دخلت هدنة الأيام الأربعة التي أُعلن عنها بين حماس وإسرائيل، حيز التنفيذ في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. وقد تضمن الاتفاق تحرير 150 طفلا وامرأة من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مقابل 50 امرأة وقاصرا من الرهائن الإسرائيليين لدى حماس. فإلى ماذا تشير بنود الاتفاق؟ وهل سيؤثر الاتفاق في سير الحرب؟
يقينا لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة الإمكانيات الذاتية والموضوعية بين كل من حماس وإسرائيل، سواء من ناحية القوة العسكرية والإمكانات المادية والحاضنة الدولية والماكنة الإعلامية، فإسرائيل تتفوق بشكل واضح في كل هذه المجالات، لكن القراءة الموضوعية لبنود الاتفاق، تشير بلا لبس إلى أن حماس هي من فرضت شروطها على إسرائيل، فمراجعة مواقف هذه الأخيرة يبين أنها كانت تقول وبشكل واضح، إن أية هدنة أو وقف لإطلاق النار لن يتم، إلا بعد القضاء على حماس وإطلاق سراح جميع الرهائن والأسرى الإسرائيليين، حتى إن وزير الدفاع كان قد صرّح قبل أسبوعين بأن حماس انهارت، وبدأت عناصرها تهرب مع المدنيين إلى جنوب غزة.
عندما لا تنتهي حماس، بل يتم التفاوض معها على الرهائن، ويخرجون بإرادتها لا بإرادة الطرف الآخر، فإن كل ذلك ستكون له تداعيات كبيرة على المشهد السياسي داخل إسرائيل
لكن ها هي إسرائيل بكل جبروتها العسكري مضافا إليه جبروت الولايات المتحدة والغرب، تجلس إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة مع حماس، المُصنّفة إرهابيا من قبلهم للاتفاق على إطلاق سراح الرهائن، بعد أن عجزوا تماما عن الوصول إلى أماكن احتجازهم، ليس هذا وحسب، فقد وضعت إسرائيل هدفا جوهريا آخر في حملتها العسكرية على قطاع غزة، وهو منع دخول الغذاء والدواء والوقود وكل مستلزمات الحياة، لكن حماس أيضا وضعت شرطها في هذا المجال، واليوم بدأت المساعدات تدخل إلى القطاع. وهنا نحن أمام موقف جديد يشكل علامة فارقة على أرض الواقع، ففي حين عجزت كل القوانين الدولية ومنظمات حقوق الإنسان وحتى قوانين الحرب، عن إجبار إسرائيل على إطلاق سراح أسير فلسطيني واحد، ها هي حماس تُجبرها على إطلاق سراح 150 أسيرا، بل تفعل ما عجزت عنه القوانين الدولية أيضا، حين أجبرت إسرائيل على الموافقة على إدخال المساعدات الغذائية والدوائية للسكان، وبذلك تكون قوة حماس وليست قوة إسرائيل وحلفائها، هي التي تمت ترجمتها في بنود اتفاق الهدنة الأخيرة. إذن عندما لا تنتهي حماس، ويتم التفاوض معها على الرهائن، ويخرج هؤلاء بإرادتها وليس بإرادة الطرف الآخر، فإن كل ذلك ستكون له تداعيات كبيرة على المشهد السياسي داخل إسرائيل، فهو فعل لا يصب في صالح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ولا في صالح حكومته ولا حتى في صالح قيادة الجيش.. كما أن الجمهور الإسرائيلي سيكتشف لاحقا، أن هناك عددا من رهائنهم وأسراهم قُتلوا بالقصف الإسرائيلي على غزة. عندها ماذا ستقول القيادات السياسية والعسكرية والأمنية لهذا الجمهور، وهي التي وضعت إطلاق سراح الرهائن والأسرى كأحد أهداف الحرب التي شنتها على غزة؟ وعليه فإن تأثيرات اتفاق الهدنة على سير الحرب المفروضة من قبل إسرائيل سيكون محدودا، لأن إيقافها يمس المستقبل السياسي والعسكري للقادة الإسرائيليين، ربما يتم التمديد لهذا الاتفاق، لإخراج المزيد من الرهائن لدى حماس، بغية امتصاص غضب الجمهور الإسرائيلي، الذي يخرج يوميا بتظاهرات تدعو إلى إعادة الرهائن والأسرى بأي ثمن. كما أن هناك معضلة كبرى أمام صانع القرار الإسرائيلي، وهي معضلة الأسرى العسكريين، فحماس ترفض الإفراج عنهم إلا بعد إيقاف القتال، ومبادلتهم بكل الأسرى الفلسطينيين الموجودين في سجون الاحتلال، ومع ذلك فإن رئيس الوزراء ووزير دفاعه ما زالوا مصرين على القضاء على حماس، وعليه ربما ستستمر الحرب، إلا إذا ازداد عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين، وكذلك تصاعد الضغط من قبل عوائل الأسرى العسكريين. أما بالنسبة لحماس فليس لديها خيار آخر غير الاستمرار بالقتال المفروض عليها، خاصة أن الطرف الآخر ما زال يقول بأن هدفه الأول هو القضاء على حماس، لكن السؤال المُلح الآن هو، ما هو الموقف الأمريكي من الهُدنة؟ وهل لديه رغبة حقيقية بجعلها محطة في إيقاف الحرب؟
قيل إن الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصل 13 مرة برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، خلال الأيام التي سبقت التوصل إلى اتفاق الهدنة. وهذا يعطي مؤشرا على أن بايدن كان يضغط على نتنياهو، تنفيسا عن الضغط الذي تواجهه إدارته بسبب دعمها لإسرائيل، فعندما تعرقل إطلاق سراح الرهائن في اليوم الثاني من الهدنة، اتصل بايدن بأمير قطر طالبا المساعدة في تذليل العقبات، لكن وزير خارجيته قال إن هذه الهدنة مؤقتة، وستواصل الولايات المتحدة تقديم العون للجيش الإسرائيلي في مواصلة ملاحقة حركة حماس. إذن يبدو أن هناك محاولة أمريكية لامتصاص ردود الفعل، التي نشأت بفعل صور الدمار والقتل في قطاع غزة، وتنامي الاعتراضات حتى داخل الإدارة الأمريكية، ولعل الأبرز في هذا المجال، كان قيام العديد من الموظفين الحكوميين والمساعدين لأعضاء في الكونغرس، بإصدار رسالة مباشرة إلى بايدن ووزير خارجيته، يطالبون بتغيير سياسة الدعم غير المشروط، الذي تقدمه واشنطن إلى إسرائيل في حربها على غزة، لكن الرهان على الموقف الأمريكي في جعل هذه الهدنة وقفا دائما لإطلاق النار، هو نوع من التعثر بالحجر نفسه.. لأن القوى التي تحمل هذا التوجه هي تقول ولا تفعل. فإيقاف الحرب يتطلب تحديد هدف سياسي تحمله كل القوى المشتركة في هذه الحرب، فما هو الهدف السياسي الذي يمكن أن يفرض إيقاف الحرب؟ نعم تحدث الرئيس الأمريكي عن حل الدولتين الآن، كما تحدث بالاتجاه نفسه في حملته الانتخابية قبل ثلاث سنوات، وقال إنه يؤمن بحل الدولتين، لكنه لم يفعل أي شيء في هذا الاتجاه لحد الآن، وبالمناسبة رؤية حل الدولتين تبناها الحزب الديمقراطي ككل، وسمعناها من أوباما وكلينتون وغيرهم، لكن ماذا فعل الحزب الديمقراطي لتفعيل هذا الحل؟ لا شيء، فحل الدولتين يتطلب الضغط على إسرائيل لوقف بناء المستوطنات، لمنعها من الاستيلاء على أراضي وأملاك الفلسطينيين، ولمنعها من قتل الشعب الفلسطيني، وهذه كلها لم تحدث. اليوم هنالك أكثر من مليون مستوطن في الضفة والقدس. فكيف يمكن حل الدولتين؟ كما إن الكلام عن حل الدولتين لا يمكن في ظل حكومة إسرائيلية، هي من أكثر الحكومات تطرفا في عمر هذا الكيان، هي لا تؤمن بدولة فلسطينية، وهي تريد القضاء على مبدأ الدولة الفلسطينية، وهذه هي الرؤية والاستراتيجية والهوية السياسية لهذه الحكومة، واليوم الصوت الأعلى في الكنيست هو لنتنياهو وحكومته العسكرية، وهم أوضحوا أنه رغم هذه الهدنة المؤقتة، سوف يعاودون إطلاق العملية العسكرية البرية والقصف على القطاع، بالإضافة إلى تشجيع إسرائيل للعمليات التي يشنها قطعان المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، إذن نحن أمام كلام يطلق على عواهنه من دون مؤشرات على أرض الواقع.