المستقبل السياسي السوري.. الأولويات والتحديات

المستقبل السياسي السوري.. الأولويات والتحديات

إياد العناز

الثامن من كانون الأول 2024، يوم مشهود وتاربخ عربي يكتب عبر تضحيات جسام قدمها أبناء الشعب السوري الشقيق بكافة اطيافه وقومياته بعد ستة عقود من الظلم والتعسف والقسر والاضطهاد عاشها القطر العربي الذي ينتمي إلى حضارة إنسانية وتاريخ مجيد وشعب تواق للحرية وعاشق للحياة ومنبع للفكر والأصالة.
الشعب السوري معروف للعالم اجمع أنه متعدد الأديان والثقافات ويحترم إرادة الإنسان ويتميز بالتماسك الاجتماعي، وهذه المزايا جعلته محل استهداف ومناورات سياسية، كان لنظام الحكم السابق دورًا رئيسيًا في هدمها بمعاول الظلم والاستعباد وخنق الحريات والابتعاد عن القوانين والأنظمة التي تراعي حرمة الإنسان وتسعى لتطبيق العدالة الاجتماعية.
انطلقت جحافل المعارضة السورية في 15آذار 2011 لتعلن انطلاق ثورة شعبية عارمة إجتاحت المدن والاقضية والنواحي على امتداد البلاد وشارفت على الوصول إلى ضواحي العاصمة السورية ( دمشق) في أواخر عام 2013، ولكن المتغيرات السياسية والمصالح الدولية والإقليمية حالت دون انتصار إرادة الشعب السوري، ليستمر نزيف الدم دفاعًا عن الحرية والكرامة، ولتبدأ المساومات الدولية التي قادها الروس الذين كانوا الحليف الاستراتيجي للنظام السوري بعد دخولهم البلاد في آيلول 2015 مع كل من إيران وتركيا، لينتهي الأمر إلى مفاوضات اطلق عليها ( مناطق خفض التصعيد) والتي اتفق عليها في اجتماعات الاستانة حيث العاصمة الكازخستانية التي استضافت المفاوضات بين اطراف المعارضة السورية وكل من روسيا وتركيا وإيران، وتم اختيار محافظة إدلب وبعض من المناطق في ارياف حلب القنيطرة ودرعا لتشكل مساحات ما عُرف بمناطق خفض التصعيد، واستمر الحال منذ عدة سنوات، حتى يوم 27 تشرين ثاني 2024 عندما تقدمت فصائل المعارضة السورية التي ضمت ( هيئة تحرير الشام والجيش الوطني والجبهة الوطنية وقوات نور الدين الزنكي) في عملية عسكرية اطلق عليها تسمية( ردع العدوان) ولم تستغرق إلا (12) يومًا بدأتها بالسيطرة على محافظة حلب ثم أنهتها بدخول العاصمة دمشق، بعد هروب بشار الأسد وبعض من قياداته الأمنية والعسكرية وغياب القدرة القتالية والمواجهة المباشرة من قبل أجهزته ومؤسساته الحربية.
شكلت هذه الأحداث والتطورات الميدانية انعطافة كبيرة ونقطة تحول في مسار المشهد السياسي السوري وفرضت تحديات ومواجهات قادمة من شأنها أن تحدد مسار المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لقطر عربي ذو أهمية كبرى في التاريخ العربي المعاصر، فعملية الانقضاض على النظام ونهايته المعروفة عبرت عنها الجماهير السورية بفرحة عارمة وأجواء من السعادة الكبيرة، وهذا ما يتطلب جهدًا فعالًا في الحفاظ على ديمومة الانتصار وادامة زخم التفاعل مع أطياف المعارضة بعد تسلمها لمقاليد الحكم.
أن من أهم الأولويات التي تشكل عاملًا رئيسيًا هي ابقاء حالة الاتفاق السياسي والوحدة التنظيمية لكافة الفصائل المسلحة والتي ساهمت في التغيير السياسي وتسعى للإصلاح وإعادة بناء المجتمع السوري، وهذا يتطلب رؤية حيوية ومتماسكة وتحالف قائم على كيفية أدارة الدولة الحديثة ووضع ركائز مهمة ورسم ملامح تمثل أساليب القيادة الناجحة وتحدد أهدافها وطموحاتها وارادتها في تصويب علاقتها العربية والإقليمية والدولية نحو مستقبل مشرق، بعيداً عن أي خلافات أو انقسامات سياسية ومنع أي تداخلات خارجية تعيق أهداف التحول السياسي السوري.
أن المنجز الميداني لا يتمثل فقط في صورته العسكرية ولكن في روحه الوثابة القادرة على استيعاب آفاق المرحلة الحالية والقدرة الميدانية على قيادة الأحداث بكل حكمة وثقة ونجاح لتحقيق أمال وأهداف الشعب السوري بكافة انتماءاته وفي ظل الوحدة الوطنية التي هي المسار الناجح لاستمرار حالة الأمل والتفاؤل بالقادم من الايام.
