بدأت المبادرة الأطلسية التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس تفرض إيقاعها بمعايير متناسقة اتخذت أبعادا شمولية تمازجت فيها الرؤية الإستراتيجية، والرغبة الصادقة في نفض غبار الصحراء عن مقدرات عدد كبير من الدول الأفريقية، وخاصة منها تلك التي ليس لها منفذ بحري.
وترنو هذه المبادرة التي كثُر الاهتمام بها خلال الأيام القليلة الماضية، إلى فتح الباب على مصراعيه أمام شراكات متعددة، تُوفر أرضية للتكامل الاقتصادي الأفريقي، عبر فك عزلة دول الساحل والصحراء (بوركينا فاسو والنيجر وتشاد ومالي)، من خلال تمكينها من منفذ بحري هي أحوج ما تكون إليه في هذه المرحلة.
وقد جاءت المبادرة واضحة في دلالاتها، وصريحة في تفاصيلها، كما في عناوينها التي تعكس إدراكا مغربيا بالمتغيرات التي تُحيط بأفريقيا في هذه المرحلة التي تتسم بتحولات متعددة الأبعاد، تستدعي بالضرورة مقاربات سياسية واقتصادية وكذلك أمنية ذات طابع إستراتيجي.
وتقتضي هذه المقاربات الانسجام مع الاهتمام المغربي المتزايد بأفريقيا الذي أعطى زخما لأعمال منظمة الاتحاد الأفريقي لم يكن متاحا في السابق، وشكل حتى الآن نوعا من التمازج الفعلي بين السياسي والاقتصادي والأمني وفق رؤية متكاملة بأبعاد إستراتيجية أملتها التحولات الكبرى بانعطافاتها الآنية وانعكاساتها المستقبلية.
وليس أدل على ذلك، أن هذه المبادرة التي اتخذت سياقا متنوعا بدا مغايرا لأنماط المبادرات التي عرفتها المنطقة، جاءت لترسم معادلات جديدة اقتضتها طبيعة المرحلة، والفهم الحقيقي لاحتياجات دول المنطقة التي تريد إعادة تموضعها إقليميا ودوليا، ولا تخفي رغبتها الملحة في التخلص نهائيا من الموروث الاستعماري الذي مازال يُعيق انطلاق اقتصاداتها نحو أفق أوسع.
ولهذا السبب، بدأ صدى هذه المبادرة يتردد في عدة عواصم من واشنطن إلى مدريد مرورا بالعواصم الأفريقية المعنية بها، وسط حراك دبلوماسي مغربي نشيط يتسم بالهدوء والواقعية لتوفير شروط إنجاح المبادرة التي نحسب أنها ستُعيد تشكيل المشهد الجيواستراتيجي لأفريقيا.
وتستهدف هذه المبادرة التي تعكس إلى حد بعيد تمسك المغرب بعمقه الأفريقي، وقدرته على المساهمة في رسم إيقاع التحولات في أفريقيا، وخاصة منها منطقة الساحل والصحراء، إرساء تكامل واندماج حقيقيين في منطقة أفريقيا الأطلسية التي تستحوذ وحدها على نحو 55 في المئة، من إجمالي الناتج المحلي الأفريقي.
كما أن اقتصادات تلك الدول الأفريقية المطلة على الأطلسي تستحوذ على 57 في المئة من التجارة الحرة في أفريقيا، وهي قادرة على جذب 60 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يعني أن هذه المبادرة ستُعطي قيمة مضافة تدفع إلى الجزم بأن مرحلة جديدة بدأت تتبلور لمفهوم الشراكة على قاعدة رابح – رابح في هذه المنطقة المطلة على الأطلسي.
ويتضح من خلال العناوين الكبرى لهذه المبادرة أنها تأخذ بعين الاعتبار كل الحسابات والمعادلات التي تستهدف التشبيك الإقليمي لتعزيز أسس التعاون الإقليمي من منطلق ترتيب الأولويات عبر التركيز على الجانب الإستراتيجي الذي يبقى صالحا لوقت طويل للعديد من المقاربات.
وتكتسي مسألة ترتيب الأوليات أهمية بالغة، بل تُعد نقطة مفصلية، حيث سعى المغرب قبل ذلك إلى توفير قاعدتين أساسيتين لتجاوز الإكراهات التي قد تعيق تقدم هذه المبادرة، تناولتا البعدين الاقتصادي والأمني، وفق معادلات ناشئة تكون فيها قواعد الحسابات واضحة وجلية.
وفي هذا الصدد، عمل المغرب على إعادة ترتيب البعدين المذكورين، عبر رسم حدودهما، دون إغفال تداخل العوامل الخارجية عن المنطقة في رسم جزء منها، حيث سعى على مستوى البعد الاقتصادي إلى إطلاق مشروع خط أنابيب الغاز من نيجيريا إلى الساحل الأطلسي المغربي، وعلى المستوى الأمني كان له دور كبير في تأسيس “منظمة حلف شمال الأطلسي الأفريقي”.
◙ المبادرة تعكس إدراكا مغربيا بالمتغيرات التي تحيط بأفريقيا في هذه المرحلة التي تتسم بتحولات متعددة الأبعاد.
وخط أنابيب الغاز المغرب – نيجيريا هو مشروع إستراتيجي ليس منفصلا عن المبادرة الأطلسية، بل هو جزء منها، وهو سيعبر 13 دولة أفريقية هي نيجيريا وبنين وتوغو وغانا وساحل العاج وليبيريا وسيراليون وغينيا وغينيا بيساو، وغامبيا والسنغال وموريتانيا والمغرب قبل أن يصل إلى إسبانيا وعبرها إلى بقية الأسواق الأوروبية.
ويبرز الترابط بين هذا المشروع والمبادرة الأطلسية من خلال تزويد خط أنابيب الغاز المغرب – نيجيريا لثلاث دول غير ساحلية تنتمي إلى منطقة الساحل والصحراء الأفريقية بالغاز، هي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي الدول التي ستمكنها المبادرة المغربية من منفذ بحري.
ويُعتبر هذا المشروع الذي قال عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس إنه مشروع “… من أجل السلام والاندماج الاقتصادي الأفريقي والتنمية المشتركة، مشروع من أجل الحاضر والأجيال القادمة”، أطول أنبوب غاز بري وبحري في العالم، حيث يصل طوله إلى أكثر من 5600 كيلومتر.
وستستفيد من هذا المشروع منطقة غرب أفريقيا كلها التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 440 مليون نسمة، حيث يُتوقع أن تبلغ طاقته الاستيعابية ما بين 30 و40 مليار متر مكعب سنويا، بمعدل 3 مليارات قدم مكعبة من الغاز يوميا، وتقدر تكلفة إنجازه بحوالي 25 مليار دولار.
أما بالنسبة للموضوع الأمني، فإن المغرب ومن منطلق وعيه بالمخاطر والتهديدات الأمنية في المنطقة، عمل على تأسيس “منظمة حلف شمال الأطلسي الأفريقي” خلال اجتماع عُقد في الرباط يوم الثامن من يونيو 2022 بمشاركة 21 دولة أفريقية مطلة على المحيط الأطلسي الأفريقي.
وتهدف هذه المنظمة إلى تكريس الحوار السياسي والأمن والسلامة والعمل المشترك ضد التهديدات الإرهابية، وتأمين أنبوب الغاز من نيجيريا إلى المغرب، إلى جانب صياغة خطط العمل الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والقرصنة البحرية والهجرة غير الشرعية.
وعلى هذا الأساس ليس غريبا، أن تكثف الدبلوماسية المغربية من نشاطها في كل الاتجاهات لبلورة آليات إنجاح هذه المبادرة، في الوقت الذي أطلق فيه عدد من الأكاديميين والخبراء المغاربة يتقدمهم رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية عبدالرحيم المنار السليمي لجنة تحضيرية لتأسيس إطار مؤسساتي تحت اسم “منتدى التحليل الإستراتيجي لشؤون الأطلسي ودول الساحل”.
وجاء الإعلان عن تشكيل هذه اللجنة بعد سلسلة لقاءات نظمها المنتدى على مدى ثلاثة أيام في مدن العيون والسمارة وبوجدور من الصحراء المغربية، حول المبادرة “الأطلسية الأفريقية وإدماج دول الساحل… تحليل الأبعاد الإستراتيجية الوطنية والإقليمية والدولية”.
وخلال سلسلة تلك اللقاءات التي تميزت أعمالها بتفاعل فكري أكاديمي عميق بحضور وفود من تونس والكويت والإمارات، شدد عبدالرحيم المنار السليمي على أن المبادرة الأطلسية المغربية “ستفرز ديناميات تنموية ستستفيد منها أفريقيا، وكذلك العالم العربي، وأميركا اللاتينية”.
واعتبر أن رؤية العاهل المغربي لإطلاق هذه المبادرة التي تروم جعل المغرب بوابة لدخول دول الساحل والصحراء الأفريقية إلى الأطلسي، من شأنها تعزيز التعاون جنوب – جنوب على شراكة رابح – رابح.
ومن جهته، ذهب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بقلعة السراغنة محمد الغالي إلى القول إن هذه المبادرة الأطلسية الأفريقية ستكون رافعة تنموية اقتصادية هامة، وهي بمثابة بوابة لانفتاح دول أفريقيا جنوب الصحراء على العالم، وهي بذلك تنسجم مع السياسة الأفريقية للمغرب، التي ترنو إلى “فك العزلة عن دول الساحل والصحراء الأفريقية”.
وعلى هذه القاعدة، يمكن القول إن الرهان على المسار الذي أطلقته هذه المبادرة يتجاوز في مجمل جوانبه التطلعات الوطنية للمغرب، إلى التأسيس لأبعاد إستراتيجية إقليمية ودولية يراكم من خلالها مساحة الإنجازات التي تتعدد وتتغير وفق معادلة الإرادة والرغبة في المساهمة في رسم خارطة اقتصادية تكاملية جديدة ستفرضها التحولات الجيواستراتيجية التي تشهدها المنطقة.
العرب