لم يتوقّع السوريون الثائرون السلميون، في محافظ السويداء جنوبي البلاد، أنّ يُقدم نظام الأسد على خطواتٍ إيجابية تجاه حراكهم المُستمرّ، يومياً، منذ شهور، والذي رُفعت فيه شعاراتٌ بسقفٍ عالٍ، تبدأ وتنتهي بضرورات التغيير الشامل أساساً لحلّ الأزمات المتراكمة في سورية، فهو لمْ يرحّب في أشدّ أوقات ضعفه بقرار مجلس الأمن 2254 (أكّد أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية، وإلى انتخابات برعاية أممية، مطالباً بوقف أيّ هجمات ضدّ المدنيين فوراً)، وذلك لأنّ النظام يدرك أنّ المُؤدّي الرئيس له يهدف إلى إزالة سيطرته، وتفكيك سلطته، بعد أن أمضى في الحكم 54 سنة.
وفي المقابل، ارتفعت دائماً نسبة التوقّعات بإقدام الماكينة الأمنية والعسكرية، وملحقاتها من مليشيات طائفية، على ارتكاب أفعال قمعية وإرهابية، تُخلط عبرها الأوراق، وتُشرعن، بعدها، قيامها بإنهاء الاحتجاج أمنياً، كما جرت الأمور تاريخياً في الدولة الشمولية التي أسّسها حافظ الأسد. الوعي بأساليب عمل الأجهزة الأمنية كان حاضراً منذ انطلاق الحراك، إذ لا يمكن السماح لأيّ من الثائرين أن ينفرد بقرار أو بتصرّف يدفع الأمور نحو المسار الذي يحلم به النظام، أي حدوث الطارئ الأمني الذي ييسّر له تحقيق الحلّ القمعي، وفق معادلة تقول إنّ القوّة والعنف يستدعيان القوّة والعنف أيضاً، وكان لتوجيهات المرجعية الدينية، يتقدّمها الشيخ حكمت الهجري، بضرورة الالتزام بالسلمية نصلاً حادّاً يقطع الدرب على أيّ مجموعة محلّية يحاول أفرادها الصدام مع “أجهزة الدولة”، وفي المقابل، تُركت مساحة ضيّقة للمنتفضين للتعبير عن جدّيتهم، تركّزت على إزالة حضور حزب البعث في المحافظة بوصفه تعبيراً عن الحقبة القاتمة التي يريدون إنهاءها. ورغم أنّ الصدام بين الزاحفين نحو الشُعَبِ الحزبية لمْ يتأخّر، إلا أنّ ما جرى فيه كلّه، وضمنه، كان ينتهي عند التوجيهات المُتكرّرة بضرورة التهدئة، وعدم دفع الأمور نحو الصدام المفتوح، وتكرّر استيعاب الفعّاليات المحلّية لردات الفعل العُنفيّة، التي ارتكبها عناصر من حراس بعض المقار، رغم سقوط قتلى بسببها. وقد ظهر لكثيرين أنّ المعادلة الموصوفة هذه يمكن أن تستمر طويلاً، إذ لمْ يكلّْ المحتجّون من الذهاب صباحاً إلى ساحة السير (الكرامة)، ولمْ يردّْ النظام على شعارات تتناوله، وتحطّ من شأنه. غير أنّ التطورات الأخيرة، سرعان ما أعادت نيّات الحسم الأمني إلى الطاولة، بعد أن خُيّل لبعضهم أنّها قد وضعت في الأدراج.
لطالما احتلّت السويداء في التاريخ السوري صفحات مقرونة بالتغيّرات الكبرى في البلاد
يُظهر الانتباه إلى معطيات جرت وقائعها على الأرض أنّها تساهم في دفع مسار الحراك، ليصبح في مواجهة كسر عظم مع النظام. أول ما يجب النظر فيه هو أسلوب معالجة فعّاليات المحافظة، بما فيها المليشيات المحلّية، لملفّ اعتقال الأجهزة الأمنية الناشطين والمواطنين، على حدّ سواء، من أبناء السويداء، إذ لم تتغير إجراءاتها المُتّبعة تقليدياً، فيُخطف المُعتقَل من مكان عمله أو دراسته، أو عبر الحواجز على طرقات السفر بين المحافظات، ويُخْفَى من دون اتباع الإجراءات القانونية، فالاعتقال على يدّ المخابرات يعني تغييباً لا نهاية له. لكنّ عائلات المُعتقَلين، وكذلك القوى المحلّية الداعمة، وبعد فقدان الأمل من العثور على معتقليهم، قرّروا أن تتغير المعادلة القائمة في سورية الأسدية، واتبعوا أسلوب احتجاز عناصر النظام وضبّاطه بهدف إجباره على الاستجابة. وقد أثمر هذا التكتيك، إذ اضطرّت الأجهزة الأمنية للإفراج عمّن اعتقلتهم، وأظهرت حادثة الطالب المُعتقَل داني عبيد، نهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، قدرات كبيرة تتمتّع بها الفصائل المحلّية، حين تقرّرت الإحاطة والسيطرة على الأرض. هذه الحادثة ليست هامشية في سياقها، بل إنّها إشارة إلى تغيير في آلية ردّات الفعل على الممارسات القمعية المتوقعة في سورية، الأمر الذي يجعل العقيدة الأمنية الراسخة عند الأسديين قابلة للخلخلة، إذ لا يمكنهم الذهاب نحو العنف مباشرة، كما اعتادوا في كلّ مساحات المناطقة الثائرة، وفي الوقت نفسه، لا يمكن لعملهم التقليدي، أي الاعتقال غير القانوني، أن يستمر من دون محاسبة. هل يكفي هذا المُستجدّ لأن يُقدم النظام على إرسال عشرات الآليات التي تحمل العناصر الأمنيين والمليشيات إلى مقارّه في خطوة استعراضية، وأن يبثّ الإشاعاتِ بأنّ المرحلة المقبلة ستشهد حملة اعتقالات تستهدف قادة الحراك وناشطيه البارزين؟ وهل تعيينه محافظاً جديداً ذا خلفية أمنية هو آخر إجراء قبل البدء بالخطوات العملية على الأرض؟… قد تتأخّر تكتيكات الأجهزة الأمنية الأسدية في التنفيذ، لكنّها لا تتغيّر، فهي على السطح لا تُظهر أنّها تستهدف المُحتجّين السلميين، بل تستبدل بهم الأعداء الخطرين على الحياة العامة، ولهذا توجّب عليها أن تظهر اكتشافها خليّة إرهابية، وهل ثمّة أفضل من البعبع “الداعشي” لتنفيذ الخطّة، بعد أن تعرّضت قرى شرق المحافظة لهجومٍ دمويٍ من “الدولة الإسلامية” في صيف عام 2018، أسفر عن مقتل المئات من المدنيين؟
الانتباه إلى معطيات جرت وقائعها على الأرض يظهر أنّها تساهم في دفع مسار الحراك ليصبح في مواجهة كسر عظم مع النظام
لقد صبر قادة الأجهزة الجدد، الذين جاءت بهم تغييرات الأسد في هذا القطاع، على ما يجري في السويداء، وقد أضحى الوقت مؤاتياً بالنسبة لهم، طالما أنّ القواعد غدت منفلتةً هناك، كما أنّ شهيتهم مفتوحة لإثبات الكفاءة أمام رأس النظام، والاستبسال في ترسيخ سلطته. هؤلاء الذين جاءوا إلى مكاتبهم بعد تولّي اللواء كفاح ملحم رئاسةَ مكتب الأمن القومي، وما تلا ذلك من تبديلات في الأشخاص والمواقع، ينتظرون الأوامر، لكن هل تسمح الظروف العامة بالذهاب نحو التنفيذ؟… لا يبدو أنّ النظام يولي اعتباراً لرأي الدول العربية، التي تحاول استعادته من الحضن الإيراني، في مسألة تتعلق بأمنه الداخلي، لكنّه في الوقت نفسه لا يريد أن تتسبب إجراءاته بأيّ تعطيل لمسار إعادة تأهيله، خاصة أنّ الاجتماعات، التي يفترض أن تجريها لجنة الاتصال العربية، قد أجّلت لعدم استجابته للمتطلّبات المُقترحة من الجانب الأردني، بحسب تسريبات أُعلنت قبل أيام. كما أنّ ادعاء بعض أبواقه أنّه قد أجرى صفقة مع الأميركيين، تقوم على مكافأة صمته عن مذبحة غزّة بتركه يفعل ما يريد في جبل العرب، بعيد عن الواقع، فهو غير مؤهّل لعقد أيّ صفقة، طالما أنّ رسائل الإسرائيليين له تضمّنت تهديداً بتدميره، وقد بات عليه، بعد هذا، أن يلتزم، فهو يقايض صمته باستمراريته ككلّ. بالإضافة إلى أنّ السويداء ليست ضمن هذه المعادلة الإقليمية، بل تتوضّع، بشكل لصيق، ضمن معادلته الداخلية، التي تنوس بين ضرورة القيام بما يحسّن الصورة، ولا سيّما تحوّله من نظام شمولي إلى آخر يفصّله على مقاس مصالحه يقبله الإقليم والمجتمع الدولي، بحسب ما ظهر في اجتماعات وانتخابات البعث الأخيرة، وبين اللعب المتوازن على حبال القوى الحليفة، التي تمتلك أدوات القوّة محلّياً، أي إيران وروسيا. على أرضية هذا الوضع المعقد، ما الذي يمكن للأسد أن يفعله؟
لا أحد يستطيع التسرّب إلى عقل الديكتاتور الصغير والمحدود، كي يعرف ما يجول فيه، لكنّ نمطية السلوك غير المتوازن، وقد فرضت إيقاعها دائماً في حالة بشّار الأسد، قد تخالف ما هو مُتوقّع كلّه، من عدم وجود ظروف مؤاتية للقيام بحملة تنهي حراك السويداء، تحت ذرائع أمنية أو بحجة القضاء على مهرّبي المُخدّرات (!) لكنّ السبب الوحيد، الذي قد يجعله يراجع خطواته، ويبحث عن طريقة مختلفة، لن يكون سوى الخوف.
لطالما احتلّت السويداء في التاريخ السوري صفحات مقرونة بالتغيّرات الكبرى في البلاد، منذ تاريخ الثورة السورية الكبرى (1925)، وحملة أديب الشيشكلي في العام 1954، وصولاً إلى صراع الضابط سليم حاطوم مع رفاقه من قادة حركة 23 شباط (1966)، التي كان من تبعاتها تسلّط وزير الدفاع حافظ الأسد على الحزب والجيش، فالصراع في هذه البقعة السورية يبدو مخيفاً، كما لا يمكن توقّع ما الذي يمكن أن يؤدي إليه الصراع، المفتوح على كلّ الاحتمالات، مع المجتمع المحلّي، الذي أعدّ العدّة جيداً لمواجهة نظام إجرامي ينتظر اللحظة المناسبة، ثمّ ينقضّ بلا رحمة.