ربما لم يخطر على بال اللاجئين السوريين الذين توجّهوا إلى الدنمارك أن السلطات في هذا البلد الغني ستقوم بمصادرة مقتنياتهم الثمينة، وأي مبالغ مالية بحوزتهم إذا زادت عن عشرة آلاف كرونة (حوالي ألف جنيه إسترليني)، وذلك حسب قانون أقره البرلمان الدنماركي في الأسبوع الأخير من يناير من العام الحالي، للمساهمة في سداد جزء من تكاليف إقامتهم.
هذا علاوة على مجموعة أخرى من الإجراءات التي تجعل حياة اللاجئين أكثر صعوبة وأشد وطأة، ومن أبرزها تعقيد إجراءات لم شمل الأسرة، وإطالة الفترة اللازمة للحصول على إقامات دائمة.
صحيح أن أغلب اللاجئين لا يملكون شيئا يخشون مصادرته، إلا أن هذه الإجراءات ترسل رسالة واضحة إليهم، وهي أن الدنمارك لا ترغب في وجودهم، وأن من يستمر على أراضيها منهم سيواجه حياة صعبة، والأفضل أن يعود من حيث أتى.
لم يقتصر الأمر على الدنمارك، إذ تصادر سويسرا بدورها أي مبالغ مالية من اللاجئين الذين يصلون إلى أراضيها إذا زادت عما يعادل 900 يورو. ورغم الانتقادات الحادة لهذه الإجراءات من جانب وكالة الأمم المتحدة للاجئين ومنظمة العفو الدولية، إلا أنها مستمرة. أما السويد، أكبر الدول الإسكندنافية، فقد أعلنت على لسان وزير داخليتها أندريس يجمان أنها تعتزم ترحيل ما يصل إلى 80 ألفا ممن ينتظر أن ترفض طلبات لجوئهم، وأن عملية الترحيل قد تستغرق سنوات، وقد تتطلب رحلات جوية خاصة.
ويبدو أن كل هذا لم يرض مجموعات اليمين المتطرف في السويد، إذ قامت جماعات من الملثمين بمهاجمة بعض اللاجئين في ساحات عامة في العاصمة استكهولم، ووزعوا منشورات تدعو “إلى إنزال العقوبة بأطفال شوارع شمال أفريقيا”.
تغير الأوضاع في السويد وألمانيا
ربما فاجأ ما أعلنه وزير داخلية السويد البعض نظرا لأن هذه الدولة، التي تعاني من شيخوخة السكان وتناقص أعداد المواليد، كانت تنتهج سياسة مرحبة باللاجئين، واستقبلت أكبر عدد منهم بالمقارنة بعدد سكانها الذي يقل عن عشرة ملايين نسمة. وكانت السويد، مع ألمانيا، الهدف النهائي لأغلب اللاجئين الذين غامروا بحياتهم في مياه المتوسط للوصول إلى شواطئ أوروبا.
غير أن الأوضاع تغيرت في السويد كما تتغير أيضا في ألمانيا أمام التدفق المستمر للاجئين، وهو ما يجب مواجهته بكل الطرق، كما تقول أحزاب اليمين المتشدد، وحتى لو تطلب الأمر إطلاق النار على غير المسجلين منهم إذا حاولوا عبور الحدود، كما طالبت زعيمة الحزب الألماني اليميني الشعبوي “البديل من أجل ألمانيا”، فراوكه بيتري، والتي أكدت أنها لا تريد ذلك، “ولكن كحل أخير لا بد من استعمال قوة السلاح لإيقاف تدفق اللاجئين”.
ربما كانت فكرة إطلاق النار على اللاجئين إذا عبروا الحدود بشكل غير قانوني صادمة لكثيرين داخل ألمانيا وخارجها، إلا أنها تأتي في سياق هجوم عنيف ومستمر على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بسبب سياستها المنفتحة مع اللاجئين.
وسبق أن هدد هورست زيهوفر، زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري ورئيس حكومة بافاريا، شريك ميركل في الائتلاف الحاكم، باللجوء إلى المحكمة الدستورية لإبطال الإجراءات التي تقوم بها ميركل لاستقبال اللاجئين.
ومن الواضح أن الضغوط الهائلة على حكومة ميركل قد أجبرتها على اتخاذ خطوات أوسع لمواجهة الأزمة، إذ أعلن وزير شؤون اللاجئين في الحكومة الألمانية، بتر ألتماير، أن بلاده تسعى إلى ترحيل اللاجئين المدانين بجرائم إلى بلدان العبور، مثل تركيا، وليس إلى بلادانهم الأصلية إذا كان ذلك متعذرا بسبب ظروف الحرب. وأوضح أن بلاده تفاوض أنقرة وغيرها من العواصم المعنية لإيجاد حلول لهذه الأزمة.
حل آخر لجأت إليه النمسا، وهو تحديد عدد معين من اللاجئين الذين يمكن قبولهم كل عام بناء على القدرة الاستيعابية للنمسا.
وأعلنت السلطات بالفعل أنها ستسمح باستقبال نحو 37 ألف لاجئ فقط في عام 2016، وسوف ترفض قبول أي عدد يزيد عن ذلك. ومن ثمّ، أعلنت فيينا أنها تعتزم ترحيل نحو 50 ألف لاجئ ممن يتوقع رفض طلبات إقامتهم خلال السنوات الثلاث المقبلة.
التناقض الذي تعيشه أوروبا
من يتابع أزمة اللاجئين، بكل ما تحمله من آلام وأحزان لمن أجبرتهم الحياة على اللجوء، وبكل ما تعبر عنه من واقع قاس ومرير للدول التي دفعت مواطنيها إلى المغامرة بحياتهم للهروب منها، يجد أنها أبرزت مجموعة من التناقضات التي تعيشها أوروبا في الوقت الراهن.
أوروبا ملزمة باستقبال اللاجئين الذين يفرون من مناطق الحروب والصراعات، وذلك حسب اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين وحسب الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وينطبق ذلك على اللاجئين من سوريا وأفغانستان، لكنها في ذات الوقت تواجه ضغوطا داخلية هائلة، خصوصا من الأحزاب والمجموعات اليمينية، التي ترفض قبول لاجئين من ثقافات وأعراق مختلفة على أساس أنهم يهددون بنية المجتمعات الأوروبية وقيمها وثقافتها.
المشكلة أن جماعات وأحزاب اليمين المتطرف تتاجر بمخاوف الأوروبيين، وتسوق لهم أفكارا مغلوطة في الأغلب، تقوم على العنصرية وكراهية الآخر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين المسلمين. وعلى سبيل المثال يتم إبراز وتضخيم ما تقوم به التيارات الإسلامية المتشددة، على الرغم من أنها لا تمثل إلا نسبة ضئيلة للغاية في صفوف المهاجرين المسلمين.
التحدي الحقيقي أمام اللاجئين هو إثبات أن قرار قبولهم في المجتمعات التي هاجروا إليها كان قرارا صائبا
تناقض آخر أوضحته أزمة اللاجئين بجلاء، وهو الاختلافات الواسعة بين شرق أوروبا وغربها. دولة مثل المجر عاملت اللاجئين بقسوة واضحة، كما رفضت بولندا والتشيك قبول أي حصة من اللاجئين.
ومن الواضح أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في شرق أوروبا مقارنة بغربها، جعلت دول شرق أوروبا أكثر عداء للاجئين.
وكل هذا يعني أن اتفاقية “تشينيجن” التي تضمن حرية التنقل بين أعضائها لم تعد قابلة للبقاء، وهناك مقترحات بتجميدها لمدة سنتين حتى يتم الوصول إلى حل إلى أزمة اللاجئين.
كل من عاش في أوروبا يعرف أن كثيرا من الأوروبيين يتعاملون باحترام وإنسانية مع المهاجرين، وأن هناك جمعيات وأحزابا كثيرة تدافع عن قضايا اللاجئين وحقوق الإنسان بشكل لم يتوفر لهم في بلادهم.
لكن المشكلة أن هناك وجها قاسيا لأوروبا يمكن أن يظهر في وقت الأزمات، وأن هناك مجموعات عنصرية متطرفة تتلاعب بمشاعر الأوروبيين.
ويبقى التحدي الحقيقي أمام اللاجئين هو إثبات أن قرار قبولهم في المجتمعات التي هاجروا إليها كان قرارا صائبا، وأن وجه أوروبا الإنساني يجب أن يطل باستمرار.
محمود القصاص
صحيفة العرب اللندنية