بعد أكثر بقليل من شهر على الرد الإيراني بالصواريخ والمسيّرات على الغارة الإسرائيلية ضد قنصلية طهران في دمشق التي أودت بحياة القيادي في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي. وبعد رد مبهم من الجانب الإسرائيلي، إنما من داخل إيران. هذا في وقت لم تفتر يوماً في تاريخ الجمهورية الإسلامية الهجمات سواء من بعض الجماعات المعارضة العنيفة، مثل مجاهدي خلق، أو من قبل الجماعات الانفصالية.
غيّب الموت يوم -الأحد- الفائت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي انتخب لمنصبه في 2021. ولم تمض سوى ساعات قليلة على إعلان الوفاة التي نتجت عن تحطم الطائرة المروحية التي كان يستقلها الراحل ومعه وزير الخارجية ومسؤولون آخرون في طريق عودتهم من زيارة لدولة أذربيجان، إلا وكان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي يكلف النائب الأول لرئيس الجمهورية محمد مخبر بتولي مهام الرئاسة المؤقتة وفقا للمادة 131 من الدستور وإلى أن تنظم انتخابات رئاسية مبكرة في غضون مهلة أقصاها 50 يوما.
وفي حين ينتظر من هذه الانتخابات المستعجلة، ومن معرفة من سيسمح له بالترشح لها، بل من سوف يفكر بخوض السباق من الأساس في الوضع الحالي، ومن سوف يفوز بها وبأي شكل، أن تحدد معالم السياسة التي سيتبعها الحرس الثوري والتيار المحافظ في المرحلة المقبلة، “مجرد حادثة أم قتل متعمد له ما بعده؟”، أياً كانت الإجابة عن ذلك التساؤل، تبقى إيران “دولة لا تبدو أن يموت فيها الرؤساء بالصدفة”، هكذا تقول مجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية، موضحة “إن الشكوك ستحيط حتماً بالحادثة. ففي نهاية المطاف، لا تزال الحوادث الجوية التي قتلت مسؤولين سياسيين كباراً في روديسيا الشمالية (1961) والصين (1971) وباكستان (1988) وبولندا (2010) خاضعة للتكهنات في كثير من الأحيان. وفي حالة الرئيس الإيراني، كما هي الحال في الحالات الأخرى.
أولاً: الطائرة التي سقطت هي واحدة من بين ثلاث طائرات، أفلتت اثنتان بينما سقطت طائرة الرئيس، فضلاً عن أن مخاطر الطريق والتحليق فيه من المؤكد أنه تم تقييمها سلفاً، ما يعني أن الأحوال الجوية لم تكن سيئة لدرجة عرقلة حركة الطيران أو تهديد سلامة المروحيات.
ثانياً: تعطل خدمات نظام تحديد المواقع «جي بي أس» قد يكون أمراً مدبراً، وقد قامت إسرائيل فعلاً بالتشويش على هذا النظام وتعطيله عندما تعرضت للهجوم الإيراني بالمسيرات مساء يوم 13 نيسان/ أبريل الماضي.
ثالثاً: إيران تتعرض منذ سنوات لحملة اغتيالات أصبح واضحاً أنها ممنهجة، فخلال السنوات العشر الأخيرة تم اغتيال عدد كبير من العلماء والخبراء العسكريين وعدد من العاملين في المشروع النووي، وهي سلسلة اغتيالات تقول طهران إن تل أبيب هي التي تقف وراءها، خاصة أنها اغتيالات مدروسة بعناية، وتستهدف شخصيات بالغة الأهمية، بعضها ربما كان أهم من الرئيس الايراني ذاته، بسبب أنها شخصيات لها علاقة بمشاريع استراتيجية بالغة الأهمية.
رابعًا: إن فرق الإنقاذ التي بلغت نحو 40 فرقة تأخرت في الوصول إلى موقع الطائرة لأكثر من 15 ساعة. صحيح أن الطبيعة الجبلية والظروف الجوية للمنطقة حالت دون التمكن من الوصول لموقع الطائرة بشكل أسرع، إلا أن تمكن طائرة مُسيّرة تركية من طراز “أقنجي” من تحديد موقع تحطم المروحية قد يؤشر على ضعف الإمكانات لدى الجانب الإيراني في ما يتعلق بأدوات الإنقاذ والبحث. وربما حفظاً لماء الوجه أعلن قائد فيلق عاشوراء للحرس الثوري بمحافظة أذربيجان الشرقية، أصغر عباسقلي زاده، أن مُسيّرات إيرانية هي التي حددت موقع المروحية، رغم أن مشاركة المُسيّرة التركية جاءت بناءً على طلب تقدمت به طهران لأنقرة، وفق ما أشارت إليه وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
خامسًا: إن الطائرة المنكوبة هي مروحية من طراز “بيل 212” أمريكية الصُنع، يعود إنتاجها لعام 1968، وكانت طهران حصلت عليها قبل ثورتها في 1979. كما تجدر الإشارة إلى أن بعض المسؤولين الإيرانيين كانوا طالبوا قبل أيام من وقوع الحادث باستبدال الطائرات الأمريكية التي يستخدمها المسؤولون بأخرى روسية، حتى يتسنى لهم تحديث أجزائها والحصول على قطع الغيار اللازمة.
سادسًا:بعد أن كشف مدير مكتب الرئيس الإيراني، غلام حسين إسماعيلي، ما حدث لمروحية الرئيس إبراهيم رئيسي وسقوطها وانقطاع الاتصال بها، تحوم الشكوك حول احتمال أن يكون الحادث مُدبّراً: ذهبت بعض التقديرات إلى احتمال أن يكون حادث سقوط طائرة رئيسي ومرافقيه مُدبّراً، وتستند في ذلك إلى فرضية أن هذه الطائرة هي الوحيدة – من بين ثلاث طائرات كانت ضمن الموكب العائد من المنطقة الحدودية بين إيران وأذربيجان- التي تعرضت للسقوط، في حين وصلت المروحيتان الأخريان بسلام إلى وجهتهما، رغم تعرضهما للأجواء والتضاريس الصعبة. علاوة على كون الطائرة الرئاسية أكثر كفاءة من الطائرتين الأخريين، والطيار الرئاسي يُفترض أن يكون أكثر كفاءة من الطيارين الآخرين.
هذه الشكوك تأتي في سياق الصراع بين اطراف الحكم، الحرس الثوري والرئاسة الإيرانية، وعدم قبول رئيسي في الأسابيع الماضية الاملاءات الأمنية كن قيادة الحرس الثوري. وابعاد اسم رئيسي عن الترشيح لمنصب المرشد العام، واختيار بدلا عنه بعد توجيه الاخفاقات إلى حكومته وضعفها في حل الأزمات الإقتصادية والإجتماعية ومعالجة التدهور في العملة الإيرانية. واتجاه أبراهيم رئيسي نحو الشرق في علاقاته مع روسيا والصين اغضب الحرس الثوري المحافظين لأنهم يرون ان القرار الإيراني أصبح روسيًا.
سابعًا: كان إبراهيم رئيسي يعد أبرز المرشحين لخلافة المرشد. وبالإضافة إلى منصب الرئاسة، تولى منصب نائب رئيس مجلس خبراء القيادة، الهيئة التي تسمي خليفة المرشد. وفاز رئيسي بانتخابات مجلس الخبراء لولاية جديدة بالانتخابات التي خاضها في مارس (آذار). وأثار عدم ترشح رئيسي من مدينة طهران، وتوجهه إلى محافظة نائية، لم ينافسه هناك إلا رجل دين مغمور، انتباه المراقبين.
والآن بعد غياب رئيسي، ستكون الأنظار مسلطة على نجلي المرشد الإيراني، مجتبي ومسعود خامنئي، إلى جانب عدد من رجال الدين الصاعدين.وزعم عضو «مجلس خبراء القيادة»، محمود محمدي عراقي، في فبراير (شباط) الماضي، أن خامنئي «عارض تقييم أهلية أحد أبنائه لتولي منصب المرشد لتجنب شبهة توريث المنصب». وسيترك الغياب المفاجئ للرئيس الإيراني تأثيره على جميع المعادلات والتوقعات بشأن احتمال توليه منصب المرشد الإيراني.
يمكن الإشارة إلى أبرز الانعكاسات التي قد يفضي إليها حادث سقوط الطائرة وغياب رئيسي وعبداللهيان عن المشهد، على النحو التالي:
1- انكفاء إيران على الداخل مؤقتاً: من المُرجح أن تُسفر الفترة الانتقالية الحالية في إيران عن انكفائها على ترتيب البيت الداخلي، مرحلياً، إلى حين انتهاء المدة المحددة لإجراء انتخابات رئاسية وهي 50 يوماً، ثم الدخول في ماراثون انتخابات رئاسية واختيار رئيس وتشكيل حكومة بعد ذلك؛ لذا قد تشهد بعض الملفات الخارجية تجمداً خلال الفترة المقبلة، ومنها على سبيل المثال المباحثات غير المباشرة التي كان قد أُعلن عنها قبيل الحادث، التي جرت بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين في سلطنة عُمان؛ وهو نفسه ما حدث عندما تولى رئيسي؛ إذ تجمدت المباحثات التي كانت تجرى في نهاية عهد الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني، لعدة أشهر. كما قد تتجنب طهران أي أعمال من شأنها استفزاز الولايات المتحدة أو إسرائيل خلال هذه الفترة، إلا أن ذلك قد يكون بشكل مؤقت، ومن ثم تعود طهران لإدارة تلك الملفات مرة أخرى.
