الباحثة شذا خليل*
منذ عام 2003 شهد العراق توسعاً مالياً استثنائياً بلغ ذروته في العقد الأخير، حيث تجاوز مجموع الموازنات العامة 2028 مليار دولار. ورغم هذا الحجم غير المسبوق من الموارد، لا يزال الاقتصاد العراقي يعاني من اختلالات هيكلية عميقة انعكست في ضعف التنويع الاقتصادي، هشاشة المالية العامة، وتراجع القدرة على الاستدامة. لفهم هذه المفارقة، من الضروري وضع التجربة العراقية ضمن سياق مقارن مع دول نفطية أخرى نجحت في إدارة الريع النفطي بفعالية أكبر.
العراق: إنفاق مرتفع ونمو محدود
تُظهر بيانات الموازنات العراقية تصاعداً كبيراً في الإنفاق، خصوصاً بعد 2010، حيث تحولت الدولة إلى ربّ العمل الأكبر، مع اعتماد شبه كامل على الإيرادات النفطية. تركز الإنفاق على الرواتب والدعم والنفقات التشغيلية، مقابل ضعف الاستثمار الإنتاجي. هذا النموذج أدى إلى اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد، مع محدودية خلق فرص العمل خارج القطاع العام.
المقارنة مع دول نفطية أخرى
أ. النرويج: إدارة الريع عبر الادخار المؤسسي
على الرغم من كونها دولة نفطية، اعتمدت النرويج نموذجاً يقوم على:
• فصل الإنفاق الحكومي عن تقلبات أسعار النفط
• تحويل الفوائض إلى صندوق سيادي يستثمر عالمياً
• تقييد استخدام العائدات النفطية في الموازنة
النتيجة كانت استقراراً مالياً طويل الأمد، واقتصاداً متنوعاً نسبياً، وقدرة عالية على امتصاص الصدمات.
ب. السعودية: التحول التدريجي للنموذج الاقتصادي
واجهت السعودية تحديات مشابهة للعراق من حيث الاعتماد النفطي، لكنها اتجهت منذ منتصف العقد الماضي إلى:
• إعادة هيكلة الدعم
• تقليص الاعتماد على التوظيف الحكومي
• الاستثمار في قطاعات غير نفطية
رغم التحديات، ساعد هذا المسار في تخفيف الضغط على الموازنة وتحسين الانضباط المالي.
ج. الإمارات: تنويع مبكر للاقتصاد
اعتمدت الإمارات سياسة مبكرة لتنويع مصادر الدخل، حيث أصبحت الإيرادات غير النفطية تشكّل جزءاً أساسياً من المالية العامة. هذا التنويع خفّف أثر تقلبات النفط، وسمح باستدامة الإنفاق دون تضخم مفرط في الجهاز الحكومي.
الفجوة بين العراق ونظرائه
بالمقارنة، يتضح أن العراق:
• استخدم الريع النفطي للإنفاق المباشر لا لبناء أصول منتجة
• لم يؤسس آليات ادخار سيادي فعّالة
• ربط الاستقرار الاجتماعي بالتوظيف الحكومي
ما جعل المالية العامة عرضة لأي تراجع في أسعار النفط أو زيادة في الالتزامات.
من العجز التخطيطي إلى العجز الحقيقي
لفترة طويلة، كان العجز في الموازنة العراقية يُدار عبر افتراضات سعرية متفائلة أو أدوات تمويل مؤقتة. إلا أن المرحلة الحالية تشير إلى انتقال نوعي نحو عجز حقيقي يتمثل في صعوبة تغطية الالتزامات الأساسية، ما يعكس وصول النموذج المالي القائم إلى حدوده القصوى.
دلالات سياسته
تشير التجربة المقارنة إلى أن حجم الموارد ليس العامل الحاسم، بل كيفية إدارتها. استمرار العراق في استخدام الأدوات نفسها سيؤدي إلى تعميق الأزمة، بينما يتطلب المسار البديل:
• إعادة هيكلة الإنفاق العام
• فصل الاستقرار المالي عن أسعار النفط
• توجيه الاستثمار نحو قطاعات إنتاجية
• إعادة تعريف دور الدولة من ممول مباشر إلى منظم ومحفّز
ختاما إن أزمة العراق المالية ليست استثناءً بين الدول النفطية، لكنها أصبحت أكثر حدّة بسبب غياب التحول المؤسسي. وتُظهر المقارنة الدولية أن الإصلاح ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب تغييراً جذرياً في فلسفة إدارة الموارد العامة، والانتقال من منطق الإنفاق إلى منطق بناء الاقتصاد.
الوحدة الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
