تطرح زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما المرتقبة إلى الشرق الأوسط قراءة جديدة لتعقيدات التحولات الطارئة على السياسة الأميركية في المنطقة، خاصة أن السياسة الجديدة التي سنتها إدارة أوباما منذ سبع سنوات، والتي لم تغير فقط من ملامح السياسة الدولية التي نهجتها واشنطن طوال النصف الثاني من القرن العشرين؛ بل أيضا جرّت الولايات المتحدة إلى سياسة متقلبة وأحيانا غير مفهومة، ويقول البعض إنها أدت إلى تراجع مكانتها على الساحة العالمية بما يهدّد نظام القطب الواحد الذي سيطرت به أميركا على العالم.
لكن، يذهب خبراء آخرون إلى القول إن هذا التغيير، ورغم ما حمله من أزمات دولية، يحسب عليه التغييرات التي طرأت على السياسة الخارجية للدول الإقليمية في الشرق الأوسط، وبالتحديد المملكة العربية السعودية، التي أثبتت أنها كانت جادة حين حذّرت .واشنطن من أن أي اتفاق مع إيران يهدّد مصالحها، وسيكون الردّ عليه حاسما.
ويكاد يتفق جميع المراقبين بأن ثمرة السياسات الأميركية، لم تجن منها المنطقة إلا المزيد من الارتباك، سواء في سوريا والعراق واليمن وفلسطين ولبنان، أو تلك التي تنذر بتطورات أكثر خطورة، خاصة بعد إبرام الصفقة التي أدت بها إلى تقديم المزيد من التنازلات لطهران على أمل تغيير سياساتها المعادية للولايات المتحدة.
لم تلعب هذه السياسة مطلقا دور المحافظ على التوازن الاستراتيجي بين إيران وجيرانها العرب، وبين إسرائيل وجيرانها، وبالتالي أدت إلى اختلال قاعدة التوازنات الإقليمية، وتزايد معها منسوب خطر التنظيمات الإرهابية والصراعات الطائفية، ودون أن تنجح في آخر المطاف في التقليص من الخطر النووي الإيراني.
تفاعلات الدول الكبرى
مما يزيد الأمر غرابة، أنه في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى الاستدارة شرقا نحو المحيط الهادي والهندي، تسعى الصين وروسيا إلى التموقع في الشرق الأوسط وعلى أرضية صلبة، بحيث لن تفقد هذه المنطقة أهميتها الاستراتيجية في العالم خلافا لما تردّده بعض الجهات التابعة لمراكز القرار الأميركي، وذلك لأن هذه المنطقة هي من ستحدد في نهاية المطاف مستقبل النظام الدولي، وأمن واستقرار العالم، فضلا عن مسار القطبية المتعددة في المسرح العالمي.
استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي وضعها الرئيس اوباما أدت في النهاية إلى اهتزاز الثقة في أي التزامات أميركية
غالبا ما تحرك الولايات المتحدة وروسيا والصين في الشرق الأوسط حسابات جيوسياسية بالغة الدقة ومحسوبة الخطوات. ويأتي في صدارة اهتمام واشنطن امتلاك المنطقة لأكثر من 50 بالمئة من احتياطي البترول والغاز، وذلك رغم تحقيقها اكتفاء ذاتيا وزيادة في إنتاجها في الآونة الأخيرة. وتدرك واشنطن أيضا أن حلفاءها في آسيا والمحيط الهادي لا يزالون يعولون بشكل كبير على الخليج العربي لإمدادهم وسد حاجياتهم من الطاقة، فيما يظل الاهتمام الأكبر، هو محاولة ربط أسواق أوروبا بأنابيب الشرق الأوسط تحت إدارتها، لإضعاف الارتباط الأوروبي بالسوق الروسية، ومنعا للضغط السياسي الروسي على الاتحاد الأوروبي، كما تجلى ذلك خلال الأزمة الأوكرانية.
وبالنظر إلى العلاقة الصينية- الأميركية في الشرق الأوسط، فالصين تتهرب من أيّ حضور مكلف لها في الوقت الحالي، إذا استثنينا مجهوداتها في مكافحة القرصنة في خليج عدن وتطوير مبادلاتها التجارية بشكل ملحوظ مع دول الخليج العربي، وذلك لأنها لا تتوفر على حليف استراتيجي في المنطقة، ولا تريد أن تسمح بتهديد مصالحها في بحر الصين الجنوبي، وتريد أولا حسم الصراعات الحدودية في جوارها، ولذلك تنصب جهودها حاليا في عرقلة أي تطويق لها من طرف واشنطن.
روسيا تتحرك مستغلة قربها من الأسواق الأوروبية لمنع أي اتصال مباشر يربط آبار بترول الشرق الأوسط بأوروبا
ويبدو العالم العربي في قلب هذه المتغيرات وهذا الزخم، وهو مؤثّر ومتأثّر بهذه السياسة وأي تغيير سيحصل في العالم ونظام أحادي القطبية سيكون منطلقه الشرق الأوسط، وأحداثه وأزماته هي التي ستضع لبنة نظام دولي جديد.
وملامح هذا النظام بدأت تتشكّل، من خلال التحالفات الدولية الفاعلة في ما يجري اليوم في المنطقة، وأيضا من خلال ردود أفعال قوى المنطقة الإقليمية، وفق معايير الشرق الأوسط الجديد، الذي سعت الولايات المتحدة إلى خلقه عبر نظرية الفوضى الخلاّقة.
ويبدو أن الفوضى الخلاّقة التي سعت إليها الولايات المتحدة، ستكون خلاّقة من حيث ظهور قوى إقليمية مركزية جديدة تراهن في اتجاه التعددية القطبية. وعلى العالم العربي في خضم هذه الفوضى أن يلملم ثوابت تفاعلاته من جديد.
تغيرت مفاهيم الأمن والسيادة وظهرت تهديدات جدية للكيان العربي مع تزايد انتشار توزيع مراكز القوة والنفوذ الخارجي في بلدانهم وتحديات التفكك، ووحدها الوحدات الدولية الكبرى قادرة على الوقوف في وجه تصاعد فوضوية النظام الدولي والأخطار غير التقليدية، لأن العالم يتجه نحو مزيد من السيولة وزخم التحولات وانتفاء قواعد وقيم ضابطة، تصب كلها في مرحلة تتسم بانعدام القطبية في عالم يحفل بالنزعات المتضاربة.
د.حسن مصدق
صحيفة العرب اللندنية