تصاعدَت أخيراً حدّة الانتقادات الشفوية الموجهة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من الرئيس الأميركي، جو بايدن. ففي مقابلةٍ له مع محطّة إم إس إن بي سي، الأميركيّة، لم يكتف بايدن بالقول إن الطريقة التي يدير بها نتنياهو حربه الحالية على قطاع غزّة “تضرّ إسرائيل أكثر مما تنفعها”، لكنه ذهب إلى حد تحذير نتنياهو من إقدام قواته على اجتياح مدينة رفح التي يحتشد فيها ما يقرب من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني، معتبراً ذلك بمثابة “خطّ أحمر” لا ينبغي تجاوزه. ولأنه لا توجد خلافات حقيقية بين بايدن ونتنياهو بشأن ضرورة تحقيق الأهداف في هذه الحرب، خصوصاً ما يتعلّق منها بتدمير البنية العسكرية لحركة حماس وإسقاط حكمها في غزّة واستعادة الأسرى المحتجزين في القطاع، فضلاً عن أن بايدن لم يتردّد لحظة في تقديم دعم غير محدود لمساعدة نتنياهو على تحقيق تلك الأهداف في أسرع وقت ممكن، فمن الطبيعي أن تثور أسئلة كثيرة حول طبيعة (وحدود) التغير الذي طرأ على موقف إدارة بايدن تجاه حكومة نتنياهو، وكذلك بشأن آفاق هذا التغير ونتائجه المحتملة، سواء بالنسبة لمسار حرب غزّة نفسها أو بالنسبة لمستقبل العلاقات الأميركية الإسرائيلية ككل.
يعد الدعم الذي قدّمته إدارة بايدن للحكومة الإسرائيلية فور وقوع “طوفان الأقصى” غير مسبوق في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ربما باستثناء الدعم الذي قدّمته إدارة نيكسون – كيسنجر للحكومة الإسرائيلية فور اندلاع حرب أكتوبر 1973. فعلى الصعيد العسكري والاستراتيجي سارعت إدارة بايدن، بعد أقلّ من 24 ساعة من وقوع هجوم 7 أكتوبر، بإرسال مجموعة من حاملات الطائرات والسفن القتالية إلى المنطقة، وبعد أيام قليلة قرّرت إرسال مجموعة قتالية أخرى شملت تمركز ألفي مقاتل أميركي بالقرب من الشواطئ الإسرائيلية. في خطوة قيل إن الهدف الرئيسي منها ردع إيران وحلفائها وضمان عدم توسّع نطاق الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية شاملة، بالإضافة طبعا إلى تقديم كل ما احتاجته إسرائيل من استشاراتٍ عسكريةٍ ودعم استخباراتي. كما أقامت إدارة بايدن، في الوقت نفسه، جسراً جوياً لمدّ إسرائيل بكل ما تحتاجه من أسلحة وذخيرة، وبتقديم دعم مادي هائل، بدأ بملياري دولار، ثم راح يتزايد بسرعة إلى أن وصل إلى أكثر من 14 مليار دولار.
لم يمسّ التغير الذي طرأ على الموقف الأميركي جوهر الأهداف التي سعت إسرائيل لتحقيقها
وعلى الصعد السياسية والدبلوماسية والإعلامية، قدّمت إدارة بايدن لإسرائيل دعماً لا يقلّ ضخامة، فقد تبنّت كليا الرواية القائلة بتعرّض إسرائيل لهجوم إرهابي، ومن ثم أيّدت بدون تحفّظ الحرب التي أعلنتها على قطاع غزّة، واعتبرتها ردّ فعل طبيعيا ومشروعا يكفله الحقّ في الدفاع عن النفس، كما راحت أجهزة الإعلام الأميركية تروّج السردية التي سعت إلى شيطنة “حماس” وإظهارها في صورة تنظيم إرهابي لا يتورّع عن ذبح الأطفال واغتصاب النساء، ومن ثم أعلنت تأييدها جميع الأهداف التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من هذه الحرب. ولم تكتف بذلك كله، وإنما استخدمت الفيتو ثلاث مرّات في مجلس الأمن (في 18 أكتوبر/ تشرين الأول و8 ديسمبر/ كانون الأول 2023 و20 فبراير/ شباط 2024) للحيلولة دون صدور قرار بوقف دائم لإطلاق النار. وتأسيساً على هذه الحقائق كلها، يمكن القول، من دون أي مبالغة، إن الحرب الإجرامية التي تشن حالياً على الشعب الفلسطيني في غزّة هي حرب أميركية إسرائيلية مشتركة.
عوامل كثيرة ساعدت على حدوث تغير طفيف في الموقف الأميركي. أولاً، صمود حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى فترة طالت أكثر من خمسة أشهر. وثانياً قيام عدد من الأطراف المنخرطة في محور المقاومة، خصوصاً حزب الله وجماعة أنصار الله اليمنية، بإسناد عسكري للفصائل الفلسطينية، ما دلّ على أن الوجود الأميركي في المنطقة لم يحقّق هذا الردع المنشود، بل وساهم على العكس في استدراج الولايات المتحدة نحو الانخراط في عملياتٍ عسكرية مباشرة ضد جماعة أنصار الله، وثالثاً انكشاف همجية الجيش الإسرائيلي الذي تسبّبت هجماته في قتل وجرح ما يزيد على مائة ألف مدني فلسطيني في غزّة، في محاولة واضحة لإخلاء قطاع غزّة وإجبار سكّانه على الرحيل قسراً. ورابعاً، سقوط القناع عن السردية الإسرائيلية، ما ساهم في حدوث تحوّل جذري في موقف الرأي العام وتزايد حدّة الانتقادات الموجّهة إلى سياسة بايدن من داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وخامساً، إعلان منظّمات من التي تمثل الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة رفضها التصويت لمصلحة بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لدى بايدن وسائل عديدة للضغط على نتنياهو، بل ولإجباره على قبول وقف فوري ودائم لإطلاق النار، لكنه لن يستخدمها
لم يمسّ التغير الذي طرأ على الموقف الأميركي جوهر الأهداف التي سعت إسرائيل لتحقيقها واقتصر على أمريْن. الأول: يتعلّق بالبعد الإنساني للأزمة، فقد بدا نتنياهو فاقد الحسّ تماما تجاه المعاناة الهائلة للشعب الفلسطيني بسبب حرب التدمير والتجويع والإبادة الجماعية التي فرضها عليه. ويصرّ، في الوقت نفسه، على اقتحام مدينة رفح التي يتكدّس فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون فلسطيني. وقد حاول بايدن حثّ نتنياهو على السماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وطالبه بعدم اقتحام مدينة رفح إلا بعد تقديم خطّة مقنعة تضمن حماية المدنيين الذين يتكدّسون فيها، وهو ما لم يستجب له، بل وراح يواصل تصريحاته المستفزّة التي تعكس إصراره على اقتحام رفح، ولم يتردّد في اتهام كل من يحاول ثنيه عن الإقدام على تلك الخطوة بمعاداة إسرائيل ومنعها من تحقيق “نصر مطلقٍ على حماس”. الثاني: يتعلق برؤية نتنياهو إلى الوضع في القطاع بعد توقّف القتال، وهو ما يطلق عليه الإسرائيليون والأميركيون “مرحلة ما بعد حماس”. وكذلك رؤيته المستقبلية لتسوية القضية الفلسطينية. فليست لدى نتنياهو خطة واضحة لإدارة القطاع بعد توقف القتال، فهو تارة يتحدّث عن رغبته في اقتطاع “حزام أمني” شمال القطاع، وتارة أخرى يتحدّث عن ضرورة احتفاظ إسرائيل بالقدرة على التدخل الأمني في أي لحظة، ويرفض عودة السلطة الفلسطينية لإدارته، مفضلاً وضع القطاع تحت سلطة إدارة مدنية تتشكّل من رؤساء القبائل ووجهاء العائلات، شريطة أن تكون مستعدّة للتنسيق الدائم مع إسرائيل في كل ما يتصل بالشؤون الأمنية.
