الزيارة الاستثنائية، إذا لم تكن التاريخية، للرئيس بايدن أضافت لبنة ثقيلة إلى التحالف السياسي والعسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة. حيث تبحر في الخلفية حاملات طائرات على متنها قطار جوي يحمل الوسائل القتالية. وسيصل بعد ذلك شيك جميل يتضمن بضع مليارات من الدولارات، يبدو أن الشرخ السياسي الذي حدث بين الدولتين بسبب الانقلاب النظامي بدأ يلتئم. إذا كان تحليل من التحليلات السائدة في إسرائيل هو أن حماس تجرأت على الهجوم غير المسبوق والفظيع لأنها اعتقدت بأن إسرائيل الممزقة من الداخل ضعفت عسكرياً، وأن المقاطعة غير الرسمية التي فرضها الرئيس الأمريكي بايدن على نتنياهو حرمتها من الدعم العسكري، جاءت مبادرة حسن النية المؤثرة للرئيس بايدن لتحطيم هذا التحليل على الأقل.
وقوف أمريكا الكامل وغير المتحفظ إلى جانب إسرائيل له دور استراتيجي حيوي، الذي أساسه باختصار هو “إرسال رسالة”. الهدف الرئيسي لهذه الرسالة هو إيران، وغيرها. لقد حذر بايدن بشكل تهديدي لا لبس فيه كل دولة أو أي طرف يريد مهاجمة إسرائيل، ولم تكن حاجة للتفصيل، ولم يتردد في إعطاء الأوامر للتدخل الأمريكي العسكري المباشر إذا اقتضت الضرورة ذلك.
هذه الرسالة سمعها الهدفان اللذان وجهت لهما، الزعيم الأعلى علي خامنئي ورئيس “حزب الله” حسن نصر الله. حتى الآن امتنع “حزب الله” عن استخدام قدرته الكبيرة والمتقدمة ضد إسرائيل بصورة تبشر بدخول كامل إلى الحرب، أو حتى نيته فعل ذلك. ولا توجد حتى الآن معلومات موثوقة وصادقة حول قرار المنظمة الاستراتيجي للمنظمة. ومن غير الواضح إذا كان أصلاً وجود خط أحمر إيراني أو لبناني، الذي سيؤدي اجتيازه من قبل إسرائيل إلى فتح جبهة في الشمال. هل هناك عدد محدد من القتلى الفلسطينيين الذي لن تستطيع إيران أو “حزب الله” ضبط النفس بعده. هل عملية برية تستهدف تدمير البنى التحتية القيادية والمدنية لحماس في غزة هي التي ستجعل “حزب الله” يطلق آلاف الصواريخ؟ في الوقت نفسه، يمكن التساؤل حول الخط الأحمر العسكري للولايات المتحدة، أي ما هو المحفز الذي سيحرك التعليمات لحاملات الطائرات من أجل استخدام السلاح العظيم. هل إطلاق صواريخ “حزب الله” على إسرائيل سيكون كافياً أو أن مجرد صواريخ إيرانية ستوجه نحو إسرائيل ستدفع الدولة العظمى الوحيدة في العالم إلى استخدام قوتها. الأمر غير المشكوك فيه هو أنه إذا تطورت معركة من هذا النوع، فهذا يعني أن رسالة الردع لم تستوعب.
إيران و”حزب الله” هي خزائن محصنة في كل ما يتعلق بفهم نواياهما، وبالأحرى قراراتهما. مثلاً، رغم المعلومات الكثيرة عن المشروع النووي الإيراني فلا توجد أي جهة استخبارية يمكنها القول ما هو قرار إيران الاستراتيجي، هل هو إنتاج السلاح النووي أم فقط بناء نفسها كدولة حافة نووية. ولكن حتى في المواضيع الأقل أهمية، تجد الجهات الاستخبارية صعوبة في معرفة نوايا إيران. هكذا، بقيت وبحق في موقف الدولة المشبوهة. ولكن ليس من نافل القول التذكير بأنه منذ انتهاء الحرب بين إيران والعراق في 1988، بعد ثماني سنوات من القتال الدموي وبدون أي إنجازات على الأرض، لم تشن إيران حرباً مباشرة ضد أي دولة أخرى، خصوصاً ضد دولة عظمى. تدخلها المباشر في الحرب في سوريا لم يكن ضد دولة معادية، بل مساعدة للنظام السوري ضد “العدو الداخلي”. حتى إن طموحها لتصدير الثورة الإسلامية إلى العالم العربي والإسلامي السني تعرض لهزيمة كبيرة: جميع الدول الإسلامية السنية وقفت ضد هذا التوجه.
أقامت طموحها إلى تحكمها وتأثيرها في المنطقة عن طريق المبعوثين والامتدادات، ومنظمات ومليشيات أقيمت لترسيخ معاقل سيطرتها السياسية في دول متنازعة مثل لبنان والعراق والسودان واليمن. ولكنها اعتمدت في هذه الدول على انتهازية سياسية داخلية لتعزيز مكانتها، بدون استطاعتها تصدير أيديولوجيتها إلى هذه الدول. حتى في العراق، الذي معظم سكانه من الشيعة والذي بنت فيه إيران حضوراً قوياً، عسكرياً وسياسياً، هي تسير بحذر للحفاظ على علاقة سليمة بين الأقلية السنية والأكثرية الشيعية، وهي تواجه القوات الشيعية، الدينية والسياسية، التي تعارض “مقاربة إيران”. إضافة إلى ذلك، مصالحها السياسية جعلت الدولة الشيعية تقيم علاقات وثيقة مع دول سنية مثل تركيا وقطر والإمارات، ومؤخراً مع السعودية – حتى مع نظام طالبان في أفغانستان – كل هذه أنظمة سنية ومنها دول تقمع الأقلية الشيعية التي تعيش فيها، ولبعضها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
أقامت إيران بصورة مشابهة علاقات مع منظمة حماس و”الجهاد الإسلامي”، وهما المنظمتان السنيتان اللتان لهما أيديولوجيا متشددة، واللتان تعتبران الشيعة طائفة منحرفة يجب محاربتها. ولكن التقاء المصالح السياسية والعسكرية أقوى من الأيديولوجيا، وهو ما أوجد هذا التحالف، الذي هو أيضاً غير متجانس ولم يضمن دائماً دمج إيران بالنضال الفلسطيني.
في كل ما يتعلق بنشاطاتها في الساحة التنظيمية الفلسطينية، فتعدّ إيران الظهر القوي لـ “الجهاد الإسلامي”، لكن في العلاقات بينها وبين حماس شهدت هبوطاً وانحداراً، نبعت من خلافات داخلية في حماس. القطيعة الأشد بين حماس وإيران حدثت في 2012 عندما قررت حماس برئاسة خالد مشعل، قطع العلاقات مع سوريا على خلفية المذبحة التي نفذها بشار الأسد ضد أبناء شعبه. كان لهذه الخطوة ثمن اقتصادي وعسكري كبير من ناحية حماس. وقد اضطر قادتها إلى إيجاد مصادر تمويل وأماكن إقامة جديدة لأنفسهم. احتلت قطر وتركيا مكان سوريا ولبنان، بل تحولت تركيا إلى راعية للقيادة، سواء في غزة أو خارجها. لذلك، كانت هناك تأثيرات على التطورات داخل قيادة حماس. قضية “الراعين” الأجانب خلقت في المنظمة ثلاثة تيارات أساسية متخاصمة: تيار يحيى السنوار الذي حصل على دعم من قطر، ومجموعة خالد مشعل التي حصلت على الدعم من تركيا، ومجموعة إسماعيل هنية وصالح العاروري المخلصة لإيران رغم إقامة العاروري في تركيا حتى فترة متأخرة. كان لهذا التقسيم السياسي تأثيرات أيضاً على نشاطات حماس العسكرية. فيحيى السنوار مثلاً رفض طلب إيران الرد على هجمات الجيش الإسرائيلي في جنين ضد “الجهاد الإسلامي”، لأنه بكونه زعيم حماس في غزة، كان يتطلع إلى الحفاظ على حكمه بواسطة قضايا اقتصادية. وحسب أقوال جهات في حماس، التي أوضحت تصرفه في وسائل الإعلام العربية، فقد خاف من رد إسرائيلي سيدمر ما حاول ترميمه. وجد السنوار نفسه في صراع سياسي صعب ضد هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس ورجل إيران، عندما أبعد شخصيات مقربة منه عن غزة مثل خليل الحية وفتحي حماد وصلاح البردويل. وقفت أمام ناظريه، حتى الحرب، انتخابات قيادة المنظمة التي كان مخططاً إجراؤها في 2025 والتي تطلع فيها السنوار إلى أن يحظى بمنصب رئيس المكتب السياسي بدلاً من هنية، الذي وعد صالح العاروري بهذا المنصب.
التهمت الحرب طبعاً هذه الأوراق السياسية. وغير معروف مَن مِن هؤلاء الزعماء سيبقى على قيد الحرب بعدها. ولكن هذه الصراعات السياسية التي استمرت تقريباً إلى حين بداية الحرب تطرح سؤالاً ليس فقط إلى أي درجة إيران تعرف تفاصيل الخطة العملياتية التي أعدها محمد ضيف خلال فترة زمنية طويلة، بل أيضاً إلى أي درجة كانت قيادة حماس السياسية أو على الأقل جزء منها، مشاركة فيها. هذه الأسئلة الآن هي موضوع لتحقيق استخباري وتاريخي. ولكن الجانب العملي والمقلق يقتضي فحص معنى انهيار حماس من ناحية إيران. مقابل علاقاتها مع “الجهاد الإسلامي”، الذي تعتبره مليشيا عسكرية محلية والذي قدرته الاستراتيجية وتأثيره السياسي محدود، فإن حماس منحت إيران معقلاً وأداة تأثير سياسية في المجال الفلسطيني، وحتى إذا تم تدمير بناها التحتية في غزة فقد تم إعداد مهمات لها قد تنفذها من لبنان أو سوريا. السؤال هو: في أعقاب الحرب، هل ستقرر إيران رؤية حماس منظمة “خاسرة”، ومن الأفضل عدم الدخول في حرب من أجلها، والمخاطرة بضربة عسكرية على أراضيها، أو ضد ممتلكاتها الحيوية في لبنان وفي سوريا؟ هنا تكمن أهمية “الرسالة” الأمريكية التي يمكن أن تساعد طهران على أن تقرر.