قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بجولة خارجية شملت عدداً من الدول الإفريقية (تشاد – غينيا – الكونغو برازفيل – بوركينا فاسو)، خلال الفترة من 2 إلى 6 يونيو 2024، وذلك بهدف تعزيز الدور والنفوذ الروسي في الدول الأفريقية، بما يُسهم في الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية.
أبوظبي – تعكس زيارات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى القارة الأفريقية سياسة خارجية روسية براغماتية تسعى من خلالها موسكو لإيصال رسالة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مُفادها قدرة الفاعل الروسي على ملء الفراغ الذي ترتب على تراجع النفوذ الغربي بصفة عامة في أفريقيا، ومن المحتمل أن تنجح روسيا في التمدد داخل غينيا خاصة؛ ومن ثم الحصول على منفذ جديد على المحيط الأطلسي؛ ومن ثم تحقيق المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية.
ويرى مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن زيارة وزير الخارجية الروسي لعدد من الدول الأفريقية جاءت في سياق عدد من المتغيرات السياسية والأمنية المهمة، سواء فيما يتعلق بما تشهده العلاقات الروسية الغربية من توترات سياسية متصاعدة، أم فيما يتعلق بالتطورات السياسية والأمنية التي تشهدها أفريقيا بصفة عامة، وتلك التي شملتها الجولة بصفة خاصة.
واكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة، نظرا لعدّة أسباب رئيسية؛ من أبرزها أنها الزيارة السادسة من نوعها لوزير الخارجية الروسي لدول القارة الأفريقية خلال عامين، وأيضا الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها لافروف لدولة تشاد على الإطلاق، والأولى لدولة غينيا منذ آخر زيارة لها في عام 2013، ما يعكس اهتماما روسيا مُتصاعدا بتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، وحرصا روسيا على توظيف هذا التقارب المتسارع لإقامة علاقات شراكة إستراتيجية مع هذه الدول.
وتزامنت هذه الزيارة مع تزايد مؤشرات تراجع النفوذ الأميركي والغربي في القارة الأفريقية، ولعل أبرزها الانسحاب الأميركي من بعض دول الساحل والصحراء خلال الفترة الأخيرة، وخاصة بعدما أعلنت كل من الولايات المتحدة والنيجر في منتصف شهر مايو 2024 عن اتفاقهما على بدء عمليات سحب القوات الأميركية من النيجر، على أن تنتهي هذه العمليات بشكل كامل بحلول 15 سبتمبر 2024، وفي ذلك مؤشر مهم على التغير النوعي في طبيعة العلاقات الأميركية الأفريقية، بعد أن أصبح الوجود الأميركي في تلك الدول مرفوضا على المستوييْن الرسمي والشعبي؛ وهو ما يعني الخصم من النفوذ الأميركي في منطقة الساحل والصحراء؛ وهو ما سيترتب عليه التأثير سلباً على مصالحها في القارة.
وتزامنت الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي، مع ما تشهده بعض هذه الدول من أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية غير مُستقرة؛ إذ لاتزال بوركينا فاسو تعاني أوضاعا أمنية مضطربة في ظل تصاعد أنشطة تنظيم القاعدة الإرهابي هناك وقيامه بتنفيذ عدد كبير من العمليات الإرهابية خلال الفترة الأخيرة مُستهدفا قوات الجيش وقوات مكافحة الإرهاب، وذلك بالتزامن مع استمرار مظاهر عدم الاستقرار السياسي أيضا في بوركينا فاسو، وخاصة بعد الإعلان عن تمديد حكم المجلس العسكري هناك لمدة خمس سنوات بقيادة إبراهيم تراوري.
وعلى صعيد آخر لا تزال تشاد تعاني أوضاعا سياسية وأمنية غير مستقرة، وذلك على الرغم من الإعلان عن فوز محمد إدريس ديبي برئاسة البلاد، وذلك بعد ثلاث سنوات من توليه السلطة كقائد للمجلس العسكري الانتقالي، في ظل تصاعد أنشطة بعض التنظيمات المسلحة والمتطرفة في البلاد، التي أصبحت في صدارة الترتيب الدولي بعد أفغانستان من حيث عدد العمليات الإرهابية وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، في حين تعاني كل من غينيا والكونغو برازافيل أوضاعا اقتصادية مُتأزمة، وهنا يبرز الدور الروسي في إمكانية مُساعدة هذه الدول على تحسين أوضاعها الاقتصادية، وفي المقابل تمديد النفوذ والحصول على بعض المكاسب الاقتصادية.
وحملت زيارة لافروف للدول الإفريقية، عددا من الأهداف التي تسعى موسكو لتحقيقها، والمرتبطة في الأساس بتعزيز النفوذ الروسي وتمديده في معظم أنحاء القارة الإفريقية. وتهدف روسيا من خلال توافد مسؤوليها على الدول الأفريقية وعبر دبلوماسية الزيارات المكثفة لتلك الدول، إلى العمل على تطوير نمط العلاقات القائم ليصل إلى مرحلة التحالفات والشراكات الإستراتيجية، ولعل دعوة لافروف لنظرائه خلال هذه الزيارة لحضور
مؤتمر وزراء الخارجية الأفارقة بمدينة سوتشي الروسية في شهر نوفمبر 2024، للتحضير للقمة الروسية الأفريقية القادمة، تُعد دليلا على حرص موسكو على تطوير علاقاتها بالدول الأفريقية، بما يساعدها على الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في تلك الدول التي استجابت بشكل مُتسارع لدعوات التقارب مع روسيا، آملةً في الحصول على الدعم الروسي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بما يساعد الأنظمة السياسية في تلك الدول على شرعنة بقائها في السلطة خلال السنوات المقبلة، ومواجهة مختلف الضغوط المفروضة عليها سواء من قبل المنظمات الإقليمية كالاتحاد الأفريقي و”الإيكواس” الرافضة لطرق تغيير السلطة في بعض هذه الدول (تشاد – بوركينا فاسو – غينيا…)، أم من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية وخاصة فرنسا، التي تعارض التقارب الروسي مع هذه الدول.
وتهدف روسيا أيضا إلى توقيع المزيد من اتفاقيات التعاون العسكري والدفاعي مع دول القارة، بما في ذلك صفقات السلاح وإرسال الخبراء الروس لتدريب القوات المسلحة في تلك الدول، وخاصة فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب المتنامي في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما عكسته محادثات لافروف مع المسؤولين في الكونغو برازافيل؛ إذ تم الاتفاق على تطوير التعاون العسكري التقني، ومتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في عام 2019 بين الدولتين بشأن إرسال مُتخصصين عسكريين روس إلى الكونغو لمساعدتها على تطوير مؤسساتها العسكرية والأمنية، كما تم الاتفاق على تعزيز التعاون المشترك بين روسيا وغينيا، وخاصة فيما يتعلق بتطوير قدرات غينيا العسكرية لمساعدتها على مواجهة التهديدات الأمنية المرتبطة بتصاعد الأنشطة الإرهابية، هذا بالإضافة إلى الاتفاق على استمرار التعاون العسكري الروسي مع تشاد وخاصة على مستوى توريد الأسلحة والمعدات العسكرية، في منافسة قوية مع فرنسا التي تربطها علاقات قوية مع تشاد حتى الآن، وذلك في إطار حرب النفوذ بين موسكو وباريس الدائرة في تشاد حالياً، خاصة وأن تشاد تُعد آخر معاقل الوجود الفرنسي في الوقت الحالي بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو؛ إذ توجد تسع قواعد عسكرية فرنسية في تشاد.
ومما لا شك فيه أن زيارة لافروف تهدف إلى تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وهذه الدول؛ إذ تسعى روسيا إلى تقديم بعض المساعدات الاقتصادية للدول الأفريقية التي تعاني أوضاعاً اقتصادية متفاقمة، وقد يكون ذلك عن طريق عقد اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي في بعض المجالات المهمة.
وتسعى روسيا إلى تعزيز دورها في الأزمة الليبية المُثارة، وذلك من خلال توظيف المبادرة التي طرحها رئيس الكونغو برازافيل، ساسو نغيسو، تحت مظلة الاتحاد الأفريقي تحت شعار “نداء برازافيل من أجل تسريع مسار السلم والمصالحة في ليبيا” والتي تضمنت دعوة الأطراف الليبية لعقد مؤتمر لتحقيق المصالحة الوطنية وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وأيضا الدعوة إلى انسحاب جميع العناصر المسلحة والمرتزقة الموجودين داخل ليبيا.
العرب