن واحتياجات شعبه ولإثبات خطأ كل من يعتقد أن طموحاتكم تقتصر على القوة والمكاسب الشخصية. لقد حان الوقت لتمنحوا جميعا الأولوية لهذه القضية وإلا سيكون جزء كبير من اليمن غير صالح للسكن في غضون جيل واحد.
العرب