خلال فترة زمنية متقاربة لا تتجاوز الساعات اضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى زجّ نفسه علانية في اثنتين من أسخن الملفات التي تواجهها إدارته، وابتعد بالتالي عن خيارات سابقة كانت تتيح ضبابية أوسع في اعتماد المعالجات المختلفة، ومرونة أكبر في الحفاظ على سياسات غائمة حتى في ذروة انحيازها إلى فريق دون آخر.
الملف الأول يخص حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، إذ بلغت إدارة بايدن مرحلة قصوى أو تكاد من حيث التعايش مع سياسة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في استمرار الحرب لصالح أهداف لم تعد تخدم إلا أجندات الأخير الشخصية والحزبية والانتخابية والقضائية. وتلك حال كلّفت واشنطن وتواصل تكليفها المزيد من العواقب على أصعدة داخلية تخص حملة بايدن لولاية رئاسية ثانية، وتبلور شرائح أوسع فأوسع من رافضي الحرب داخل الحزب الديمقراطي والمجتمع الأمريكي وشرائحه الشبابية على نحو خاص.
أثمان تلك الحالة خارجية أيضاً لأنها تحشر الولايات المتحدة في موقع انعزالي حتى بالقياس إلى حلفاء واشنطن وأنصار دولة الاحتلال، وليس في مؤسسات مثل الأمم المتحدة والهيئات والمنظمات المعنية بالإغاثة وحقوق الإنسان فحسب، بل كذلك على مستوى أعلى مؤسسات القانون الدولي مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. وحرج واشنطن تجاوز الجانب الأخلاقي الناجم عن استخدام الأسلحة الامريكية في ارتكاب أشنع جرائم الحرب، وبات يتصل أيضاً بالمساءلة القضائية المباشرة.
ورغم غياب الوضوح عن نقاط غير ضئيلة اكتنفت خطة بايدن لوقف إطلاق النار في القطاع وإنهاء الحرب وتبادل الأسرى، فإن الرئيس الأمريكي أخذ زمام الأمور بيده على نحو بدا وكأنه المفاوض بالنيابة عن دولة الاحتلال، ولم يكن خافياً كذلك أن طرازاً من الغموض البناء المتعمد اقترن بصياغة فقرات عديدة ضمن الخطة (خاصة ما تسرّب عن الفقرة 8 حول اليوم 16 من المرحلة الأولى، والفقرة 14 حول ضمانات وقف إطلاق النار) ويُراد منه توسيع هوامش المناورة للطرفين.
الملف الثاني بعيد عن قطاع غزة لكنه وثيق الصلة بمعضلة كبرى تواجه السياسة الخارجية الأمريكية لأنه يخص مآلات الحرب الراهنة في أوكرانيا، والتقدم الملحوظ الذي تحرزه القوات الروسية الغازية في العمق الأوكراني، وإشكاليات تزويد كييف بما تحتاج إليه من السلاح والذخيرة، والخلاف داخل الصفّ الأوروبي والأطلسي حول مدى وحدود التدخل المباشر في تلك الحرب. هنا أيضاً خرج بايدن على الملأ ليعلن بنفسه التنازل عن محظور سابق كان ينص على عدم زجّ المعدات العسكرية الأمريكية في هجمات أوكرانية داخل العمق الروسي، فسمح بنطاق من الاستخدام يظل ضيقاً وإن كان يكسر القاعدة.
ولكن بايدن يعاني، في الملفين معاً، من نتائج معاكسة وفق مبدأ الكماشة القديم، حيث يواصل نتنياهو الالتفاف على الخطة في مسعى لإرضاء التيارات الأشد تطرفاً داخل تحالفه، كما يطالب الرئيس الأوكراني بالمزيد واضعاً واشنطن أمام حرج استفزاز الكرملين. وكل هذا في غمرة اقتراب آجال الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يمكن للكماشة أن تضيف الرأس الثالث الحاسم أو القاتل.