يضاف إلى ذلك أنه يرفض رفضا قاطعا “حلّ الدولتين”، حتى ولو كانت الدولة الفلسطينية المقترحة منزوعة السلاح. أما إدارة بايدن فتسعى إلى إقناع نتنياهو بقبول هدنة طويلة مؤقتة، تأمل أن تتحوّل إلى وقف دائم لإطلاق النار في مرحلة لاحقة، ما يتيح إمكانية إنهاء ملفّ الأسرى وضمان عودة جميع المحتجزين الإسرائيليين والأميركيين إلى ذويهم عبر التفاوض، ثم بدء مرحلة انتقالية تتولى خلالها دول عربية، خصوصاً مصر والسعودية والأردن والإمارات، إدارة القطاع بما يضمن نزع سلاح فصائل المقاومة وضمان عدم تكرار ما حدث يوم 7 أكتوبر. والشروع في الوقت نفسه في “تجديد السلطة الفلسطينية” بطريقةٍ تؤهلها لاستلام إدارة القطاع وبدء المفاوضات المتعلقة بتنشيط حل الدولتين. وبهذه الطريقة تضمن الإدارة الأميركية لنفسها فترة هدوء طويلة تستطيع خلالها التفرّغ لمتطلبات الانتخابات الرئاسية المقبلة. وتضمن لإسرائيل، في الوقت نفسه، إنجاز معظم الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. ولكن ليس عن طريق “الضربة القاضية” أو “الانتصار المطلق” الذي يتحدّث عنه نتنياهو ويصرّ عليه.
يمكن القول، من دون أي مبالغة، إن الحرب الإجرامية التي تشنّ حالياً على الشعب الفلسطيني في غزّة هي أميركية إسرائيلية مشتركة
هذا الطرح الأميركي لا يستهوي نتنياهو الذي يرى أن مستقبله السياسي مرهونٌ بالقدرة على تحقيق انتصار عسكري شامل لا شبهة فيه، يسمح بغسل عار الهزيمة القاسية التي تكبّدها يوم 7 أكتوبر، والتي يتحمّل وحده المسؤولية السياسية عنها، رغم حرصه الشديد على التنصّل منها وتحميلها للأجهزة الأمنية. يضاف إلى ذلك أن نتنياهو يخشى أن تؤدّي الموافقة على هدنة مؤقتة طويلة إلى وقف دائم لإطلاق النار، ما قد يتسبّب في انهيار حكومته، واللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكّرة يدرك يقينا أن حزبه سيخسرها، وأنها ستؤدّي ليس إلى إنهاء دوره السياسي فحسب، وإنما أيضا إلى ملاحقته قضائياً، وربما دخوله السجن. لذا يتوقع أن يرفض نتنياهو قبول العرض المرن الذي تقدّمت به حماس أخيراً، والذي ترى الإدارة الأميركية أنه يصلح أساسا للتفاوض، بل وقد يذهب إلى حد الإقدام بالفعل على اجتياح مدينة رفح، من دون أن يكترث كثيراً لحجم المأساة الانسانية التي ستترتب حتما على خطوة كهذه، والتي قد تؤدّي إلى اتّساع الهوة مع الولايات المتحدة بشأن سبل الخروج من المأزق الراهن.
لدى بايدن وسائل عديدة للضغط على نتنياهو، بل ولإجباره على قبول وقف فوري ودائم لإطلاق النار، لكنه لن يستخدمها، فهو يبدو شديد الحرص على عدم إلحاق أي أذى بإسرائيل، لأنه، من ناحية، “صهيوني” حتى النخاع. ولأنه، من ناحية أخرى، يعتقد أن إسرائيل ركيزة السياسة الأميركية في المنطقة، وأنها “وجدت لتبقى ولو لم تكن موجودة لتعيّن العمل على إيجادها”. لذا فإن أقصى ما يستطيع القيام به دفع القيادات اليهودية في الحزب الديمقراطي لانتقاد نتنياهو، وهو ما قام به رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، والذي ذهب، أخيراً، إلى حد المطالبة بانتخابات برلمانية مبكّرة في إسرائيل، ورفض طلب نتنياهو التحدّث عن بعد إلى الكتلة الديمقراطية في مجلس الشيوخ. وتلك إجراءات أظنّ أنها لا تكفي لردع نتنياهو. لذا علينا أن نتحسّب لوقوع الأسوأ.