تستمر الأحداث القائمة بين إسرائيل وحزب الله وإيران لتأخذ أبعادًا دولية واقليمية وتفرض حالات ميدانية باستخداث أماكن واراضي تمثل انطلاقة حقيقية تعزز من احتمالية قيام مواجهة إقليمية تبتعد فيها عن الحدود المشتركة مابين إسرائيل والجنوب اللبناني وامتداداتها حيث الانتشار الفعلي لأدوات ووكلاء النظام الإيراني من مليشيات الحوثيين في اليمن والفصائل المسلحة والمليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق، ومن أهم الأماكن الاستراتيجية التي ظهرت على العيان هي ( جزيرة قبرص) الدولة التي أصبحت تمثل انطلاقة فاعلة وتجاوب مع أي تطورات في الحرب القادمة في منطقة الشرق الأوسط، بعد المناورات الإسرائيلية الدفاعية والهجومية التي أقيمت على أرض الجزيرة في مناطق مشابهة لأراضي الجنوب اللبناني وبجميع الأسلحة والمعدات الحديثة والطائرات المقاتلة عبر اتفاق عسكري وأمني بين إسرائيل وقبرص وقع في سنة 2023،
وأهمية المناورات أنها تشكل في العقلية الإسرائيلية العسكرية قاعدة بديلة لأهميتها حيث انها تبتعد بمسافة (200) كم عن لبنان ويمكن لطائرات (F 16) أن تصل أهدافها في جنوب لبنان خلال 8 دقائق ومعها الصواريخ بعيدة المدى والمعدات المتطورة.
أن المناورات تشكل تطور ميداني كبير لأنها حددت أهدافها بقصف المنشأت العسكرية والاقتصادية الإيرانية والأماكن والمعسكرات التدريبية والمواقع الأمنية لمقاتلي حزب الله اللبناني،وأعتبرتها رسالة موجهة لجميع أطراف الصراع العسكري القائم في منطقة الشرق الأوسط وتأكيد فعلى للتدريبات العسكرية التي أقيمت عاى أرض الجزيرة في السنوات الماضية.
أن التعاون الأمني الإستخباري بين قبرص وإسرائيل هو امتداد للتواجد البريطاني الأمريكي عبر قواعدها المنتشرة في الأراضي القبرصية والتي تعتبر مراكز لجمع المعلومات الإستخبارية وشبكة متطورة ميدانية لمراقبة منطقة الشرق الأوسط وسواحل البحر الأبيض ونقطة إنطلاق لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة تخدم مصالحها الاستراتيجية وتقدم الدعم اللوجستي والأمني للمصالح الإسرائيلية في المنطقة عبر التعاون العسكري الإستخباري بينهم.
واختيار قبرص مساحة الانتشار الأمريكي البريطاني كونها تتمتع بموقع إستراتيجي متوسط بين الشرق والغرب، وتمتاز بقربها من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومناطق الصراع فيها، لذلك حرصت الدول الكبرى على تثبيت وجود عسكري لها على أراضي الجزيرة، لما يتيحه موقعها من إمكانية الوصول السريع إلى أهدافها.
وتمتلك بريطانيا قاعدتين رئيسيتين هما ( قاعدة أكروتيري) الجوية جنوب غرب قبرص وتضم ( مطار عسكري ومحطة أرصاد جوي ومستشفى ميداني) وتستخدم نقطة انطلاق لسلاح الجو البريطاني للقيام بفعاليات وتدريبات عسكرية تخدم مصالحها وتحافظ على أهدافها، ويبلغ عدد العاملين فيها (260) ضابطًا و(2864) من الرتب العسكرية الأخرى، وضمن التعاون العسكري المشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فقد استخدمت هذه القاعدة من قبل القوات الامريكية بانتشار ( 129) طيار أمريكي بشكل دائم في القاعدة ووجود وحدة الاستطلاع الاستكشافي الأول والتي تعتبر أقدم وحدة طيران تابعة للجيش الامريكي والمسؤولة عن تدريب أطقم طائرات الاستخبارات والاستطلاع، واستخدمت القوات الأميركية قاعدة أكروتيري في منتصف الثمانينيات لتنفيذ هجمات على ليبيا، وفي عام 1991 انطلقت منها الهجمات على العراق.
والقاعدة الأخرى هي ( ديكيليا) جنوب شرق قبرص على الشاطئ الشمالي لخليج لارنكا، ومساحتها 7 كيلو متر مربع، وتعتبر المقر الرئيسي لقاعدة السيادة الشرقية البريطانية، وتستخدم موقعًا لتمركز القوات البريطانية ومركز تدريب لجنودها ومحطة انطلاق لفعالياتها العسكرية في جنوب آسيا والشرق الأقصى ودعم قوات الأمم المتحدة في قبرص، وهناك وجود أمريكي في هذه القاعدة يتمثل بأربع مواقع للتجسس، منها (مركز اعتراض الاتصالات في آيوس نيكولاوس في ديكيليا) الذي يعتقد أنه يعترض المكالمات والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهناك مركز تنصت آخر يجمع المعلومات الاستخبارية الإلكترونية السرية.
واستمر التعاون الأمريكي البريطاني في تنفيذ العمليات المشتركة وعبر هاتين القاعدتين في شن غارات جوية على جماعة الحوثيين في اليمن على إثر مهاجمتهم القطع البحرية الإسرائيلية والسفن التي تعبر البحر الأحمر من وإلى إسرائيل.
ان العلاقات القبرصية الإسرائيلية تعود لعام 1960 بعد استقلال الجزيرة، لكن قبرص لم تفتح سفارة في تل أبيب حتى 1994،
واثمرت هذه العلاقة عن نشاطات واتفاقيات عسكرية واقتصادية مهمة للطرفين، أهمها الاتفاق بين القوات المسلحة للبلدين على القيام بمناورات وتدريبات عسكرية، منها تدريبات
(أونيسيلوس-جدعون) التي تقام سنويًا في إطار برنامج التعاون العسكري بين قبرص وإسرائيل، وتنطلق التدريبات من منطقة معلومات الطيران بنيقوسيا، وتغطي مساحة كبيرة من أراضي قبرص.
وضمن إطار التعاون الاقتصادي، اتفق الطرفان على بناء مصنع للغاز المسال عبر استثمار الموارد الموجودة قبالة الساحل القبرصي قرب مدينة ( ليماسول) الساحلية جنوب الجزيرة، ويمثل البنية التحتية التي تسمح بتصدير الغاز الطبيعي نحو الأسواق الأوربية والعالمية.
وبعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023 واشتداد المواجهة بين مقاتلي حركة حماس والقوات الإسرائيلية وقيام جماعة الحوثيين باستهداف السفن والناقالات البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن، اتجهت إسرائيل إلى إيجاد منافذ أخرى لها، فأعلنت وزارة النقل الإسرائيلية أن وفدًا برئاسة عوزي يتسحاقي رئيس شركة الموانئ الإسرائيلية غادر إلى قبرص لبحث إمكانية شراء أحد موانئ الجزيرة التي تعد ثالث أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، لفك الحصار المفروض على موانئ إسرائيل وإيجاد طرق بحرية لنقل البضائع إلى إسرائيل ومعالجة الآثار المستقبلية التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي فيما يتعلق بالخدمات اللوجستية البحرية.
أن تكثيف التواجد العسكري الدولي والإقليمي على جزيرة قبرص، نراه يعود لأسباب عديدة منها الأهمية الجغرافية التي تتمتع بها الجزيرة من موقع استراتيجي مهم في البحر الأبيض المتوسط وقربها من أي أزمة سياسية عسكرية في المنطقة، ثم إن قبرص تسعى إلى تعزيز دورها الجيوسياسي والعملياتي في منطقة شرق البحر المتوسط بعد الدور الفعلي الذي تقوم به مع القطع البحرية الألمانية التي تعمل في إطار قوم الأمم المتحدة ( يونيفيل) والتي تتخذ من العاصمة (لارنكا) مقرًا رئيسيًا لها، ونتوقع أن الجزيرة ستكون إحدى منصات الاعتراض ضد أي هجمات متوقعة من إيران والحوثيين وحزب الله وتفعيل نشاط التحالف العسكري البريطاني الأمريكي المكلف بالدفاع عن أمن وحماية إسرائيل من أي ردود أفعال قادمة، مع استمرار تدفق المعدات والمنظمات الدفاعية المتقدمة للقواعد البريطانية والمساعدات العسكرية الألمانية، مع اعتماد احد الموانئ في سواحل الجزيرة من قبل إسرائيل بديلًا عن ميناء حيفا في حالة استهدافه لاستمرار تدفق البضائع والحاجات الضرورية للداخل الإسرائيلي وايصالها جنوبًا لميناء اسدود، والأهم كما نراه هو تواجد القوات الفرنسية والألمانية والهولندية والامريكية في قاعدة ( اندرياس باباندريو) العسكرية التابعة لسلاح الطيران القبرصي، والذي سمح لهذه القوات المشتركة باعتماد القاعدة انطلاق لعملياتها في شرق البحر الأبيض المتوسط في حماية الممرات والمضايق المائية التي تستهدف الملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن ومعالجة أي تطورات قادمة في المنطقة.
ستبقى الأحداث التي تلت السابع من تشرين الأول 2023 عاملًا رئيسيًا وحدثًا ميدانيًا ألقى بظلاله على العديد من المتغيرات في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وأخذ ابعادًا استراتيجية ومنطلقات أمنية وعسكرية سيكون لها الأثر الكبير في العديد من المتغيرات السياسية والأمنية التي ستشهدها المنطقة في الأيام القادمة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية