يستدعي اليوم 5 يونيو/حزيران ذكريات لا مفر منها، تضع أمامنا دروسا مؤلمة، بين يوم الهزيمة في عام 1967، الذي كسر جيلا بأكمله، إلى يوم الصمود في عام 2024، الذي أحيا فينا، روح الإرادة والتصميم على تحقيق النصر، مهما كان الثمن، فإذا كنت للموت؛ فمُت واقفا عزيزا، ولا تمُت خاضعا ذليلا. هذه المرة يعود علينا اليوم وفريق منا يقاتل، فانصروه بالمدد والتضامن، ولا تخذلوه، فإن لكم في القتال حياة، ضد عدو لا يرى وجوده إلا في فنائكم، ولا يرى صعوده إلا على جماجمكم، ولا يرى مستقبله إلا في محو هويتكم وإرادتكم.
الصمود الفلسطيني يظل مفتاح التغيير لمستقبل أفضل للمنطقة التي آن لها الأوان أن تتخلص من الحروب بلا رجعة، وأن تقيم سلاما بين شعوبها، وليس محورا جديدا للحرب
يعود اليوم علينا بذكرياته المؤلمة، لكنه ينبئنا هذه المرة بملامح الصورة التي يعيشها الصامدون، الذين هم، رغم الحصار والدم المستباح والإبادة، يضربون أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية، والقدرة على إلحاق الهزيمة بالباغي المحتل. اليوم تنطق الصورة على الجانب الآخر أيضا بالألم والشعور بالمذلة، أمام قوة تقاتل بالإرادة وليس بقوة نيران الذكاء الاصطناعي، وقنابل الـ2000 رطل، ودبلوماسية النفاق وتبرير حرب الإبادة.
تعود ذكرى اليوم وعشرات الآلاف من الإسرائيليين نازحون يعيشون في ملاجئ مؤقتة، حتى لو كانت غرفا مكيفة، فإنها تعكس صورة من صور بؤس التشرد والعجز. لم تقدم لهم حكومة الحرب في تل أبيب ما يحميهم، ولم توفر الولايات المتحدة لهم مهربا. لم يحصلوا حتى الآن في نهاية الشهر الثامن من الحرب على وعد بالرجوع إلى مدن وقرى شرق قطاع غزة، أو ما يسمونه «غلاف غزة»، ولا وعد بالرجوع إلى المدن والقرى المطلة على جنوب لبنان. لا يملك نتنياهو الجرأة على تقديم ذلك الوعد، لأنه في حقيقة الأمر لا يخوض حربا لهم، وإنما يخوض حربا عليهم، لأن وجود الشعوب يتحقق فقط بالتعايش والاحترام المتبادل، وليس بالحرب والقهر والإبادة. وقد طالت الحرب هذه المرة عن كل مرة، ومن المتوقع لها أن تطول، طالما أن حكومة الصهيونية الدينية المتطرفة عرّفٓتها على أنها «حرب وجود» لا تقبل إلا فناء الآخر. هذه المرة لن تفنى الشعوب الصامدة، لأنها عقدت العزم، على خوض حرب طويلة الأمد، متعددة الجبهات، من أجل التحرر لا الاحتلال، ومن أجل السلام لا العدوان، ومن أجل التعايش لا الإبادة. إن حربا طويلة الأمد على عدة جبهات في وقت واحد هي الطريق الصحيح لهزيمة إسرائيل عسكريا، وإزاحة حكومة نتنياهو وفتح طريق واعد إلى سلام عادل ومستدام، يقوم على أسس التعايش والاحترام المتبادل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وضمان حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية بشروط تضمن سيادتها وأمنها واستدامتها.
تدهور قدرة إسرائيل على التحمل
ارتفعت في الأسابيع الأخيرة أصوات في إسرائيل تحذر من خطورة تدهور القوة على التحمل في الحرب الدائرة في غزة، وشررها الذي يتطاير شمالا وشرقا على حدود إسرائيل مع جنوب لبنان وشمال الضفة الغربية على وجه الخصوص. ومن بين تلك الأصوات تحدث مئير بن شبات رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي سابقا، محذرا من عواقب تدهور القوة الداخلية، داعيا إلى ضرورة تعزيز قوة التحمل على جميع المستويات. وقال بن شبات في مقاله الأخير في صحيفة «إسرائيل اليوم» إن الاعتقاد السائد لدى حزب الله وحماس هو أن إسرائيل لا تستطيع أن تتحمل حربا طويلة الأمد، ومن ثم فإن القيادة السياسية يجب أن تستثمر الكثير من أجل تعزيز القدرات الداخلية، على التوازي مع الجهود الجارية في مجال الدبلوماسية والعمل العسكري. ونبه بن شبات، إلى أهمية تقليل الشعور بالقلق بين الإسرائيليين إلى أقل مستوى ممكن، وتعزيز القدرة على التحمل الاقتصادي، وتقليل الأعباء المعيشية، وإرجاء، أو عدم الدخول في مناقشات بشأن موضوعات متفجرة توجد فيها خلافات عميقة. كما حذر من التراخي في مواجهة تصاعد المقاومة في الضفة الغربية، ومن تزايد وتيرة وقوة الاشتباكات مع حزب الله في جنوب لبنان، بزعم أن إسرائيل تحارب على كل الجبهات، من أجل ضمان «استمرار وجودها»! وهو يرى مثل غيره من قادة الصهيونية المتطرفة أن هذا الوجود لا يكون إلا بفناء الآخر ماديا أو معنويا.
