أيكون ترامب إطفائي الحرائق أم نافخ الكير؟

أيكون ترامب إطفائي الحرائق أم نافخ الكير؟

مع اقتراب موعد دخول الحرب الروسية المفتوحة على أوكرانيا عامها الثالث (بدأت في 24 فبراير/ شباط 2022)، ترتفع الأصوات في أوروبا الغربية، ولو على استحياء، بضرورة العمل من أجل وضع حدّ لها عبر المفاوضات بين الدولتَين بمساعدة من الدول الأوروبية، وحتى غير الأوروبية، التي ترى أن الحلّ النهائي الأفضل لقضايا النزاع الحدودي والخلافات بشأن التوجّهات الخارجية والتطوّرات الداخلية هو الحلّ السلمي عبر المفاوضات.
وجدير بالذكر أن دولاً عدّة لها علاقات مع طرفي النزاع، مثل تركيا والسعودية والهند وربّما دول أخرى، حاولت هذا، من دون نتيجة ملموسة، رغم مساهمتها في إيجاد الحلول لقضايا مستعجلة مثل تبادل الأسرى، وتصدير الحبوب، وعدم تصعيد الحرب إلى مستويات خطيرة. ولكن تلك الجهود لم تصل إلى مستوى اقتناع الطرفَين بضرورة التخلّي عن عقلية ضرورة الانتصار، سواء عبر قضم مزيد من المناطق التي كانت خاضعةً للسيادة الأوكرانية، وهو التصور الروسي للانتصار، أو من خلال استرجاع سائر المناطق التي سيطرت عليها روسيا منذ عام 2014، بما في ذلك جزيرة القرم، بناء على التفسير الأوكراني لمفهوم الانتصار.
إلا أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز، أخيراً، بعد انقطاع الاتصالات بينهما نحو عاميَن، فتح أبواب تكهّنات إيجابية بخصوص إمكانية مساهمة أوروبا الغربية في دفع الأمور نحو حلّ واقعي ممكن، ولكن سرعان ما تبدّدت الآمال، على الأقلّ كما في الظاهر. ومن المؤشّراتٍ في هذا المجال حصول أوكرانيا على إذن أميركي يخوّلها استخدام صواريخ أتاكمز لضرب العمق الروسي، إلى جانب إعلان شولتز نفسه أن بلاده ستسلّم أوكرانيا آلاف المُسيَّرات المتطورة، وإقدام روسيا على تعديل عقيدتها النووية، وقصفها أوكرانيا (للمرّة الأولى) بصاروخ أوريشنيك الفرط صوتي.

نظام المراكز المتعدّدة على الصعيد العالمي قد يكون أكثر استقراراً وعدلاً، شرط أن يعالج القضايا الإقليمية معالجةً سببيةً

وقد كلّفت هذه الحربُ البلدَين أعداداً كبيرة من الضحايا، قتلى وجرحى، كما أدّت إلى تهجير الملايين، وكلّفت خزينة البلدَين نفقات باهظة أدّت إلى توقّف عديد من مشاريع التنمية في روسيا، نتيجة اضطرارها التركيز على احتياجات الآلة الحربية. أمّا أوكرانيا فلا تمتلك اقتصاداً قوياً مقارنةً بروسيا، فقد حصلت بموجب حسابات استراتيجية غربية على دعمٍ شبه مفتوح من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الأمر الذي أرهق تلك الدول، وأدّى إلى ارتفاع مستويات التضخّم والفائدة، وشكّل ذلك كلّه عبئاً إضافياً على المواطن الغربي بصورة عامة.
وفي أجواء انعدام إمكانية الحسم العسكري لصالح أحد الطرفَين المتحاربَين، رغم الإمكانات الهائلة التي حشدها كلُّ طرف ضدّ الآخر، سواء في ما يتعلّق بالأسلحة أو بالتجنيد أو بالاعتماد على المرتزقة ودعم الحلفاء، لا سيّما من جهة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ما يخصّ أوكرانيا، واستعانة الروس بكوريا الشمالية وبيلاروسيا وايران، وبعناصر من جيش بشّار الأسد، وحتى بتعاطف محسوب من الصين ودول في “بريكس”… في هذه الأجواء، تزداد قناعة الأوروبيين، رغم التصريحات الرسمية التي تصدر في المناسبات المختلفة من حين إلى آخر، بضرورة البحث عن حلّ. ويبدو أن هذه القناعة قد تبلّورت أكثر لدى الأوروبيين مع ظهور نتائج الانتخابات الأميركية، ومعرفة اسم الرئيس الأميركي المقبل، فدونالد ترامب الذي كان مهادناً بوتين في فترة رئاسته الأولى، بل مُشيداً به أحياناً، قد وعد ناخبيه بأنه سيوقف الحرب في أوكرانيا خلال وقتٍ قياسي. وهذا مؤدّاه أن أوروبا قد تجد نفسها متأخّرةً عن الركب، وأن السلام الترامبي الموعود سيكون في صالح الولايات المتحدة وحدها وبناءً على حساباتها، التي لا تراعي بالضرورة (وفق منظور ترامب) المصالح الأوروبية، فترامب فرض بنفسه الرسوم الجمركية على السلع الأوروبية، وشكّك في جدوى الاعتماد على الناتو، وأبدى استعداده للتفاهم مع كوريا الشمالية، وصعّد في المقابل مع الصين وإيران، وذلك كلّه يدخل في سياق المُختَلف عليه مع الأوروبيين.
أما التصعيد الإسرائيلي في المنطقة، سواء في غزّة أم في لبنان، وحتى في سورية، وربّما سيشمل هذا التصعيد مناطق أخرى، فهو يتناغم إلى حدّ كبير مع حسابات ترامب، الذي لا يُخفِي انحيازه الواضح إلى إسرائيل، واستعداده لاتخاذ مزيد من الخطوات لسدّ الطريق على الحلول المقترحة، خاصّة حلّ الدولتين، الذي يبدو أنه ما زال يطرح هنا وهناك من باب رفع العتب وإراحة الضمير. فكلّ من يتحدّث عن هذا الحلّ لا يكشف عن الآليات والخطوات التي ستُعتمَد لإنجازه، كما لا يتحدّث عن أيّ سقف زمني خاصّ بالحلّ المذكور. أمّا الخطوات التي أقدم عليها ترامب، وخطوات أخرى قد يقدم عليها في دورته الثانية، فربّما تكون أكثر تشدّداً لصالح إسرائيل، الأمر الذي سيضع الأوروبيين في موقفٍ صعب، ويشكّك في مصداقية أنظمتهم الديمقراطية، أو على الأقلّ يتسبب في إحداث الفرقة بينهم، كما هو حاصل الآن بخصوص قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص باعتقال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
من جهة ثانية، لم يعد سرّاً أن اليمين الأوروبي المتشدّد بصورة عامّة سعيد إلى أبعد الحدود بفوز ترامب، ويستعدّ لاستغلال الفرصة لصالح سياساته. هذا في حين أن الأحزاب والقوى الأوروبية الأخرى، التي ما زالت ترى في النظام الديمقراطي أفضل الأنظمة، رغم مثالبه، ورغم النجاحات الشعبوية التي تحقّقها القوى المتطرّفة هنا وهناك. الأوروبيون يراقبون ما يجري من تحوّلات في المجتمع الأميركي أكثر من غيرهم. ومن الواضح أن هناك من يحاول منهم الاستعداد للاعتماد على النفس في مسائل الدفاع. وهؤلاء من المتمسّكين بالاتحاد الأوروبي والعمل الجماعي، وهو العمل الذي لا يروق لترامب على المستويين الخاصّ والعام. فترامب هو الذي شجّع بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وربّما يشجّع دولاً أخرى على ذلك في مرحلة رئاسته الثانية. ولعلّ هذا الأمر يلقي الضوء على خلفية المقترح الفرنسي المتكرّر بشأن ضرورة إنشاء قوة عسكرية دفاعية أوروبية، وهي دعوة ستكون موضع دراسة جدّية (على الأغلب) من الألمان أيضاً، وهذا مؤدّاه أن الدول الأوروبية الأخرى سيكون عليها الاختيار بين الوقوف إلى جانب أكثر قوتَين أوروبيتَين أهميةً أو الاستمرار في الالتزام بالسياسات الأميركية رغم ظهور مؤشّرات عدّة تبيّن أن ظاهر الترامبية، التي تعبر عن سياسة الانعزال التي يطالب بها بعض الأميركيين، لن تقتصر على مرحلة ترامب، بل ستترسّخ في المجتمع الأميركي مستقبلاً، وإلّا ما هو تفسير هذا الدعم كلّه لترامب؟
من المتوقّع أن تتبلور هذه التحوّلات في الموقف الأوروبي لاحقاً، لتغدو توجّهاً راسخاً، وهي تحوّلات توحي بتوجّه النظام العالمي نحو تعدّدية المراكز أو الأقطاب (إذا صحّ التعبير وصحّت التوقّعات)، مع الإقرار بوجود فوارقَ بين قوة أو مستويات تطوّر هذا المركز من دون ذاك. فالولايات المتحدة ستظلّ في الأفق المنظور المركز الأكثر أهمية بفضل ما تمتلكه من إمكانيات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية. ولكنّ الصين هي الأخرى في طريقها نحو المزيد من التقدّم، ومنافسة الولايات المتحدة في العديد من الحقول والميادين. أمّا أوروبا الغربية، فإن تمكّنت من تجاوز تبعات هواها الأميركي، فستغدو مركزاً متقدّماً يمتلك أحدث التكنولوجيا، إلى جانب اقتصاد متنوّع وقدرة بشرية مناسبة تمكّنها من القيام بواجباتها في مختلف الميادين. كما أن الهند تعدّ قوةً واعدةً في هذا المجال. أمّا روسيا، فما لم تقطع مع سياسة الاستثمار الكلّي في التكنولوجيا العسكرية، وما لم تفسح المجال أمام سائر شرائح المجتمع الروسي للمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية العامّة في البلاد، رغم تباين المواقف ووجهات النظر، فستظلّ في مقام قوة نامية تمتلك ثروات هائلة، ولديها ترسانة عسكرية ضخمة تشمل مختلف أنواع الأسلحة بما فيها النووية، ولكنّها على الصعيد التكنولوجي والبحثي تفتقر إلى أبسط مستلزمات المنافسة مع المراكز الأخرى، وربّما تكون البرازيل مستقبلاً مركزاً من هذه المراكز في ظلّ إدارةٍ رشيدة.

عوامل متداخلة تتحكّم في الأوضاع السورية، لا توحي بقرب التوصّل إلى حلّ واقعي تتوافق عليه القوى الدولية والإقليمي

نظام المراكز المؤثّرة المتعدّدة على الصعيد العالمي ربّما يكون أكثر استقراراً وعدلاً، شرط معالجة سائر القضايا الإقليمية معالجةً سببيةً، معالجة لا تكتفي بالوصفات العرضية المُخدِّرة، التي قد توحي بالحلول، ولكنّها تظلّ مُجرَّد حلول وقتية آنية سرعان ما يتلاشى مفعولها بفعل ضغط الأسباب الحقيقية. وفي مقدّمة هذه القضايا قضايا الشرق الأوسط، التي تهمّ الأوروبيين بالدرجة الأولى بفعل عوامل عديدة، منها القرب الجغرافي والهجرة، والمسائل الأمنية، وإمكانيات التعاون الاقتصادي. والسؤال الملحّ الذي يفرض ذاته في هذا السياق: ما هي انعكاسات (ونتائج) هذه التحوّلات كلّها المتوقّعة في مسار الأحداث في منطقتنا التي عانت كثيراً من الحروب بالوكالة في كلّ من لبنان وسورية والعراق واليمن، وفي تلك البلدان التي باتت أزماتها مفتوحةً، سواء تلك التي ما زالت تعاني من حروب داخلية مدمّرة (السودان)، أو تلك التي وصلت مرحلة المراوحة في المكان، التي تجد فيها سائر القوى المستفيدة الوضع المثالي (ليبيا مثالاً).
سورياً يبدو أن جملة عوامل متداخلة ما زالت تتحكّم في الأوضاع، وهي عوامل لا توحي بقرب التوصّل إلى حلّ واقعي ممكن تتوافق عليه القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الشأن السوري، ومثل هذا التوافق ما زال بعيد المنال، إلّا إذا قرّر ترامب عقد صفقة مع روسيا بشأن سورية، تشمل أوكرانيا وبقية المناطق المختلف عليها. وبطبيعة الحال سيأخذ هذا التوافق في حسابه هواجس ومواقف القوى الإقليمية الرئيسة؛ الدول العربية المؤثّرة، خاصة السعودية وإسرائيل وتركيا وإيران.