بعد عمليتي “مخلب النمر” و”مخلب النسر” اللتين نفّذتهما القوات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية، وكانتا مثار خلاف بين أنقرة وبغداد في السنوات الماضية، يبدو أن تركيا نجحت، على نحوٍ بدا مفاجئاً لكثيرين، في إقناع العراق بمعادلة “الأمن مقابل المياه والتنمية”، واقتربت من الاتفاق على دخول العراق شريكاً كاملاً معها في عملية “المخلب القفل”، ثالث عملية عسكرية، لاجتثاث حزب العمّال الكردستاني بي كي كي” الذي يعتبره الأميركيون والغرب “منظمّة ارهابية”، وتدمير معاقله، وستكون الخطوة التالية إنشاء “منطقة عازلة” بحدود 30- 40 كيلومترا في العمق العراقي، سيُعلَن عنها في أثناء الزيارة المرتقبة للرئيس التركي أردوغان إلى بغداد.
واللافت أن هذه الترتيبات التي جرى التوافق عليها في اجتماعات بغداد أخيراً بين البلدين، ولم تعلن كامل تفاصيلها، تجرى بعد 20 عاما من خلافات بغداد مع أنقرة على المياه وأمن الحدود التي كانت تتصاعد مرّة، وتخفُت أخرى، حيث بدا العراقيون خلالها مصرّين على طرد القوات التركية التي أقامت عشرات القواعد العسكرية عبر الجبال في شمال العراق، وحتى في مناطق متقدّمة من محافظة نينوى، ووصل الأمر إلى درجة تنظيم مليشيات مرتبطة بإيران هجمات على تلك القواعد، وسط مباركة أطراف سياسية عراقية فاعلة.
اللافت أكثر ما تردّد عن أن مليشيات “الحشد الشعبي” التي كانت تقيم علاقة تحالفٍ مع الحزب المذكور لصالح إيران ستشارك في الأعمال العسكرية، كما أن الخطوات المعلنة حظيت برضا ودعم “الإطار التنسيقي” الحاكم الذي يريد استخدام هذه الورقة للتغطية على الصراعات المحتدمة داخله.
وإذا ما اعتبرنا اتفاق بغداد – أنقرة، إذا ما حصل، محاولة من العراق لرسم علاقاته مع جيرانه على قاعدة المنافع المتبادلة، والطموح التركي لإغلاق مشكلة حادّة شغلت الحاكم التركي سنوات طويلة، فإن النظر الى الاتفاق من الزاوية الأخرى يمكن اعتباره محاولةً لاستباق ما يمكن أن تصل إليه ترتيبات ما بعد حرب غزّة على صعيد المنطقة، حيث تتحفّز القوى الدولية والإقليمية للقيام بدور، أو للحصول على مكاسب، وتظهر هنا إيران طرفاً رغم أن دورها لا يزال مُضمرا، ولم يظهر إلى العلن بعد، وهي التي كان الوجود العسكري التركي في العراق يؤرّقها دائما، ويثير قلقها في وقتٍ تعتبر فيه العراق ملعبها الذي لا يمكنها أن تتسامح مع أي طرف دولي أو إقليمي في أن يلعب فيه من دون التوافق مع أجندتها.
تجاهل المفاوض العراقي الانتهاك الخطير لسيادة البلاد المتمثل في الوجود الثابت والمحتمل لآلاف الجنود الأتراك في عمق 30- 40 كيلومترا على أرض العراق
وهناك أميركا التي تملك القرار الاستراتيجي في المنطقة، لا بد أن تكون قد أعطت، هي الأخرى، مباركَتها الاتفاق، وهي التي تعمل ليل نهار على تبريد سخونة الأحداث من حول إسرائيل المنشغلة بحرب إبادة غزّة، وهذه النقطة توحي أيضا بتوافق أميركي- إيراني، وعلى استعداد الجانبين للتفاهم في قضايا أخرى، منها الإقرار بدور إقليمي ما لطهران يرضي إسرائيل، ويتوافق مع مخطّطاتها. هنا ينبغي أن تلفت كل هذه التداعيات انتباه الحاكم العربي الذي يعاني من قصور الرؤية، والجهل بما يدور ليس على بعد أمتارٍ من الأرض العربية إنما أيضا في داخلها، وفي عمقها الاستراتيجي.
قراءة ما لم يُذكر في محاضر اجتماعات بغداد تدفع إلى تقرير حقيقة ماثلة، أن العراق، وبعد 20 عاما من العزو الأميركي المقترن بالهيمنة الإيرانية المباشرة على قراره، لا يزال يتخبّط في مسار علاقاته الدولية، ولا يزال أسير النظرة الأحادية التي تجعلك، كما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، ترى الشجرة فقط، إنما ما هو مطلوب منك كي تجد حلّاً لمشكلة أن ترى الشجرة والغابة في وقت واحد، كي تستقيم الرؤية، ويصحّ القرار.
وما كشف عنه ليس سوى عيّنة لهذه النظرة، إذ تجاهل المفاوض العراقي الانتهاك الخطير لسيادة البلاد المتمثل في الوجود الثابت والمحتمل لآلاف الجنود الأتراك في عمق 30- 40 كيلومترا على أرض العراق. والميزة الاستثنائية التي يمنحها الاتفاق المحتمل لتركيا في التدخّل في الشأن العراقي، والعبث في الخرائط العراقية بما يخدم مخطّطاتها العرقية المعروفة التي تتذاكى بها على العراقيين كلما ضعف دور العراق، وتماهت قرارات حكّامه مع رغبات الحاكم الأجنبي.
يبقى السؤال الصعب التالي مطروحاً من دون جواب، في الوقت الحاضر على الأقل: أما كان في إمكان العراقيين حظر الحزب المذكور، وإغلاق ملفه من دون الدخول في عملية مقايضة تحمل شوائب وشكوكاً وعلامات استفهام كثيرة؟