كما أن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب استبق حديث بن شبات بشأن تعزيز القدرة على التحمل لمواجهة حرب طويلة الأمد على جبهات متعددة في وقت واحد، بإجراء دراسة تحليلية لبيانات استطلاعات الرأي الأخيرة، حتى أواخر شهر أبريل/ نيسان مقارنة باستطلاعات سابقة أجراها المعهد في الأسبوع التالي للحرب. وقد ركز خبراء المعهد على تحليل ثلاثة عناصر رئيسية تتعلق بمستوى ثقة الناخبين في القيادة السياسية، وفي الجيش، وفي الشرطة. ويلقي هذا التحليل ضوءا كاشفا على تدهور مستوى الثقة بين المجتمع والدولة بمؤسساتها السياسية والأمنية والقضائية. وطبقا للنتائج المنشورة لهذه الدراسة على موقع معهد «INSS» فإن قدرة المجتمع الإسرائيلي على التحمل والتماسك في مواجهة المقاومة وأعباء الحرب على غزة قد تدهورت منذ بدأت الحرب حتى الآن. وتضمنت هذه النتائج أن عجز الدولة عن تحقيق أهداف الحرب، والقلق بشأن مصير المحتجزين الإسرائيليين، والظروف شديدة الصعوبة التي يعاني منها عشرات الآلاف من النازحين، الذين تركوا مساكنهم في المنطقة المحيطة بقطاع غزة في الجنوب، والمنطقة الواقعة على خطوط التماس مع حزب الله في شمال إسرائيل، والخوف من احتمال فتح جبهة مواجهة عسكرية جديدة مع إيران، تمثل جميعها محركات القلق على المستقبل وتدهور القدرة على التحمل. كما يمثل المناخ السياسي العام داخل إسرائيل والخلافات داخل الحكومة، والصدامات المتكررة بينها وبين أهالي المحتجزين، والخطاب السياسي الحاد الذي يهيمن على العلاقة بين الدولة والمجتمع، عوامل إضعاف، تهدد استقرار حكومة نتنياهو، وتسبب تشققات داخل البنية السياسية في العلاقة بين الحكومة والمعارضة، وبين المجتمع والدولة. وقد اعتمد الخبراء على تحليل نتائج 15 استطلاعا للرأي قام المعهد بإجرائها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2024.
تدهور الثقة في الجيش والشرطة
تبين نتائج التحليل تدهور مستوى الثقة في المؤسسات العسكرية والأمنية والحكومة بشكل عام، كلما طالت مدة الحرب، إذ انخفض مستوى الثقة في الجيش من 92 في المئة تقريبا في بداية الحرب إلى 64 في المئة، في أحدث استطلاعات الرأي الذي جرى في منتصف أبريل. ويعتقد 22 في المئة من الإسرائيليين حاليا أن الجيش الإسرائيلي لن يتمكن من كسب الحرب ضد المقاومة الفلسطينية في غزة مقابل 4 في المئة فقط بعد أسبوع من انفجار الحرب. وقد بدأ الهبوط الشديد في مستوى الثقة في قدرة الجيش على كسب الحرب في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ثم استمرت في التدهور منذ ذلك الوقت. وفي قياس مدى الثقة في قدرة الجيش على تحقيق أهداف الحرب كلها، أو النسبة الأعظم منها، أجاب 76.5 في المئة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بأنهم يعتقدون في قدرة الجيش على تحقيق ذلك، لكن هذه النسبة تناقصت إلى 48 في المئة في شهر أبريل. كما هبطت نسبة من يعتقدون بأن الجيش يستطيع تحقيق كل أهداف الحرب من 20 في المئة إلى 10 في المئة أي تناقصت إلى نصف ما كانت عليه خلال الفترة نفسها. وفي آخر استطلاعات الرأي بلغت نسبة من يعتقدون بأن الأهداف العسكرية للحرب لن تتحقق، أو سيتحقق القدر القليل منها فقط 43 في المئة فقط. وبإضافة «غير المتأكدين» مما إذا كان يمكن تحقيق أي هدف للحرب فإن هذه النسبة ترتفع إلى 51 في المئة. وهذا يعني أن أكثر من نصف الإسرائيليين لم يعودوا متأكدين، بشكل أو بآخر من قدرة الجيش على تحقيق أهداف الحرب في غزة.
ومع تدهور قدرة إسرائيل على التحمل، بالمقاييس التي استند عليها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، وغيرها من المقاييس الاقتصادية والعسكرية، فإن الصمود الفلسطيني يظل هو مفتاح التغيير إلى مستقبل أفضل للمنطقة ككل. هذه المنطقة آن لها الأوان أن تتخلص من الحروب بلا رجعة، وأن تقيم سلاما بين شعوبها، وليس محورا جديدا للحرب، لا ضد إيران كما يريد نتنياهو وبايدن ولا ضد غيرها. عقيدة الصهيونية المتطرفة تتقهقر، ويجب أن نطاردها، حتى تنتصر روح التعايش الإنساني والسلام الإقليمي، ويتحقق للشعب الفلسطيني حلمه في دولة مستقلة ذات سيادة قادرة على البقاء والنمو.