أن معاناة المواطنين كانت كبيرة عبر أوضاع مأساوية وأحداث دامية كان ثمنها باهضًا من أرواح ودماء أبناء الشعب عبر تصفيتهم واعتقالهم، وما رافقها من مأسي في الأحوال المعاشية التي ارهقت كاهل المجتمع السوري الذي عانى من الفقر والبؤس والقمع، بسبب حالات الاضطهاد والفساد السياسي والاقتصادي الذي أدى إلى هجرة (9) مليون مواطن وهدم الدور وحرق المزارع والممتلكات ومقتل ما يقارب نصف المليون مواطن نتيجة الأحداث التي امتدت زهاء (14) سنة، ولهذا فإن جميع الوسائل والأدوات عليها أن تكون في اطار تقويم وإعادة تنظيم وهيكلية الحياة واستعادة روح العمل والإنتاج وتحقيق الأمنيات التي سعى إليها أبناء البلاد، ووضع أليات حقيقية فاعلة لمعالجة حالات الفساد والترهيب والضياع التي مارستها أجهزة القمع التابعة للنظام السابق، والاضرار النفسية التي أصابت الملايين من أبناء الشعب السوري وأثرت على حالة التماسك الاجتماعي بينهم، ومعلوم أن هذه المفاعيل تتطلب جهدًا كبيرًا وعملًا شاقًا.
وهناك البعد الاجتماعي والاقتصادي الذي يعتبر من المهام الاساسية التي تدعم العلاقة بين ( حكومة الإنقاذ) والمواطنين وتعميق العلاقة بينهما، في وضع الخطط والبرامج التنموية والإصلاحية رغم الصعوبات الاقتصادية وضألة الموارد المالية بعد أن ترك النظام السابق البلاد في متاهة من الضياع والتشتت المالي والاستثماري وأزمة كبيرة في انخفاض العملة الوطنية بعد وصلت قيمة الدولار الأمريكي في السوق السوداء (22) ألف ليرة سورية وانعدام الاحتياطي الرسمي من العملة الصعبة والذهب وعدم وجود نماء صناعي وزراعي وغياب فعالية القطاع الخاص، وأن أي معالجة ميدانية لحكومة الإنقاذ في استعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية تحتاج إلى موارد مالية واستثمارات كبيرة، وهذا يتطلب توجهًا سياسيًا وعمليًا في إمكانية الحصول على مساعدات خارجية أو تمويل دولي لتجاوز الأزمة الحالية، وسعي حكومة الإنقاذ لاعداد الرواتب للموظفين وتوفير المواد الغذائية وإصلاح مشاريع المياه وادامة الرعاية الصحية، وهذا ما تم تحقيق الجزء الأوسع منه بالاشراف الميداني للوزارات المشكلة في الحكومة الحالية بتثبيت دعائم العمل عبر المرافق الحيوية للاتصالات والكهرباء والنقل وتأمين الوضع الأمني الداخلي في المدن الرئيسية.
أن التعاطي الفعال مع متطلبات الحياة اليومية وتحقيق الأمن والاستقرار وتطمين الشعب بكافة طوائفه والذي جاء عبر الخطاب الرسمي لقيادة المعارضة والحكومة الانتقالية بضمان حقوق أي مواطن مهما كانت انتماءاته بتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية دون تمييز واحترام إرادة الإنسان وتطلعاته وحريته الشخصية، تساهم بشكل كبير في تعزيز روح البناء والإصلاح وابعاد الهاجس الأمني الذي لا يزال يشكل الحاجز النفسي في عودة النازحين، وكلما تحققت الإرادة الحقيقية في مواجهة التحديات الكبيرة والاعتماد على المواطن وبتسخير الطاقات البشرية العاملة في الداخل كلما ارتقت حالات الأمل والتفاؤل بتحقيق الاستقرار الذي يتعافى فيه الاقتصاد الوطني السوري وتستعيد الأعمال والمصالح المالية والتجارية أوجهها لتكون رافدًا مهمًا في دعم حركة ونشاط الحكومة الانتقالية.
ان البيانات والتصريحات التي أعلنتها المعارضة السورية وفصائلها المسلحة نحو أبناء الشعب السوري وخاطبت بها الأقليات والاديان اتسمت بالوضوح والدعوة للمحبة والتأزر لاعادة بناء الدولة وتقويم المجتمع، وهي مدركة لجميع الظروف المحيطة بالبلاد عبر التواجد العسكري الدولي والإقليمي على الأرض السورية وطبيعة النفوذ الميداني الذي تضطلع به خدمة لمصالحها وأهدافها في المنطقة، وهي تعلم حقيقة الاهداف الإسرائيلية وطبيعتها العسكرية والأمنية من عمليات القصف الجوي الذي طال القواعد الجوية والموانئ البحرية ومستودعات الأسلحة والصواريخ البالستية وذخائر المدافع والمعدات الثقيلة واحتلالها لمساحات من الارض السورية في مرتفعات الجولان وتمددها نحو العديد من القرى التي يسكنها أبناء العشائر العربية السورية في المنطقة.
تبقى التحديات الاقتصادية معيار مهم في كيفية إدارة الدولة وإصلاح مؤسساتها وإعادة فعالية خدماتها في ظل أوضاع صعبة بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة والتوجهات السياسية التي اثقلت كاهل الاقتصاد السوري واستمرار مواجهة الشعب السوري والحرب عليه، فقد قدرت تكلفة إعادة إعمار سوريا ما بين (250-400) مليار دولار، بعد أن كان الناتج المحلي للاقتصاد السوري قبل سنة 2011 يقدر ب(60) مليار دولار، في حين بلغ سنة 2023 (17،5) مليار دولار، وهذا يعني أن هناك الكثير من المعوقات التي من الممكن أن تواجه عمل الحكومة الانتقالية التي ستعمل على صيغ ووسائل عديدة لتحقيق التنمية الاجتماعية ومعالجة الأزمات الاقتصادية وهو يتطلب تعاون الجميع للابقاء على حالة التوازن المجتمعي والتماسك بين اركان وقيادات المعارضة، لتعزيز الجانب الحيوي في الاستثمار المالي المحلي والانطلاق نحو آفاق الاستثمار الدولي والإقليمي، ومعلوم أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية على البنك المركزي السوري وحظر تصدير السلع والخدمات الأمريكية إلى سوريا إضافة إلى قانون ( قيصر) الذي صدر عن الكونغرس ووقعه الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول 2019 ستكون الحاجز الأكبر في وقف العديد من التوجهات العملية نحو المشاريع الكبرى والاستمارات الحيوية لإعادة الحياة للاقتصاد السوري وتعزيز البنية التحتية للبلاد، واستعادة عافية تصدير النفط السوري الذي انخفض متوسط إنتاجه من (400) ألف برميل يوميًا سنة 2010 الى (91) ألف برميل سنة 2023، والذي عانت بسببه البلاد من نقص في مشتقات النفط والعملة الصعبة وادامة العمل في المنشأت النفطية التي كان قسم منها تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
أن تعاظم الأوضاع الاقتصادية وصلت إلى أن 90٪ من أبناء الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر ونسبة الدمار في المساكن والممتلكات العامة وصلت إلى 27٪، وهو ما يعني وضع الحلول المناسبة والجذرية لاستعادة النشاط الاقتصادي وتشجيع رؤوس الأموال في القطاع الخاص والشركات الأهلية وتقديم التسهيلات المالية لها، والعمل باتجاه استثمار حالة عودة المهاجرين من أبناء البلد من الكوادر الاقتصادية والايدي العاملة الماهرة والكفوءة المؤهلة علميًا وتقنيًا، وتعزيز الاستقرار الأمني ببناء أجهزة أمنية أساسها خدمة المواطن والحفاظ على أمنه وسلامته وصيانة حقوقه الفردية وتحقيق العدالة الاجتماعية واستعادة الثقة التي افتقدها المواطن السوري بسبب الأساليب الوحشية والأدوات القمعية التي اتصفت بها أجهزة النظام السابق، وإمكانية استعادة بعض المقاتلين من أفراد الجيش السوري ممن عرفوا بانتمائهم الوطني وحرصهم على البلاد ولم يكونوا جزءًا من منظومة النظام التي واجهت أبناء الشعب.
أن ادامة العلاقة مع كافة التيارات السياسية والفصائل المسلحة والشخصيات الفكرية والعلمية من أبناء المجتمع المدني والكوادر الاعلامية والصحية والفنية والذين جميعًا كانوا أدوات فعالة في مساندة الجهد الوطني في مواجهة النظام السوري وأجهزته ومؤسساته بمشاركتهم في تعزيز وحدة البلاد ودعم المبادئ الدستورية والحريات المدنية، لتكون صورة واضحة وفعل ميداني يعزز المبادئ التي نادت بها الحكومة الانتقالية وتعزيز لحالة الاطمئنان والاستقرار التي ينشدها المواطن السوري بعد عقود من الطغيان الاستبداد، وإشعارهم بأنهم جزء فاعل في الحياة السياسية لمستقبل البلاد وعمق اساسي للمواطنة السورية.
أن المبادئ التي أعلنتها الحكومة الانتقالية السورية هي بمثابة رسالة واضحة للمجتمع الدولي والإقليمي في تأكيد المفاهيم الإنسانية القائمة على تعزيز أواصر الوحدة الوطنية والعمل باتجاه التعاون مع الجميع واحترام خصوصية وانتماءات المجتمع السوري، وهي توجهات تدعم سياسة المتغيرات التي حدثت في المشهد السوري وتشكل دافع حقيقي للإدارة الأمريكية للعمل على رفع العقوبات الاقتصادية التي لا زالت تشكل عائقًا أمام الجهود الفعلية لإعادة وبناء هيكلية المنظومة الاقتصادية والاجتماعية السورية، ويمكن رفع العقوبات بعد انتهاء الأسباب الموجبة لها بسقوط النظام الحاكم سابقًا، وتحديد أوجه العلاقة مع هيئة تحرير الشام ومعالجة تصنيفها ضمن المنظمات الإرهابية والتي ساهمت بشكل فعال في التغيير السياسي للبلاد ولها َوجودها الميداني الفاعل سياسيًا وعسكريًا.

وحدة الدراسات الإقليمية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية