بخلاف عناوين الأخبار المتصدرة، مرّر المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي تصريحات رسم من خلالها ملامح العقيدة الدفاعية لبلاده في هذه المرحلة التي يسيطر عليها ترقب الرد الإيراني على إسرائيل بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في العاصمة طهران.
ورأى المرشد في كلمته، بحضور العديد من عائلات الشهداء، أن “العدو” يسعى بالحرب النفسية إلى خلق حالة من الخوف والتراجع. وقال إنه وفقا لتفسير القرآن الكريم فإن “التراجع غير التكتيكي” في أي مجال سواء كان عسكريا أو سياسيا أو دعائيا أو في المجال الاقتصادي “يؤدي إلى غضب الله”. وفي الوقت نفسه، أكد أن التراجع أحيانا يكون تكتيكيا، وفي بعض الأحيان يكون تطويرا لتكتيك ما، “ولا حرج في ذلك”.
صانع القرار السياسي في مراكز اتخاذ القرار في ايران لديه المقدرة علي صياغة مفاهيم دبلوماسية جديدة لمنكن نعرفها او نسمع عنها، ونجح أيضًا في ادخالها في عالم الدبلوماسية المعاصرة، لتصبح بعدها رائجة ومالوفة ومتداولة، لتوظيفها في الوقت الذي يراه مناسبا. ومن تلك المصطلحات التي صاغها صانع القرار السياسي في إيران، “الصبر الاستراتيجي”، وقبل أيام صاغ مفهوم جديد أطلق عليه تسمية “التراجع غير التكتيكي”.
الصبر الاستراتيجي الذي ذاع وشاع، طرحه صانع القرار السياسي في إيران الدولة الإيرانية في أعقاب اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على يد الولايات المتحدة في بغداد في كانون الثاني/يناير 2020. ومنذ ذلك الحين، اختارت طهران صراع طويل الأمد مع الولايات المتحدة بدلًا من الردّ المباشر عليها. منذ ذلك اليوم، لم تتخذ طهران إجراءات يمكن أن تضرّ مصالح الولايات المتحدة بشكل جدّي. وإن كانت تصريحات ترامب حقيقية فقد حذرت إيران واشنطن مسبقًا حول الأهداف الأمريكية التي ستضربها في العراق. فالمفهوم ببساطة شديدة التعبير المرادف لتعبير التذرع باقصي درجات ضبط النفس إلى ان تتهيأ الفرصة المناسبة التي تسمح بالتحرك والرد.
والتراجع غير التكتيكي هو التراجع الذي يفتقر الي الحنكة والذكاء، وهو لذلك يضر أكثر مما يفيد.وان تراجع ايران هو ابعد ما يكون عن ذلك، حتي لا تخسر سياسيا وعسكريا امام اسرائيل. ويأتي صياغة هذا المفهوم أي التراجع التكتيكي بعد اغتيال اسماعيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في فجر 31 تموز/يوليو الفائت في العاصمة الإيرانية، طهران.
ولم يأتِ هذا التصريح خفيف الوطأة على أرض سياسية وإعلامية ملغومة؛ فقد فسّره بعضهم بأنه إجازة للتراجع من أجل مصالح البلاد ومنفعة الشعب، بمعنى أن إيران قد لا ترد، أو ربما هو ت برير لسيناريو الرد الذي قررته طهران إن لم يأت بحجم التوقعات. ويجيء هذا التفسير في وقت تتوعد فيه إيران وحلفاؤها إسرائيل برد قاسٍ. وداخليا، تصدّرت أقوال المرشد عناوين الإعلام المقرب من التيار الإصلاحي، بينما لم يتعامل معها الإعلام المحافظ بالأهمية ذاتها، بل حاول تهميش التفسير الإصلاحي الذي عدّه “تهدئة للأوضاع وتهيئة للرد المحدود”.
ويرى من يدافع عن هذه المفهوم أن تصريحات المرشد بشأن التراجع التكتيكي جزء من إستراتيجية إيران العسكرية والأمنية الوطنية في العقود الأربعة الماضية، أي منذ الثورة الإسلامية. والمعنى الذي كشفت عنه تصريحات المرشد حسب المدافعين عنه، هو المرونة التكتيكية دون التراجع الإستراتيجي في أساسيات الصراع، وأن العقيدة الدفاعية العسكرية الإيرانية تتضمن المبادئ الآتية:
1- تجنب التدخل المباشر في الصراعات وإشعال الحروب.
2- أولوية الدفاع بدلا من الهجوم.
3- تعزيز الردع الدفاعي.
ويرون أن إيران حاولت في العقود الأربعة الماضية جعل هذه المبادئ أساسا لعملية صنع القرار ونموذجا لسلوكها. وقال إن إيران تُعدّ “جهة مرنة تكتيكيا”، وهي بذلك “تتمتع بمهارة خاصة في القدرة على التكيّف مع أي موقف وأي صراع”. وخلصوا إلى أن هذه المرونة تنعكس في بعض الصراعات في إعطاء الأولوية للدفاع، وفي أخرى للهجوم بأشكال مختلفة.
وبحسب معلومات حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية من مصدر أمني، بأن صانع القرار السياسي في إيران، في طور التراجع عن استهداف إسرائيل بشكل مباشر، لكنه يخطط باستهدافها بشكل غير مباشر عن طريق اغتيال “اژي أمين” وهو أحد القيادات الكوردية البارزة سابقا في محافظة السليمانية، الذي استطاعت إسرائيل من خلال التنسيق معه في اغتيال شخصيات عسكرية وعلمية في السنوات الماضية بإيران، لذلك يعد “اژي أمين” من ضمن ” بنك الأهداف الإيرانية”.
وتشير تلك المعلومات أيضًا أن إيران تخطط في استهداف أجهزة التنصت الإسرائيلية الموجودة على الحدود الجنوبية لدولة أذربيجان، التي وضعت بهدف مراقبة كل الأنشطة العسكرية والأمنية في إيران. من هنا يمكن لنا تفسير لماذا أمر الجيش الإسرائيلي – مؤخرًا- جميع الجنود خارج الخدمة المتواجدين حاليًا في أذربيجان بالعودة إلى إسرائيل على الفور؟، وفي السياق ذاته وتحسبا لأي طارىء قد يحدث، أجرت أذربيجان -السبت الفائت- مناورات للدفاع الجوي بعد أيام فقط من إجراء جارتها إيران اختبارات بحرية بالقرب من حدودهما المشتركة. وقالت وزارة الدفاع الأذربيجانية على موقعها الإلكتروني- يوم السبت الفائت- ، إنه تم تفعيل أنظمة الدفاع الجوي، بما في ذلك نظام “إس-300” بعيد المدى، للتدرب على الدفاع عن المنشآت المهمة ضد هجمات صاروخية “وهمية”.
خلاصة القول لم يعد خافيا أن هذه المفاهيم الدبلوماسية الخداعة التي يصيغها صانغ القرار في طهران، وأصبحت تردد من قبل مسؤوليها ،وبخاصة في مواقف الأزمات الإقليمية، هي رسال للدولة العظمي والدول الكبرى في الجماعة الدولية، بأن الزمام يبقى دائما بيد صانع القرار السياسي في طهران حتى يتجنب الفخاخ التي قد تعد له ، ومن ذلك إنه إذا تذرع بالصبر الاستراتيجي في عدم تسرعه بالرد أو الانتقام، فذلك لحسابات متأنية ومدروسة، وهي حسابات ليس من شأن الجماعة الدولية مطالبته في توضيحها لها، لكي تقتنع بها ..فمكانها الطبيعي هو ان تبقي دائما في دائرة الغموض والتخمين والمراهنة.
وهو أي صانع القرار السياسي في إيران، إذا برر تراجعه بأنه تكتيكي وليس غير تكتيكي علي نحو ما يحذر منه المرشد الاعلى وينفي وقوع ايران فيه، فهو يقصد من ذلك تصوير عدم الرد الانتقامي العنيف الذي كان متوقعا منه على خلفية اغتيال إسماعيل هنيه، على انه مؤجل وله أسبابه المنطقية أو، وهذا تفسير آخر، لأن التراجع التكتيكي المحسوب سوف يتكفل بالمهمة المطلوبة ويوفر على صانع القرار ما كان يمكن ان يضره فيما إذا تهور واندفع الي الرد أي أن أساس القرار الإيراني في كل الاحوال هو توخي أقصي درجات العقلانية والرشد. ولا يهم بعدها أن يأخذ شكل التذرع بالصبر الاستراتيجي، أو التراجع التكتيكي.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية