قد يكون السماح بإجراء جولة ثانية في الانتخابات الرئاسية خطوة محفوفة بالمخاطر إلى حد ما بالنسبة للمرشد الأعلى، ولكن هندسة نتيجة من جولة واحدة من شأنها أن تثير مشاكل داخلية في حد ذاتها.
أثارت الحملة الرئاسية المعجلة التي أطلقتها إيران بعد الوفاة المفاجئة لإبراهيم رئيسي انتقادات شعبية أكثر حدة مما كان متوقعاً ضد مجموعة واسعة من السياسات الحكومية. ومن المفترض أن يشكل هذا الأمر مصدر قلق للمرشد الأعلى علي خامنئي، لأن النبرة قد تصبح أكثر حدة إذا لم يفز أي مرشح بأغلبية الأصوات في الانتخابات في 28 حزيران/يونيو، مما يستلزم إجراء جولة ثانية في 5 تموز/يوليو. وقد ازدادت احتمالات حدوث هذه الجولة الثانية في الأيام الأخيرة لأن أياً من المرشحَيْن المتشددَيْن الرئيسيَيْن لم ينسحب، وبالتالي فمن غير المرجح أن يفوزا أو أن يفوز المرشح الإصلاحي الوحيد بالأغلبية.
انتقادات حادة
ربما تركزت أشد الانتقادات التي سُمعت خلال الجولة الحالية على صرامة النظام في تطبيق القوانين التي تلزم النساء بارتداء الحجاب، علماً بأن هذه هي القضية نفسها التي أشعلت حركة احتجاج جماهيرية في عام 2022. ولم يكن المرشح الإصلاحي مسعود بيزشكيان هو الوحيد الذي أعرب عن هذه الشكوى. وقد صرح المرشح الديني مصطفى بور محمدي – الذي يوصف على نطاق واسع بأنه متشدد – بشكل قاطع أنه “لا ينبغي لنا تحت أي ظرف من الظروف أن نعامل النساء بمثل هذه القسوة”، مشدداً على ضرورة التعليم بدلاً من ذلك. حتى أنه ذهب إلى حد القول إن الحكومة فقدت ثقة الشعب، وإن استعادتها “تتطلب معجزة”. وفي غضون ذلك، نشر أنصار بيزشكيان مقاطع له انتقد فيها رد السلطات على تعذيب ووفاة مهسا أميني عام 2022 بسبب “مخالفة قواعد” الحجاب.
بالإضافة إلى ذلك، سلطت المناظرات الضوء على التناقضات العميقة بين مواقف المرشحين من ناحية تعامل الحكومات ومراكز القوى السابقة مع القضايا الحساسة في السنوات الأخيرة. فقد ذكّر بيزشكيان الناخبين بأن بعض الفصائل تتسامح مع السلوك التحريضي حرفياً ضد الحكومات الأجنبية، متسائلاً: “من تسلق جدران السفارة البريطانية [في عام 2011]؟ من أضرم النار في السفارة السعودية [في عام 2016]؟ … لمن تتْبَع الصحف التي كتبت استحساناً للهجوم؟” كما ألقى باللوم على الخصومات المحلية في عرقلة جهود إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، بحجة أن هذا الفشل تسبب في ارتفاع التضخم في إيران.
وفي المقابل، دافع نائب الرئيس أمير حسين قاضي زاده هاشمي (الذي انسحب منذ ذلك الحين من السباق الرئاسي) عن موقف رئيسي الأكثر تشدداً بشأن القضية النووية، فقال: “لماذا خفف بايدن العقوبات على رئيسي؟ … إن ذلك يعني أن الشهيد رئيسي أرغم الأمريكيين على تخفيف العقوبات”، وهذا أمر يفترض أن سلفه الأكثر اعتدالاً، حسن روحاني، لم يتمكن من تحقيقه. وفي الواقع، انتقد الكثير من المرشحين روحاني لموافقته على الاتفاق في المقام الأول، وبالتالي تقييد برنامج إيران النووي. حتى أن رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف تفاخر بدوره في إقرار قانون يتطلب من الحكومة انتهاك الاتفاق عمداً من خلال زيادة تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المائة. ومع ذلك، رد بيزشكيان على هذا التبجح بسؤال المرشحين الآخرين صراحةً كيف يعتزمون حل المشاكل المتزايدة مع الغرب بشأن البرنامج النووي.
كما أثار المتنافسون تساؤلات حادة حول الفساد. على سبيل المثال، تم الضغط على بعض المرشحين على خلفية دورهم في صفقة الغاز الطبيعي المثيرة للجدل التي أبرمتها الحكومة مع شركة إماراتية عام 2002، والتي أدت في النهاية إلى إلزام إيران بدفع غرامة قدرها 607 ملايين دولار نتيجة إلغاء العقد.
مخاوف خامنئي من جولة ثانية
في 24 حزيران/يونيو، حذر حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة “كيهان” المتشددة وصديق خامنئي المقرب، من أن ترشيح بيزشكيان – وإن كان من داخل “أوساط الثورة” – يحظى بدعم من بعض “قادة الفتنة”، في إشارة إلى محمد خاتمي وغيره من كبار الإصلاحيين الذين دعموا الاحتجاجات الجماهيرية ضد الانتخابات المزورة عام 2009. كما حظي بيزشكيان بتأييد روحاني، الذي يعتبر المتشددون بمرارة أن رئاسته كانت كارثية لإيران. وفي الواقع، أثار تأييد خاتمي وروحاني ردود فعل قوية على وسائل التواصل الاجتماعي من كلا الجانبين، حيث ناقش الكثير من المعلقين كيفية ارتباط سياسات كل زعيم بالرئاسة المحتملة لبيزشكيان، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. وإذا نجح في الوصول إلى جولة ثانية، من المرجح أن يقال الكثير عن مبادرات الإصلاح السابقة.
ومن المفترض أن خامنئي سوف يمقت هذا السيناريو، لأنه لم يكن قط من محبي النقاش المفتوح حول أوجه القصور في النظام. ففي خطاب متلفز في 25 حزيران/يونيو، حذر مجدداً المواطنين من انتقاد الجمهورية الإسلامية أو اقتراح تغيير عميق، بحجة أن مثل هذه التصريحات قد “تسعد أعداء البلاد”. ويمكن توقع المزيد من هذه الملاحظات التحذيرية في الجولة الثانية إذا بقي بيزشكيان في سباق الرئاسة. كما أطلق خامنئي تحذيرات للمرشحين طالباً منهم تجنب المستشارين “المحبين لأمريكا”، وأشار إلى أن المنافس الذي “يعارض ولو قليلاً” مبادئ الثورة الإسلامية “لا طائل منه”.
ويبدو أن خامنئي تجنب، على الرغم من مخاوفه، الوسيلة الأكثر بديهية لمنع الجولة الثانية وهي العمل من وراء الكواليس و”نصح” أحد كبار المتشددين، سواء قاليباف أو سعيد جليلي، بالانسحاب، ليمنح بذلك المرشح الآخر طريقاً أسهل لتحقيق نصر مباشر في الجولة الأولى. وفي الواقع أن المحافظين البارزين كانوا يطالبون بهذا الخيار منذ أيام. فقد قال شريعتمداري للمرشحين المتشددين المتبقين: “يجب أن توافقوا على تشكيل ائتلاف. وإلا فإن تركيزكم المتكرر على مواصلة مسيرة الشهيد رئيسي سيكون موضع تساؤل لا سمح الله”. وبالمثل، نشرت “وكالة تسنيم للأنباء”، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني”، مقالاً في 22 حزيران/يونيو حثت فيه “التيار الثوري” على تشكيل ائتلاف يدعم مرشحاً واحداً، بحجة أن بيزشكيان سيفوز على الأرجح إذا اتجهت الانتخابات إلى جولة ثانية. وقد أعادت صحيفة “خراسان” المحافظة نشر هذا المقال في 24 حزيران/يونيو، في حين غرد القائد السابق لـ”الحرس الثوري” ومرؤوس رئيسي محسن رضائي أن “تحالف «التيار الثوري» هو ضرورة وطنية ملحة لتحسين الكفاءة وتسريع تقدم البلاد”. وتبريراً للانسحاب، دعا المرشح المتشدد الهاشمي إلى “الوحدة والتوافق بين القوى الثورية”، في حين أعلن علي رضا زاكاني أنه تنحى “لمنع تشكيل حكومة ثالثة لروحاني”.
ويشير الكثير من استطلاعات الرأي إلى أنه مع استمرار جليلي وقاليباف وبيزشكيان في السباق، لا يمكن لأي منهم أن يقترب من تحقيق الأغلبية المطلوبة للفوز في الجولة الأولى. وقد تكون استطلاعات الرأي خاطئة بالطبع، خاصة وأن التنبؤ بإقبال الناخبين في هذه الانتخابات أمر صعب. غير أن الفوز في جولة واحدة سيشير على الأرجح إلى أن النظام زوّر الأصوات بشكل فادح مثلما فعل عام 2009، وهذا الأمر لم يخدم شرعيته. فالمتشددون والإصلاحيون على حد سواء سيصابون بخيبة أمل مريرة وسيشككون في العملية إذا فاز الجانب الآخر بهذه الطريقة. وعلى الرغم من أنه كان من المتوقع على نطاق واسع أن يحصل قاليباف على أغلبية سريعة عندما بدأت الحملة الانتخابية، إلا أن أداءه الباهت والحماس للمرشحين الآخرين سيثيران الشكوك الآن إذا تم الإعلان عن فوزه الصريح هذا الأسبوع.
ومن المفترض أن رغبة خامنئي في زيادة نسبة الإقبال هي أحد الأسباب الرئيسية لعدم اتخاذه إجراءات لتضييق الخيارات. ففي 25 حزيران/يونيو، ذكّر الناخبين بأن المشاركة في يوم الانتخابات “تجلب الشرف للجمهورية الإسلامية” و”تسكت الأعداء”. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نية الجمهور في التصويت قد زادت بشكل ملحوظ خلال الحملة الانتخابية. لكن في الوقت نفسه، من المرجح أن يعني ارتفاع نسبة الإقبال حصول بيزشكيان على عدد أكبر من الأصوات، الأمر الذي يطرح مخاطر سياسية أخرى أمام خامنئي .
ويبدو أيضاً أن المرشد الأعلى يفضل ألا يحقق أي من كبار المتشددين النصر ببساطة. فجليلي وقاليباف طموحان ويتطلعان إلى مزيد من السلطة، ونادراً ما سمح خامنئي لشخصيات أخرى بالوصول إلى مكانة كافية لتقويض سلطته المطلقة إذا ما رغبت في ذلك. وأحد السيناريوهات البديلة التي ستكون أقل تحدياً له هو جولة ثانية بين جليلي وقاليباف. فبغياب مرشح إصلاحي في السباق، ستكون الحملات أقل انتقاداً لسياسات النظام. وبطبيعة الحال، سيحتج أنصار بيزشكيان على إقصائه، زاعمين – ربما عن وجه حق – بأن التصويت تعرض للتزوير. لكن هذا الأمر قد يكون أقل إثارة للقلق لخامنئي من الخيار البديل.
وفي نهاية المطاف، يتمتع الرؤساء الإيرانيون بتأثير محدود على قضايا النظام العامة. ويشمل ذلك مسألة خَلَف خامنئي كمرشد أعلى، مع أنه من المسلّم به أنه لا يُعرف سوى القليل عن المرحلة التي تجري خلف الأبواب المغلقة من عملية الاختيار هذه. وبالنسبة للشؤون الخارجية، فإن اختيار الرئيس مهم إلى حد ما، ليس بسبب ما قد يختار بعض المرشحين القيام به بمجرد توليهم المنصب، ولكن بسبب الرسالة التي سيوجهها فوزهم بشأن اتجاه خامنئي المفضل في السياسات. وإذا انتصر بيزشكيان، قد يفترض المسؤولون الغربيون أن المرشد الأعلى يريد أن تبدو إيران أقل تهديداً. ولكن إذا كان الماضي أي مؤشر، فإن النظام لن يتردد في مواصلة سياساته الأكثر إشكالية حتى في ظل حكم رئيس إصلاحي، كما تبيّن عندما سعى إلى تنفيذ برنامج نووي يركز صراحة على الأسلحة خلال رئاسة خاتمي.