2- تزايد المطالب بتحديث البنية التحتية: في ضوء ذهاب أغلب الترجيحات إلى أن طائرة رئيسي ومرافقيه سقطت نتيجة تقادمها وعدم تحملها الظروف الجوية الصعبة، فإنه يُحتمل أن تتزايد المطالب في الداخل حول ضرورة تحديث البنية التحتية وتحديث الطائرات الإيرانية التي أضحت متهالكة؛ نتيجة عدم تحديث قطع غيارها وصيانتها. وربما يقود ذلك إلى أحد أمرين: الأول الضغط على روسيا والصين للحصول على طائرات حديثة. وتجدر هنا الإشارة إلى أن الدولتين رغم تعاونهما مع إيران فإن هذا التعاون محكوم بسقف العقوبات المفروضة على طهران، وخشيتهما من الوقوع تحت طائلة تلك العقوبات، والأمر الثاني قد يتعلق بتخفيف حدّة التوتر مع الغرب والقوى الأوروبية؛ بما قد يسمح بحل للملف النووي المتعثر، وإزالة العقوبات المفروضة على إيران تدريجياً أو جزء منها.
3- الإبقاء على الخطوط العريضة للسياسة الخارجية: من غير المُحتمل أن تشهد ملفات إيران الإقليمية والدولية تغييرات نتيجة وفاة رئيسي وعبداللهيان؛ وذلك في ظل الصلاحيات الكبيرة للمرشد الإيراني وقيادات الحرس الثوري أصحاب الهيمنة والسيطرة في إدارة الملفات الخارجية. صحيح أن بعض الرؤساء ووزراء الخارجية في إيران قد أدوا دوراً في محاولة تعديل بعض السياسات الخارجية؛ وهو ما حدث في عهد روحاني وجواد ظريف، إلا أن ذلك لم يتحقق بشكل كبير؛ نتيجة معارضة المرشد ومجلس الشورى (البرلمان)، الذي كان يُسيطر عليه التيار الأصولي المتشدد، لسياسات روحاني وظريف. وجدير بالذكر أن الأصوليين المتشددين يسيطرون بشكل شبة كامل على مجلس الشورى الحالي، الذي أجريت انتخاباته في أول مارس 2024.
كما يمكن التدليل على ذلك بأن غياب قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، عقب اغتياله في بغداد، مطلع عام 2020، لم يُغير من توجهات السياسة الخارجية الإيرانية سواء تجاه المنطقة أم العالم، بل استمرت كما هي وإن تأثرت تكتيكاتها.
ويمكن إرجاع ذلك إلى ما يُميّز النظام في إيران من تراتبية شديدة التعقيد؛ إذ يمتلك مؤسسات قوية، تُسيّرها عقيدة وأيديولوجية راسخة، وللأفراد والأشخاص فيها تأثير محدود. والدليل على ذلك أن وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران وقائد ثورتها، آية الله الخميني، لم تُسفر عن أي تغيير في توجهات النظام الإيراني، بل ربما اتجه النظام إلى مزيد من تكريس التشدد في عهد خلفه خامنئي.
4- حسم ملف اختيار المرشد القادم: مثّل إبراهيم رئيسي أحد أبرز المرشحين الأوفر حظاً لتولي منصب المرشد، في حال خلو هذا الأخير، ووصفته بعض الأوساط بأنه كان “مرشح الدولة العميقة”، على أساس أنه جاء من السلك القضائي، الذي ترأسه قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية. ومع غيابه عن المشهد، ربما أصبح الطريق معبداً أمام نجل المرشد الحالي، مجتبى خامنئي، لخلافة والده في المنصب الأهم في إيران، خاصةً بعد إبعاد عدد من المرشحين البارزين من أمثال رئيس مجلس الشورى السابق، علي لاريجاني، ووفاة آخرين من أمثال الرئيس الإيراني الأسبق، هاشمي رفسنجاني، والمرجعين الدينيين البارزين محمود هاشمي شاهرودي ومحمد مصباح يزدي.
وربما قام النظام الإيراني، خلال الفترة الأخيرة، بتهيئة الأجواء السياسية والإعلامية تمهيداً لاحتمالية خلافة مجتبى خامنئي؛ إذ تشكل مجلسا الشورى وخبراء القيادة، بشكل أساسي، من الأصوليين المتشددين، ليكونا “أكثر إطاعة” تمهيداً لاختيار المرشد القادم.
يمكن القول إن وفاة الرئيس الإيراني، رئيسي، ووزير خارجيته، عبداللهيان ربما لن تكون لها تداعيات كبيرة على الخطوط العامة التي يتبناها النظام الإيراني في إدارته للملفات الداخلية والخارجية؛ إذ إن التراتبية التي يتسم بها هذا النظام أثبتت أنه قادر على التكيف ولديه مناعة ذاتية يستطيع من خلالها إعادة إنتاجه نفسه مرة أخرى؛ لذا من المُرجح أن تستمر السياسات المتشددة للنظام الإيراني في الداخل والخارج؛ نظراً لأنها ترتبط بمصالح أساسية له، وليس من الوارد تخليه عنها إلا إذا حدث تغيير هيكلي في بنية النظام نفسه.
خلاصة القول لن يكون لمقتل رئيسي أي تأثير ملحوظ على القرارات الرئيسية المتعلقة بالسياسة الداخلية والخارجية والتي يحددها السيد علي خامنئي في نهاية المطاف.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية