ثمة مؤلفات كثيرة صدرت عن الحرب العالمية الأولى بمناسبة حلول المئوية الأولى هذا العام، خصصت لعرض نتائجها السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.. إلخ، لكن قلة قليلة تناولتها بالتحليل من المنظور الديني.
الكاتب البرفيسور فلب جنكنز أستاذ التاريخ وعضو في معهد دراسات الدين في جامعة بايلر (المسيحية) العريقة التي تأسست عام 1845 في ولاية تكسس، وهي أكبر جامعة من نوعها في العالم.
لذلك فإن كتاباته التي تنتشر في صحف أميركية عريقة مثل وول ستريت جورنال وواشنطن بوست، إضافة إلى كتبه، تشهد بأنه أحد العلماء الذين يعاملون بقدر كبير من الاحترام حتى في الأوساط الدينية المحافظة. ولذلك فإن مؤلفه هذا أثار كثيرا من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والكنسية تحديدًا، رغم إشكالية الموضوعات التي يطرحها هنا.
مع أن الخسائر البشرية، كي لا نتحدث عن الخسائر المادية والمعنوية، الناتجة عن الحرب العالمية الأولى تكاد لا تقارن بنتائج الحرب العالمية الثانية، فإنها كانت ذات أثر كبير في عالمنا اليوم. فالحرب العالمية الأولى أنتجت أول نظام شيوعي، وأدت إلى سقوط دول وإمبراطوريات قائمة على أساس الدين، وفي مقدمة ذلك الخلافة العثمانية، وولادة دول وطنية عديدة، عربية وغير عربية.
في الوقت نفسه، فإن استغلال الدين في الحرب العالمية الأولى، وهو أمر مسكوت عنه في المراجع القياسية، حتى صدور هذا الكتاب، قاد ضمن أمور أخرى إلى إضعاف المشاعر الدينية في الغرب وتصاعد المد القومي المتعصب.
كون مادة الكتاب على جانب كبير من التفرع، أيضًا بسبب تعدد الأطراف المشاركة في الحرب العالمية الأولى، إما طوعًا وإما كرها مثل سكان المستعمرات حينئذ، نرى أن أفضل أسلوب لإعطاء فكرة عن محتوى الكتاب هي سرد المحتوى، وهو كما يلي:
تقديم: من ملائكة إلى هار مجدو.
- الحرب العظمى: عصر المذابح.
- حرب الرب: أمم مسيحية وحروب مقدسة ومملكة الرب.
- شهود من أجل المسيح: حرب كونية والتضحية والشهادة.
- طرق الرب: الإيمان والهرطقة والتطير.
- حرب نهاية العالم: تصورات اليوم الآخر.
- هار مجدو: أحلام الرؤى في آخر سنوات الحرب الأكثر وحشية.
- نوم الدين: أزمات أوروبا وصعود المسيح العلماني.
- حطام المسيحية: إعادة بناء الإيماني المسيحي في نهاية العصر.
- صهيون الجديدة: أزمة اليهودية الأوروبية ورؤى العالم الجديد.
- أولئك الذين في الدرك الأسفل: التحرير الروحي لشعوب العالم.
- المذبحة: تدمير العالم المسيحي الأقدم.
- أنباء أفارقة: عن صعود كنائس جديدة ونمو آمال جديدة خارج أوروبا.
- بلا خليفة: البحث الإسلامي عن نظام سياسي إلهي.
اتفق كثير من علماء اللاهوت وعدد من الأكاديميين على استنتاجات البروفيسور جنكنز القائلة إن الدين مارس دورا رئيسيا في الحرب وحرض على استمرار المذبحة الكبرى، وكلها باسم الرب. وقد قدم الكاتب في عمله مقتطفات من خطابات الحرب، في تطورها نحو التحريض الديني، وأثراه بكثير من المصورات التوضيحية التي تحوي مختلف الشعارات التحريضية الدينية، المسيحية واليهودية، والداعية إلى استمرار الحرب والواعدة الضحايا بأنهم يسقطون شهداء عند آلهتهم.
لكن مع أن الحرب العالمية الأولى قادت إلى إضعاف الدين، كما يرى الكاتب، بسبب وقوف رجال الدين المسيحيين واليهود محرضين عليها، إلا أنها قادت أيضًا إلى تقوية المد الديني الذي تعاني منه البشرية إلى يومنا هذا، وصعود الفكر العلماني.
الكاتب يركز في مختلف أقسام مؤلفه على كيفية استخدام الأطراف المتحاربة الخطاب الديني التحريضي أثناء الحرب بهدف الحض على ديمومتها، مع وعود للجند بالجنان. كما لا يستثني روسيا الشيوعية من هذا، (هذا أمر غريب لأن أول أعمال الثورة البلشفية كان التفاوض من أجل انسحابها من الحرب، التي رأى لينين أنها “حرب اللصوص الرأسماليين على الغنائم).
المؤلف يوضح للقراء كيفية استخدام الديانة المسيحية واليهودية أهدافا سياسية، أو لنقل تسييس الدين لتسويغ ممارسات عنيفة مثل الحرب، وهو جوهر الحرب العالمية الأولى، ويطرح -ضمن صفحات المؤلَّف- أمثلة على كيفية التحريض الديني ومنها على سبيل المثال الإشارات المستمرة إلى رؤى المسيح ومريم العذراء للمتحاربين ودعمهما لهم، على طرفي خطوط القتال.
كما يلفت الانتباه إلى مفردات أناشيد الجنود المتوجهين إلى الجبهة التي تحرض على القتال وتؤكد أنها من أجل الرب والكنيسة والملك.
الهدف الرئيسي للكتاب توضيح حقيقة مهمة هي أن الحرب العالمية الأولى أظهرت عدم الفصل القاطع بين الدولة والمؤسسة الدينية حيث استخدم الدين لفرض سياسات دنيوية الأهداف وتمريرها. عدم الفصل هذا أدى إلى تقديس الحرب، تمامًا كما حدث في العصور المسيحية القديمة، وشيطنة العدو، مما سهل إقناع الجند المشاركين فيها بأن يعدوا أنفسهم شهداء في حرب مقدسة.
كما ينوه الكاتب إلى أن مختلف الاتجاهات الدينية المسيحية، المحافظة منها والتجديدية، شاركت في التحريض على الحرب وعلى المشاركة فيها. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن البروتستانتية الليبرالية في ألمانيا لا تعترف بقدسية الكتاب المقدس، إلا أنها وظفت الرموز والمفردات الدينية المباشرة للتحريض على الحرب -مرة أخرى- لأهداف دنيوية.
الحرب العالمية الأولى، بحسب الكاتب، قضت على عالم الإيمان القديم، لكنها في الوقت نفسه أنتجت عالم إيمان آخر. هذا ما يمكن استنتاجه فقط بعد مرور قرن على اندلاع تلك الحرب، وهذا هو موضوع الكتاب الرئيسي.
زياد منى
نقلا عن الجزيرة