حاول أنطونيو غوتيريش تقديم خطاب متوازن حول ما يحصل في غزة حاليا فأدان قيام حركة «حماس» بقتل وخطف مدنيين، ولكنّه أشار أن هجمات الحركة «لم تحدث من فراغ» وذلك لأن الفلسطينيين منكوبون باحتلال إسرائيلي «خانق» منذ 56 عاما. إضافة إلى ذلك، قال غوتيريش، إن الهجمات التي تعرضت لها إسرائيل في 7 تشرين أول/أكتوبر الجاري «لا تبرر العقاب الجماعي الذي تشهده غزة» متحدثا عن «انتهاكات واضحة للقانون الإنساني الدولي».
قدّم غوتيريش توصيفا سياسيا دقيقا للأحوال التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة منذ 1967، الذين «رأوا أراضيهم يتم التهامها باستمرار بفعل المستوطنات تجتاحها أعمال العنف، كما شهدوا خنق اقتصادهم، ونزوح شعبهم، وتدمير منازلهم» وشهدوا «أن آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم أصبحت تتلاشى».
تعددت ردود الفعل الإسرائيلية على تصريح غوتيريش، فألغى وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين اجتماعا معه، ودعاه «للاستقالة فورا» لأنه «غير مؤهل» لقيادة المنظمة الدولية، أما سفير إسرائيل للأمم المتحدة، غيلاد أردان، فرد على غوتيريش بإعلان رفض إسرائيل إعطاء تأشيرة دخول لمارتن غريفيث، مبعوث غوتيريش للشؤون الإنسانية، وكذلك وقف إصدار تأشيرات دخول لممثلي الأمم المتحدة كافة. ختم أردان تصريحه بالقول: جاء الوقت لتعليمهم درسا!
غطرسة المسؤولين الإسرائيليين في التعامل مع «الأمم المتحدة» (أو مع أي دولة في العالم، بما فيها كبار رعاتها الغربيين) معروفة، غير أن عملية «حماس» الأخيرة أعطت زخما كبيرا لهذه الغطرسة كونها أمّنت لحكومة بنيامين نتنياهو تضامنا غربيا واسعا، فجعلت مسؤوليها يضيفون حرزا جديدا على حصانتهم المفترضة من القوانين الإنسانية الدولية.
في تبرير جرائم الحرب الفظيعة ضد الفلسطينيين في غزة قام المسؤولون الإسرائيليون بضم عملية «حماس» العسكرية إلى قضية المحرقة اليهودية، وقد استجابت الحكومات الغربية لهذه المقاربة لأسباب عديدة، بينها الشعور بالإثم والمسؤولية عن تلك المحرقة (كما هو حال ألمانيا خصوصا)؛ والتأثير السياسي والمالي الكبير للجاليات اليهودية (في مجمل الدول الغربية) وارتباط إسرائيل بالتاريخ الاستعماري والاستيطاني الغربي، وكذلك بالمواجهات السياسية – الثقافية الكبرى التي تبعت هجمات «القاعدة» في نيويورك، واحتلال العراق وأفغانستان، وفي انتشار التنظيمات الجهادية المسلحة وعملياتها في أنحاء العالم، ومساهمة هذه القضايا في فشل الجماهير العربية في التخلّص من النظم العسكرية الدكتاتورية، وصولا إلى تشديد الطغيان والحروب الأهلية والطائفية في البلدان العربية.
ضمن هذا السياق التاريخي الواسع يبدو طبيعيا، أن تتراكم لدى الأمم المتحدة، التي يشتغل مبعوثوها ومنظماتها العديدة في المنطقة، معرفة عميقة بما يحصل في المنطقة العربية، وضمن حيز الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. هناك أربعون قرارا أمميا، صدرت عن مجلس الأمن منذ عام 1948، تبدأ من قرار رقم 57 الذي يعرب فيه مجلس الأمن عن الصدمة من اغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين الكونت فولك برنادوت الذي «اقترفته جماعة مجرمة من الإرهابيين» والمقصود مجموعة شتيرن الإسرائيلية، وصولا إلى القرار رقم 2334 لعام 2016 الذي «حث على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية».
بعد موجة الضغط عليه، عبّر غوتيريش عن «صدمته» حيال «تحريف» تصريحاته بشأن «حماس» وأضاف أن «من الخطأ قول إنني كنت أبرر أفعال حماس الإرهابية» وهو أيضا قول متوازن لشخص يفترض أن يعبّر عن مؤسسة أممية، ولذلك لن يرضي إسرائيل، ولا رعاتها الغربيين، لأن المطلوب، من حظر ربط ما يحصل بإسرائيل، هو إلغاء تاريخ الشعب الفلسطيني، بالتزامن مع العمل على إلغاء هذا الشعب فعليا، وهو ما نراه يجري حاليا أمام أعيننا.