اياد العناز
توقفت الهجمات الجوية والصاروخية بين إسرائيل وإيران بقرار أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد اثني عشر يوميًا من المواجهة العسكرية انتقلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية من عامل مساند لإسرائيل إلى مشارك فاعل في العمق الإيراني، عندما استهدفت الطائرات المقاتلة والصواريخ الموجهة الأمريكية المنشأت النووية في ( نطنز وأصفهان فوردو) لإيقاف عجلة البرنامج النووي الإيراني وتفكيك محتوياته وضرب قواعده وهياكله العلمية والتقنية واستهداف المخزون المتحقق من اليورانيوم عالي التخصيب وبنسب 20٪ و60٪ وكميات الخزن الكبير من الطرود المركزية الفاعلة والمواد الانشطارية ومكونات الماء الثقيل.
بعد يوم الخامس والعشرين من حزيران 2025، موعد القرار الذي وافقت الأطراف الثلاثة ( واشنطن وتل أبيب وطهران) على وقف المواجهات العسكرية، تداولت الكثير من المعلومات والتقارير السياسية والعسكرية والأمنية حول آثار الضربة الجوية الأمريكية والنتائج المتحققة منها ونوعية الخسائر المادية التي تعرضت لها المنشآت النووية الإيرانية، مما يثير العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت الفعاليات العسكرية قد أدت دورها وواجبها في تدمير أصول البرنامج النووي الإيراني وهل بالإمكان العودة إلى إعادة بنائه من جديد وبطاقة أقل أو أوسع وما هي المدد الزمنية التي تحقق لإيران غرضها من البدأ بإعداد خططها وبرنامجها العلمية والتقنية لاستعادة دورها في الملف النووي؟ ويدور سؤال آخر يتعلق بدور للوكالة الدولية للطاقة الذرية وهل بإمكانها التحقق من مصير اليورانيوم المخصب والذي يتداول بعض من المسؤولين الإيرانيين معلومات وتصريحات أن الجهات الحكومية لا تزال تحتفظ بكميات من اليورانيوم في أماكن آمنة وبعيدة عن الانظار، وهل تستطيع فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة والعاملة في الوكالة الدولية من الوصول إليها؟ في وقت منع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان دخولهم للأراضي الإيرانية بعد القانون الذي تم مناقشته واقراره من قبل أعضاء مجلس الشورى ووافق عليه مجلس صيانة الدستور واعتبرهم جواسيس لجهات دولية، وهل ستتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إقناع إيران بالعودة للحوار وعقد الجلسة السادسة من المفاوضات للاعداد لاتفاق دائم حول البرنامج النووي وباقي الملفات السياسية والأمنية، مع إمكانية العدول عن قرار حكومة الرئيس بزشكيان بمنع دخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران مزاولة اعمالهم في التفتيش والمراقبة الدائمة؟
اسئلة عديدة تطرح وتناقش من قبل العديد من المهتمين بالعلاقات الأمريكية الإيرانية وطبيعة التطورات والمتغيرات السياسية المتوالية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، وهي اسئلة لا تحتاج فقط لأجوبة عامة وأحاديث خاصة، بل تمتد إلى تحديد رؤية ميدانية حقيقية وتحليل وفهم واسع لما ستؤول إليه الأحداث في أهم منطقة من مناطق العالم حيث المصالح العليا لدول العالم وامتدادات تجارتها العالمية وطرق مواصلاتها الرئيسية، في وقت يرى فيه الغالبية إمكانية عودة المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران، وفق عدد من المعطيات ومن أهمها القرارات التي اتخذتها القيادة الإيرانية بمنع وصول فرق التفتيش العاملة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورسالة المرشد الأعلى علي خامنئي التي رفضت أي اتفاق يدعو للاستسلام واستمرار المواجهة مع أمريكا وإسرائيل وأن ما تحقق في وقف القتال إنما يشكل انتصارًا كبيرًا وانجازًا سياسيًا شاملًا حققته إيران واربكت فيه إسرائيل عندما تمكنت القوة الصاروخية من الوصول إلى العمق الإسرائيلي واستهدفت المدن الرئيسية والقواعد العسكرية والمنشآت الاقتصادية والمباني المدنية، والحقت أضراراً كبيرة وخسائر جسيمة بهم وخلق اوقات عصبية عاشتها الدوائر والمؤسسات الإسرائيلية وأصبحت حياة السكان محفوفة بالمخاطر والتنقل بين المخابئ والملاجئ، واشرت ضعف الإمكانية الدفاعية في التصدي للصواريخ الإيرانية عبر القبة الحديدية ووسائل الدفاع الأخرى، ولكن في المقابل فإن الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية والاختراقات الأمنية والاستخبارية قد حققت نتائج كبيرة وأحدثت صدمة عنيفة هزت اركان المؤسسة السياسية والأمنية الإيرانية بعد اغتيال ومقتل العديد من قادة الحرس الثوري والقيادات العسكرية في الجيش الإيراني واستهداف العلماء النوويين، وظهرت إيران وكأنها بدون أدوات ووسائل دفاعية ومؤسسات أمنية ودوائر استخبارية بل وحتى بدون حلفاء شركاء واصدقاء لها.
وأمام هذه المنعطفات الميدانية أرادت الإدارة الأميركية وعبر الرئيس ترامب إنهاء المواجهة بعمل سياسي دبلوماسي يرضى الأطراف جميعًا، وهو ما تحقق في قبول إيران لوقف المواجهة والعودة إلى إعادة ترتيب وضعها الداخلي واستعادة إمكانياتها، وهو ما فعلته إسرائيل التي أرادت منها فسحة لاستكمال أعمالها في تحقيق اتفاق لوقف القتال في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، ولهذا تم قبول وقف إطلاق النار من قبل الطرفين دون اتفاق مكتوب أو شروط محددة وضمانات للمراقبة، وهو ما لم يحصل في أي اتفاق لوقف القتال بين أي دولتين أو أكثر في الحروب الناشئة والنزاعات العسكرية القائمة بينهم.
وأهم النقاط الرئيسية التي لامستها القيادة الإيرانية أثناء المواجهة مع إسرائيل هي طبيعة الموقف السياسي الذي ابدته روسيا بعدم مشاركتها بأي دعم عسكري واقتصادي بل أعلنت ( أنها لا ترتبط مع إيران بأي معاهدة دفاع مشترك، وإن طهران لم تطلب منها أي دعم) واكتفت القيادة الروسية بالتنديد بالهجوم الإسرائيلي على إيران، أما الحليف الاستراتيجي الآخر ( الصين) والتي كانت تستلم النفط الإيراني بأسعار تفضيلية لم يصدر عن قيادتها إلا بيان حول الأحداث في الشرق الأوسط تضمن كلامًا دبلوماسيًا لم تذكر فيه القيادة الصينية أي دعم وإسناد للحكومة الإيرانية، مما جعل الأوساط السياسية الإيرانية تنتقد هذين الموقفين وتتسأل عن جدوى التحالف والشراكة المشتركة مع موسكو وبكين ومتى يكون الحليف مساندًا إذا لم يكن له موقف واضح من تهديد تتعرض فيه سيادة بلد حليف معه للانتهاك وتعريض أمنه القومي للخطر؟ واستذكرت المواقف الروسية من السماح لإسرائيل باستهداف القوات الإيرانية في سوريا عندما كانت تدعم وجود نظام الأسد، كما رفضت روسيا تزويد طهران بأنظمة الدفاع الجوي.
وأمام هذه المعطيات الميدانية والمواقف السياسية فإن الملامح المستقبلية للنظام الايراني يمكن النظر إليه عبر تمسك طهران بثوابت عقيدتها السياسية ومشروعها الإقليمي في ترسيخ متانة العلاقات التي ارتبطت بها مع دول مجلس التعاون الخليجي العربي وخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة مع احتفاظها بعلاقات استراتيجية مع دولتي تركيا وقطر، والمضي في معاداتها للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط في موقف تخاطب به الداخل الإيراني بعد الضربات الجوية المشتركة من قبل أمريكا وإسرائيل، وستعمل على مراجعة دقيقة وقراءة ميدانية لمستقبل العلاقة مع حلفائها ( روسيا والصين) رغم حاجتها إليهما في الوقت الحاضر ولكنها تعلم جيدًا ان كليهما سوف لا يقدمان أي تأييد ومشاركة مباشرة بل يكتفيان بالمواقف الدبلوماسية وعدم التأثير على علاقاتهما مع واشنطن وتل أبيب.
أما الموقف الجوهري الذي تحاول إيران استعادة دوره ما تسميه ب (محور المقاومة) الذي أصبح متفرجًا أكثر مما هو مساهمًا في الدفاع عن إيران عند بدأ الهجوم الجوي والصاروخي الإسرائيلي فجر يوم الثالث عشر من حزيران 2025، ويبدو أن الأحداث التي سارعت في سقوط الأسد وفراره لروسيا وغياب وتفكك القيادات السياسية والعسكرية لحزب الله اللبناني قد أضعفت كثيرًا أدوات إيران في الميدان العربي ومناصرتها لها، وهذه الفصائل المسلحة العراقية لم تبدي أي موقف ومشاركة فعلية والتزمت الصمت والاندفاع الميداني وكذلك فعلت جماعة الحوثيين في اليمن.
وظهر على السطح السياسي الإيراني عديد من النخب العسكرية والاقتصادية تطالب بإيجاد سياسة مرنة وتجاوب مع المتغيرات السياسية التي يشهدها الإقليم والنظر إليها من زاوية مهمة تضمن المصالح العليا لبقاء الدولة الإيرانية وحمايتها والعمل باتجاه تحيد العداء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يتضمنه الخطاب السياسي للخط الليبرالي والمدني في هيكلية النظام الإيراني الذي يرى ضرورة أن يكون لإيران دورًا اقليميًا تحافظ عليه وتتمسك به عبر ادامة علاقتها بشكل منضبط مع الدول الأوروبية والغرب،وأن الخيار الأنسب لإيران الابتعاد على مسار الحروب وإظهار القوة والتمسك بمسار الحوار السياسي والأداء الدبلوماسي والتعامل بجدية وحذر مع المبادرة الأمريكية بالعودة للمفاوضات وتحقيق اتفاق دائم وشامل يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني والاستماع بهدوء لمناقشة باقي الملفات المعينة بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والمشروع السياسي الإقليمي الإيراني، والعمل باتجاه توسيع العلاقات الاقتصادية وتشجيع الاستثمار الخارجي للوصول إلى الغاية الأساسية والهدف الرئيسي في رفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق الأموال المجمدة ومعالجة جميع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإيراني.
أحتمالية العودة لمواجهة ثانية قائمة بين إسرائيل وإيران تحدد آفاقها ومدياتها عوامل عديدة متصلة بأي متغير سياسي وتطور ميداني، ويمكن لإيران أن تتلافى أي ضرر جسيم وخسارة فادحة إذا ما أحسنت الانفتاح لإيجاد حلفاء لها من الأوروبيين وشركاء إقليميين يتمتعون بعلاقات متينة ذات أطر سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في الدول العربية الخليجية ومنها المملكة العربية السعودية التي تتمتع بنفوذ سياسي وثقل إقليمي وتعتبر أكثر ضمانة فاعلية في أي دور أو وساطة سياسية بين واشنطن وطهران،وأن تبتعد عن الخطاب الشعبوي الذي لا يتماشى وما تعانيه من أزمات داخلية وان تأخذ بالاعتبار الأهمية القصوى في التغلب على العقوبات بالحوار الجاد والاسلوب المنفتح وتقترب من علاقات جادة مع الولايات المتحدة الأمريكية نحو تحقيق سلام متفاهم عليه افضل من حرب أو سلام مفروض عليها،والعمل باتجاه استعادة دورها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالسماح لمفتشيها بالعودة لعملهم في المتابعة والمراقبة وزيارة المواقع ذات الأنشطة النووية والاستماع لمناقشتهم حول البرامج المتعلقة بالأسلحة النووية ومنها الصواريخ الباليستية بعيدة المدى والتي من الممكن استخدام رؤوس نووية لها عن استخدامها وإطلاقها نحو أهداف معينة.
ولا زالت طهران ترى حقيقة ما كشفته المواجهة الجوية والصاروخية عن الحدود والإمكانية التي اتسم بها الرد الإسرائيلي نحو الضربات الصاروخية الإيرانية التي طالت العديد من الأهداف والمنشآت والمواقع الأمنية والاقتصادية داخل العمق الإسرائيلي، واضطرارها إلى طلب تعزيزات أمريكية لدعم منظومتها الدفاعية ضد الصواريخ الإيرانية، وادت إلى نشر مدمرة تابعة للبحرية الأميركية قبالة سواحلها ووحدات إضافية من منظومة ( ثاد) للدفاع الصاروخي.
اذا عاودت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدتها لإسرائيل في ضربات جوية قادمة أو حرب شاملة، فإن لا خيار لإيران إلا بالرد المماثل والذي قد يصل بها إلى حالة من الضعف في الإستمرار، مما يجعلها تواجه خيار ضرب المصالح والأهداف الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقواعد العسكرية المتواجدة في دول مجلس التعاون الخليجي العربي، مما يساهم في تصعيد مسار الحل الدبلوماسي والتدخل السياسي للسعودية وقطر والإمارات في التوصل إلى حل سياسي وقاسم مشترك من الاراء والمقترحات وحد من الثقة المتبادلة لوقف القتال والمواجهات العسكرية بين أمريكا وإسرائيل وإيران وتحقيق الاستقرار وحماية المصالح الدولية والإقليمية في أهم بقعة تعنى بالتجارة الدولية وتصدير الطاقة العالمية، وحماية المشروع الاقتصادي التجاري العالمي للنقل العام الذي يربط بين أسواق البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية وصولًا للهند، والحفاظ على المشاريع الاقتصادية واستمرار التنمية البشرية وبقاء وديمومة الاستثمار المالي في منطقة الخليج العربي.
فهل نحن أمام مواجهة قادمة حتمية، أم أن هناك دور عربي إقليمي لوقفها؟
وهل سيكون بديل المواجهة سلام يشمل عواصم عربية، وعودة إيرانية لمسار التفاوض مع واشنطن وفق شروطها وحماية وجودها ونظامها السياسي؟
ام سينظر الجميع إلى نتائج الحرب وما تخلفه من أضرار تهدد المصالح الدولية والإقليمية؟
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة
أن المتغيرات قادمة والأحداث ستفرض ارادتها.
