منحت المواجهة القائمة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني وإيران، العديد من المعطيات الميدانية والاستشرافات المستقبلية لكيفية أدامة الصراع وابقاء مساحة الردع قائمة وفق أهداف وغايات جميع الأطراف المتنازعة، واستحضرت معاني ومصطلحات عسكرية تخاطب العقل البشري وتحاكي الماكينة الاعلامية وتساهم في توجيه الرأي العام وهذا ما يحصل في إيران، حيث امتلأت الصحف والمجلات ومنصات التواصل الاجتماعي ومراكز البحوث العسكرية والسياسية الإيرانية بعديد من الدراسات والآراء والافكار حول اسبقية تنفيذ القرار الإيراني الخاص بالرد على محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ( إسماعيل هنية) في العاصمة طهران،. وما هي الأبعاد الحقيقية لنتائج الرد والأساليب التي من الممكن أن تواجهها إيران.
وأمام هذه المنعطفات في القرار السياسي الإيراني يأتي حديث المرشد الأعلى علي خامنئي في 14 آب 2024 أمام القيمين على المؤتمر الوطني لشهداء محافظة (كهكيلويه وبوير أحمد) الواقعة شمال إيران، والذي تضمن أسس وركائز العقيدة الدفاعية الإيرانية والدوافع الميدانية لتحقيق الردع العسكري مع التمسك بأحقية الدولة في الحفاظ على أمنها القومي ومستقبل شعوبها، وهذا ما أكده المرشد الأعلى في وصفه لابعاد القتال وطبيعة أساليب واختيار اللحظة المناسبة للرد وتحقيق الردع الممثل باختيار مصطلح عسكري ميداني وصفه ب ( الحرب التكتيكية) والذي يتماشى مع الرؤية السياسية القائمة على تعزيز الجبهة الداخلية واستمرار سياسة قبضة النظام والشروع القائم على تنفيذ المشروع الإيراني في التمدد والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط.
تعتبر العقيدة الدفاعية الإيرانية عنصرًا أساسيًا في إستراتيجيات الأمن القومي الإيراني، وتمثلها أدوات ووسائل تعبر عنها المبادئ والتوجهات التي تتبعها إيران في تطوير سياساتها العسكرية والدفاعية، وتتشكل هذه العقيدة في ظل بيئة إقليمية ودولية وتستند إلى مجموعة من العوامل التي تعمل إيران على تدراكها من التهديد والاستهداف.
وعندما يعتبر المرشد خامنئي أن التراجع أحيانًا يكون تكتيكيًا أو تطويرًا لتكتيك ما ويرى أن ( لا حرج في ذلك)، فإنه يريد أن يعطي مجالًا واسعًا وأحقية في تأخر أو تغيير معايير الرد العسكري على إسرائيل ويمنح المصالح الإيرانية أولوية في الاحتفاظ بالنظام وقدراته العسكرية وحماية البرنامج النووي الإيراني والمكاسب الأمنية والسياسية التي حققتها في المنطقة، ويعطي دلالة واضحة على أن العقيدة الدفاعية الإيرانية إنما أساسها هي أن تكون إيران دولة إقليمية ذات تأثير ملموس ودائم محتفظة بأدواتها وإمكانياتها العسكرية التي تستخدمها في تأمين حدودها واستمرار وجودها وليس لها أهداف أخرى تتعلق بمفهوم الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما يؤكد أن الضربة الإيرانية غذا ما وقعت سوف لا تكون قاسية.
والرؤية الدفاعية يعبر عنها كبير مستشاري المرشد للشؤون العسكرية يحيى رحيم صفوي بقوله ( أن علينا زيادة عمق دفاعنا الإستراتيجي.. والدفاع عن بلادنا خارج حدودنا، وعمق دفاعنا الإستراتيجي هو البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وعلينا أن نزيده بمقدار ٥ آلاف كيلومتر) وهو بذلك يشير إلى مياه وسواحل المحيط الأطلسي .
وعمق المواجهة بين إسرائيل وإيران كانت تتمثل في الاستهداف غير المباشر عبر حرب السفن والناقلات واستهداف الأمن السيبراني، ولكن المواجهة في الوقت الحاضر علنية أي أن موانع الاشتباك وقواعده أصبحت واضحة للعيان وتتطلب ردًا إيرانيًا يتناسب مع ما حصل.
وهذا ما تسعى له الولايات المتحدة الأمريكية في احتواء الأزمة الحالية وتطويق الرد العسكري الإيراني خشية من رد فعل إسرائيلي حاسم وقاسي ممكن ان يؤدي إلى حرب إقليمية شاملة، وأننا نرى أن واشنطن تفعل ذلك لأنها لاتتحمل حربًا في الشرق الأوسط وهي على أبواب انتخابات رئاسية قادمة، وانشغال روسيا بالاختراق الأوكراني لأراضيها يبعدها عن طبيعة أي صراع ممكن أي يحصل في المنطقة والخليفة الصيني لديه أهدافه ومصالحه في مواجهة التخرصات الاقتصادية الأمريكية، فالكل يعمل على عدم إشعال حرب المواجهة في منطقة الشرق الأوسط.
وجاء بيان وزارة الخارجية الإيرانية في 20 آب 2024 متماشيًا مع الموقف الدولي والإقليمي بالقول (نرحب بأي جهود صادقة لوقف إطلاق النار في غزة ونؤكد على حقنا في الرد على الاعتداء على سيادتنا في الوقت المناسب).
تعمل جميع الأطراف على مسارين مهمين أحدهما مسار المساعي السياسية والدبلوماسية والمسار العسكري الذي لا يزال قائمًا، فيما تعاني الخطوات الدبلوماسية من تعثرات دائمة وعدم وضوح في قبول أي من الطرفين الإسرائيلي وحركة حماس لما تؤول اليه المباحثات التي تجري في القاهرة والدوحة، وقد يتحقق لإيران هدف استراتيجي انها ضحت في حقها بالرد مقابل إيقاف القتال ونجاح المفاوضات ومن اجل بقاء وحياة الفلسطينين.
تبقى الأهداف الإيرانية من الحرب التكتيكية تتعلق باستمرار تطوير القدرات الدفاعية وتبني سياسة استراتيجية للردع العسكري والاحتفاظ ببرنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وتعزيز نفوذها الإقليمي والسياسي، والعمل وفق منظور عسكري بعدم التراجع الإستراتيجي في الصراع في المنطقة أمام المرونة التكتيكية وتجنب الدخول بصراعات مباشرة وإعطاء أولوية للدفاع الميداني.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية