مجدداً أستغرب من استغراب كثيرين حتى الآن ورغم كل ما جرى من مواقف الرئيس الأميركي. أستغرب غربتهم عن الواقع، أو الاستمرار في الإنكار، فهو قبل وعند وبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران كان واضحاً ولا يزال.
«سنتفق مع طهران واتفقنا. وعدناها بعدم ضرب الأسد وفعلنا. وذاهبون إلى تنفيذ واستثمار الاتفاق معها. وإذا فكرتم يا عرب بامتلاك سلاح نووي أو سلاح المعرفة النووية، فسيكون لذلك انعكاسات سلبية لعلاقاتكم بنا. ونحن مستعدون لحمايتكم». ولم ينفك عن توجيه الاتهامات للأنظمة والقادة العرب، معتبراً أن الخطر عليهم هو في سخط الشعوب في الداخل. ومنذ أيام قال كلاماً للصحافي جيفري جولدبرج يؤكد فيه هذه النظريات مدافعاً عن إيران مهاجماً الرئيس التركي والواقع القائم قي دول الخليج، داعياً قادتها إلى التفاهم مع إيران، فهذا هو «المخرج الوحيد لعدم استمرار الحروب والفوضى»، مؤكداً أن «العدد الأكبر من مهاجمي 11 سبتمبر لم يكونوا إيرانيين»!
اتخذ مواقف متقدمة في هذا الاتجاه، ارتاح إليها الإيراني والسوري وحاولا البناء عليها في ظل تقدم قواتهما على الأرض في سوريا بفعل التدخل الروسي، لكنهما استمرا أيضاً في المكابرة والابتعاد عن الواقعية وحسابات لعبة الأمم عندما اعتبرا التدخل الروسي عملاً حاسماً في مسار الحرب السورية لمصلحتهما متجاوزين المصالح الروسية المباشرة، ثم عندما حاولا الانقلاب على الحسابات الروسية والالتزامات الروسية فأدارا ظهريهما لروسيا في كثير من المواقف والمحطات حتى اضطر السفير الروسي في الأمم المتحدة «فيتالي تشوركين» إلى نصح الأسد (بقبول النصائح الروسية كي يكون خروجه «بكرامة»، وإلا فليتحمل كل طرف المسؤولية). ودعا مسؤولون روس إلى الالتزام بقرارات فيينا وجنيف وميونيخ ومجلس الأمن وبالآليات المحددة. إيران وسوريا تذاكتا فاعتبرتا أن الدعوة إلى انتخابات غامضة هي انتخابات نيابية لا رئاسية تُجرى بعد تشكيل الحكومة، وذهب الأسد إلى الدعوة إلى انتخابات في 13 أبريل بما يناقض القرارات، ثم خرج وزير خارجيته وليد المعلم ليقول: «لا يمكن لدي ميستورا وغيره أن يحدّدوا جدول أعمال المفاوضات ويقرروا بشأن الرئاسة السورية، هذا خط أحمر». وقال مستشار المرشد في إيران علي أكبر ولايتي: «أمرنا خامنئي بالحفاظ على الأسد». وقال مساعد وزير الخارجية حسين آية عبد اللهيان: «بشار الأسد والنظام السوري يمثلان خطاً أحمر بالنسبة إلى المرشد الأعلى، وهو لا يقبل برحيله كما أبلغنا»! استاءت روسيا، أصدرت دعوات لحل فيدرالي، وظهر تباين، بل خلاف كبير في المواقف. قال الروس: «نحن نقرر مدى وحدة العملية العسكرية»، وأكدوا أنه لولا تدخلهم لسقط النظام، رفض الإيرانيون والسوريون هذه المواقف، كان لقاء تركي – إيراني سبب «المصيبة المشتركة» الأكراد وخطر إقامة إقليم كردي في سوريا ستكون له تداعيات على الواقعين الإيراني والتركي، لاحقاً أوقفت روسيا تسليم إيران صواريخ S -300 بعد أن كانت قد اندفعت في اتجاه صفقة جديدة لصواريخ أكثر تطوراً. السبب المعلن لوقف التسليم سخيف وغير مقنع، السبب الحقيقي سياسي في ظل الخلاف، عشية مؤتمر جنيف 3، كانت مواقف سورية مكابرة، تجاوزت حدود التنسيق الأميركي- الروسي، والتفويض الأميركي للروس بإدارة المفاوضات. قال الأميركيون كلاماً واضحاً للروس: «ذهبنا إلى أبعد الحدود في الضغط على من نمن عليهم. ماذا ستفعلون أنتم؟ هل تقبلون المواقف الإيرانية – الروسية التي قد تطيح بكل المفاوضات وتطيل أمد الحرب»؟ في هذا الوقت تمّ وقف العمليات العسكرية الكبرى. رسمت خطوطٌ حُمر على الأرض بعد تقدّم النظام بالدعم الروسي والحديث عن استمرار تقدمه. تمّ وقف هذه العملية. في انتظار المواقف السياسية. الروس ضغطوا لعقد جنيف، ومع بدء المفاوضات وأمام المواقف السورية المكابرة والمتعالية والمنسّقة مع إيران فاجأوا العالم بقرار الانسحاب كأنهم يقولون للسوريين والإيرانيين: «مارستم معنا لعبة الاستقواء بنا للاستغناء عنا؟ لا.. نحن جئنا من أجل مصالحنا لا من أجلكم»، وهذا يؤكد كل ما كنا نقوله. الروس استخدموا سوريا كملعب، صحيح ذهبوا بعيداً لكنهم مع الأميركيين لم يخرجوا عن المعادلة الذهبية: عندما نتفق يتغير كل شيء من الأسد إلى النظام، ولكن للوصول إلى اتفاق، فإن المسألة لا تعني سوريا فقط. ثمة قضايا أخرى في أوكرانيا وغيرها، وبالتالي استمرت روسيا حريصة على هذه العلاقة مع أميركا للوصول إلى اتفاق. وأميركا قالت بلسان أكثر من مسؤول: ما هو المطلوب منا أكثر من التأكيد على استمرار حرصنا على تنفيذ واستثمار الاتفاق مع إيران، والتعاون مع روسيا. لقد أصبحنا في خانة الاتهام من قبل حلفاء وأصدقاء في العالم العربي وأوروبا وفي كل مكان. فهل يعتقد الإيرانيون والروس أننا نفعل ذلك لأجلهم، أو أننا مكلفون بخدمة مصالحهم؟
أميركا ضغطت إلى أبعد الحدود على حلفائها وقتلت أبو عمر الشيشاني وزير حرب «داعش» في سوريا، وروسيا اتخذت مواقف متقدمة في وجه حلفائها بلغ حدود الانسحاب، وهما مصرّتان على الوصول إلى صيغة حل، دون ذلك مصاعب ومتاعب على الأرض، هكذا علمتنا الحروب.
منذ أسابيع كتبت في ظل واقع الخلافات: «هل توقف روسيا العمليات وهي جاءت من أجل مصالحها لا من أجل الأسد الذي خذلها»؟ وسألت: «من سيخرج بكرامة روسيا أم نظام سوريا؟ وقلت: إيران هي صاحبة الدور الأساسي إلى جانب الأسد. اليوم، قررت روسيا الانسحاب «بكرامة». الثمن الذي تريده في غير مكان مع أوروبا وأميركا. للأسف، هذا الأمر سيخدم إسرائيل التي ستستغل كل ما جرى لمصلحتها، وعينها مجدداً على لبنان.
غازي العريضي
جريدة الاتحاد