تتابع الأوساط الدولية والإقليمية التطورات والأوضاع العامة في المشهد السياسي السوري وأثاروتبعيات التغيير الذي أعقب الثامن من كانون الأول 2024، وهو اليوم الذي تمكنت فيه فصائل المعارضة من دخول العاصمة ( دمشق) وفرار بشار الأسد إلى روسيا وانهيار المؤسسات الأمنية والاستخبارية والعسكرية وترك مقراتها وأماكن تواجدها وانعدام حالة المواجهة مع الحالة التي إتسم بها الميدان السوري.
أن ما حدث لا يعتبر زلزالًا سياسيًا داخليًا وإنما له انعكاساته المهمة وآفاقه المستقبلية على خريطة الشرق الأوسط والوطن العربي، لأهمية القطر العربي السوري وطبيعة التنوع القومي والديني والاثني الذي يمثل أطياف المجتمع وهو ما يلقى الأضواء على كيفية معالجة الأخطاء الكبيرة المتمثلة بغياب العدالة الاجتماعية في تعامل النظام السابق مع أبناء البلاد بل سعيه إلى زرع بذور الخلاف والانشقاق بين أفراده والتأثير على النسيج المجتمعي المتماسك الذي كان من أهم ايجابيات السلوك والمنهج الإنساني للشعب السوري، خدمة للأغراض والأهداف التي سعت إليها الدوائر الأمنية والاستخبارية للسيطرة على البلاد وإضعاف القدرة والإمكانية المجتمعية في مواجهة الطغيان والاستبداد الذي اتصف به أعوان النظام.
وتتسابق المصالح الدولية والإقليمية لمحاولة التأثير على مجريات التطور الميداني الذي تقوم به الإدارة العسكرية التي يقودها احمد الشرع ومعه التشكيلة الوزارية للحكومة السورية الانتقالية، ببث بعض الاقاويل ونشر المقالات وإطلاق التحليلات التي تخشى من عملية تقسيم سياسي واجتماعي للدولة السورية والتأثير على وحدتها وسلامة أراضيها، رغم معرفة جميع الأوساط السياسية بأن نظام الأسد قد رسم ملامح التقسيم عندما سمح للتدخل الدولي عبر القوات الروسية في آيلول سنة 2015 وتمدد النفوذ والهيمنة الإيرانية منذ عقود من الزمن، والسكوت عن الوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات ودعمها لقوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي أدى إلى تواجد ميداني عسكري للقوات التركية في الشمال والشمال الشرقي للبلاد، فمن يخشى من تقسيم سوريا فعليه أن يعلم أن المسبب الرئيسي لتغيير الخارطة السياسية السورية هو النظام الذي حكم البلاد لأكثر من ستين سنة.
أن القادم من الأيام هو من سيحدد الدور الوطني الذي سيقوم به أبناء الشعب السوري في توحيد بلادهم وتقرير مستقبل أبنائهم ورسم ملامح التقدم والازدهار لأجيالهم القادمة، وهو الدور الذي سيكون علامة إيجابية في علاقة المواطنين مع القيادة الجديدة وحالة ميدانية فاعلة في إعادة اللحمة المشتركة والتماسك الصادق للمجتمع السوري، رغم وجود معوقات كثيرة تقف أمامها المصالح الدولية والإقليمية التي تهدف للحفاظ على تأثيراتها ومكانتها في المنطقة، ولكن هناك تصميم جاد من قبل القيادة العسكرية الجديدة في انتهاج سياسي وانتقال شامل لاعداد دستور وتحقيق العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان والحفاظ وحدة البلاد ودعم جميع الاتجاهات السياسية الفاعلة الداعمة لوحدة الشعب.
أن قوى المعارضة السورية وتحديدًا ( هيئة تحرير الشام) قد بدأت منذ أعوام عديدة من اعداد مقاتليها بشكل منتظم ودقيق وتحديد المهام القتالية لها والأهداف والغايات التي تسعى إليها وفق خطط وبرامج ميدانية وسعت إلى سياسة معتدلة وبيانات واضحة ورسائل مستمرة بعد دخولها العاصمة السورية (دمشق) اتسمت بالاعتدال والجدية في تقديم وتوضيح رؤيتها لمستقبل سوريا السياسي واستخدمت أدوات ووسائل فاعلة في مخاطبة العقل الأوربي والغربي عبر البيانات التي احتوت مبادئ التعامل الإنساني مع جميع المكونات المجتمعية داخل البلاد وأسست لقواعد وركائز التعايش السلمي والالتزام بالحكم القائم على احترام حقوق الإنسان وارادته وتطبيق العدالة الاجتماعية والاحتكام إلى الحكم المؤسساتي في تسير أمور البلاد.
وأمام هذه المنطلقات الميدانية والأهداف السياسية والمبادئ المجتمعية، لا يمكن لمن يقود الإدارة العسكرية الجديدة إلا أن يعمل على تعزيز الرابطة الاجتماعية والتماسك بين أبناء الشعب السوري وتعزيز الوحدة الوطنية والبدأ بالاعداد الميداني لعودة سوريا إلى دورها الريادي الوطني والقومي وتأثيرها في المحيط العربي والإسلامي.
أن المساعي الجادة لبناء الدولة السورية، هو هدف مركزي وأساسي في عمل الحكومة الانتقالية وأي دافع سياسي ومصلحة إقليمية دولية في محاولة إعادة رسم الخريطة السياسة السورية فإنه سيكون أمام معترك كبير لا يستطيع الوقوف أمام التحديات التي ستواجهه في ردود الفعل الميداني التي ستشمل تغيير واسع للخرائط السياسية في منطقة الشرق الأوسط ومنها ما سيؤثر ميدانيًا على الأوضاع العامة في العراق ولبنان وتركيا وإيران.
المشاريع السياسية في المنطقة مستمرة في حركتها ودوران توجهاتها للوصول إلى غاياتها وأهدافها ومحاولة التأثير على التغيير السياسي السوري وتسيد الإدارة العسكرية للحكم فيه، بعد أن اتضحت الصورة التي بدأت قيادتها في التعامل مع مجريات السياسة الدولية ومعرفة الاتجاهات التي تحدد بمقتضاها مصالح الدول الكبرى، فالروس يسعون إلى تأمين بقائهم في سوريا والاحتفاظ بقاعدة بحرية في ميناء طرطوس وقاعدة جوية في حميميم، والولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى دور قادم لها في الميدان السوري ومنه تتجه حيث مصالحها الكبرى في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، مع بقاء الصين على تمسكها بمشروع الحزام والطريق الذي يشارك فيه (130) دولة الذي يحقق لها هيمنة اقتصادية استثمارية هائلة، تبنى من خلالها قوة بحرية وجوية كبيرة تساعدها على تأمين مصالحها في الشرق الأوسط والوطن العربي، ولكنها تقف أمام التحديات التي تواجهها حال استلام الرئيس دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية ومنها مستقبل تايوان وعلاقتها مع واشنطن.
أن الإدراك السياسي في كيفية تسخير المتغيرات الميدانية لصالح الحالة السورية من قبل قيادتها، تجعلها تتصرف برؤية ثاقبة وتروي وحكمة في فهم أسس العلاقات الدولية بين بلدان العالم والنظر بشكل دقيق لما ألت إليه النتائج الميدانية التي جعلت معظم القوى الدولية والإقليمية والعربية تتجه نحو البوصلة التي حددتها الإدارة العسكرية الجديدة، وعملت على الحوار المشترك مع جميع الأطراف التي ألتقت معهم وأكدت على ضرورة فهم الواقع الحالي والتوجه الفعلي لما حصل في الميدان السوري، والعمل على بدأ المجتمع الدولي بإطلاق برنامج إنساني لتقديم الدعم الاقتصادي والاستثماري للشعب السوري ودعم عمل المؤسسات الخدمية لشؤون الطاقة والكهرباء والصحة والتعليم، ورفع العقوبات التي سبق وأن اقرها مجلس الأمن الدولي في زمن النظام السوري السابق وإصدار الإعفاءات والتراخيص التي تدعم عمل المؤسسات المالية ومنها البنك المركزي السوري وجميع القطاعات الاقتصادية في البلاد.
تبقى الرؤية الاستراتيجية في قراءة المستقبل السياسي السوري هي الأساس الذي ينطلق منه العمل الجماعي في توحيد الأفكار وتعزيز البنية المجتمعية واقرار مفهوم دولة المواطنة وتخطي الصعاب والمشاكل والأزمات بتصعيد وتائر العمل المشترك بين جميع الأطراف والابتعاد عن حالة الافتراق والاختلاف، تحقيقًا لمصالح الشعب السوري وتعويضًا له عن معاناته ومكابداته طيلة فترة حكم عائلة الأسد.
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة