تتمتع الولايات المتحدة بقدرات اقتصادية، وتكنولوجية، ومصادر للطاقة، وهو ما يمنحها خيارات واعدة لتوظيف واستغلال هذه الأدوات من “القوة القسرية” The Power to Coerce ضد خصومها، ومن أبرز تلك الخيارات: فرض عقوبات اقتصادية، ودعم المعارضة السياسية السلمية لدى الأنظمة المعادية، والهجمات الإلكترونية.. وغيرها.
وكانت هذه الأدوات القسرية هي القضية الأساسية التي تناولها تقرير صادر عن مؤسسة راند الأمريكية، بعنوان: “القوة القسرية: مواجهة الأعداء دون اللجوء إلى الحرب”، وهو التقرير الذي أعده الباحثان في مؤسسة راند: “ديفيد جومبرت” David Gompert، و”هانز بيننديك” Hans Binnendijk.
زيادة أهمية القدرات غير العسكرية
تعتبر القوة العسكرية الأداة الرئيسية للاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، وقد استخدمتها لتغيير أنظمة الدول المعادية، والتدخل في الصراعات، وتدمير قدرات الدول التي يمكن أن تهدد مصالحها، أو مصالح حلفائها، أو الأمن الدولي عموماً. ولكن أصبح استخدام هذه القوة يمثل إشكالية على نحو متزايد، خاصةً تجاه بعض الدول مثل الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران، حيث أن كلاً من بكين وموسكو تمتلكان أسلحة نووية، مما يضيف إلى مخاطر استخدام القوة العسكرية ضدهما.
ونظراً لكثرة وتنوع أدوات القوة، يصنفها التقرير وفقاً لما يلي:
1- القوة الصلبة Hard Power : تعني استخدام القوة المادية العسكرية كوسيلة لإجبار أنظمة الخصوم على تغيير نهجها، أو تغيير أنظمتها. ويؤدي النجاح في استخدام القوة الصلبة إلى السيطرة على الخصم، ولكن أصبح هذا النوع من القوة أقل استخداماً بالنسبة للولايات المتحدة، لاسيما في المناطق المتنازع عليها.
2- القوة الناعمة Soft Power : تعتمد على قوة التأثير، من خلال الوسائل الدبلوماسية، والمساعدات الاقتصادية، وأدوات تعزيز الديمقراطية، والتبادل الثقافي، ونشر الأفكار، لتشجيع المجتمعات الأخرى لكي تصبح مثل الولايات المتحدة، أو على الأقل أن تحذو حذوها.
3- القوة القسرية (القدرة على الإجبار) P2C : تعتمد خيارات الإجبار غير العسكري على استخدام وسائل غير عنيفة، مثل التهديد حتى تذعن الدولة المستهدفة لمطالب الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من توفر أدوات القوة الناعمة للولايات المتحدة، لكنها لا يمكن أن تكون بديلاً سهلاً للقوة الصلبة، حيث تراجعت حالياً القدرة الأمريكية على التأثير في بعض المناطق. وعلاوة على ذلك، لابد من الأخذ في الاعتبار أن تطبيق أدوات القوة الناعمة يستغرق مزيداً من الوقت من صانعي القرار، ومن هنا تتضح أهمية القوة القسرية.
مقومات القوة القسرية
جعلت العولمة استخدام القوة العسكرية أكثر صعوبة وخطورة، الأمر الذي تسبب في زيادة أهمية البدائل غير العسكرية، وتتمتع الولايات المتحدة بالكثير من المقومات التي تجعلها قادرة على توظيف هذه البدائل، والتي من أبرزها ما يلي:
تمتلك الولايات المتحدة 30% من أسهم الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم، وهي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في هذا الشأن.
يعتبر الدولار الأمريكي العملة الأساسية في الأسواق المصرفية وأسواق صرف العملات.
أربعة من أكبر سبعة بنوك في العالم (من حيث القيمة السوقية) هي بنوك أمريكية.
تمتلك الولايات المتحدة أكبر سبع شركات إعلامية في العالم، كما أن 95% من إيرادات وسائل الإعلام العالمية هي أمريكية أيضاً.
تقوم الولايات المتحدة ببيع نحو ثلاثة أرباع الأسلحة في العالم، وتقدم نحو 18 مليار دولار سنوياً في شكل مساعدات عسكرية.
تشترك الولايات المتحدة في قيادة أهم المؤسسات الدولية، بما في ذلك تلك التي تحكم الاقتصاد العالمي.
يمكن للبحرية الأمريكية أن تبسط سيطرتها في أي مكان تقريباً، ما يجعلها المتحكم في طرق التجارة العالمية.
أشكال واستخدامات القوة القسرية
تتمتع الولايات المتحدة بمستوى من القوة القسرية يفوق خصومها، ويرجع التقرير ذلك لأربعة أسباب، أولها: دورها المركزي في العالم، وقدرتها على عزل أو إلحاق الضرر بخصومها. وثانيها: امتلاك قدرات استخباراتية فائقة. وثالثها: التمتع بقدرة سياسية لا مثيل لها في حشد الدعم الدولي من الدول والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ورابعها: تميز الاقتصاد الأمريكي بالمرونة، على النقيض من روسيا وإيران.
ويشير الكاتبان إلى أن أدوات القوة القسرية تتمثل في الآتي:
1- العقوبات الاقتصادية:
غالباً ما تنطوي على حظر بعض أو كل الصادرات أو الواردات من وإلى الدولة المُعادية. وحظر الاستيراد يميل إلى أن يكون أكثر فاعلية من فرض حظر على الصادرات، لأنه يمنع الدولة المستهدفة من شراء ما تحتاجه من منتجات لا تتوافر لديها. ويمكن أن تتسبب العقوبات الاقتصادية في ضائقة مالية كبيرة للدولة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة، وارتفاع التضخم، وتقليص الإنفاق، وتراجع مستويات المعيشة.
2- فرض الحظر على الأسلحة والمنتجات التكنولوجية:
يعني منع الخصم من امتلاك الأسلحة أو التقنيات التكنولوجية التي يمكن أن تعزز قدراته في حالة نشوب حرب، والمثال الواضح على ذلك هو السيطرة على المواد والنظم والآليات الخاصة بصنع الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية. وعلى الرغم من أهمية هذا النمط من أدوات القوة، فإن قبول دولة واحدة بيع الأسلحة لدولة أخرى مُعادية يفسد قوة تأثيره.
3- استغلال إمدادات الطاقة:
تاريخياً، كان التلاعب في إمدادات النفط والغاز الطبيعي أداة ضغط في يد الدول العربية وروسيا، ولكن بالنظر إلى ارتفاع إنتاج النفط في الولايات المتحدة في غضون سنوات قليلة من 5 ملايين إلى أكثر من 9 ملايين برميل يومياً، وزيادة استهلاك الغاز الطبيعي بشكل ملحوظ في دول غير غربية مثل الصين، فمن المرجح أن تصبح واشنطن وحلفاؤها أقل عُرضة للخطر.
والأكثر من ذلك، أنه إذا أصبحت الولايات المتحدة دولة رئيسية مُصدرة للنفط، فقد تجد نفسها تتمتع بخيار جديد وأداة أخرى من أدوات الإجبار أو القوة القسرية، وذلك سوف يُمثل انقلاباً كاملاً لدور الولايات المتحدة التي لطالما كانت في طليعة الدول المؤيدة لتأمين الحصول على الطاقة.
4- عمليات الاعتراض البحري:
لدى القوات البحرية الأمريكية القدرة على هزيمة أي قوات أخرى مناظرة، وممارسة السيطرة البحرية في أي مكان تقريباً، وذلك على الرغم من أن سيطرتها في غرب المحيط الهادئ قد تتعرض لضغوط بسبب القدرات الصينية البحرية المضادة. وتأتي أهمية استخدام القوة البحرية لتقييد وصول الخصوم للمحيطات، والأسواق الدولية، والموارد الطبيعية.
5- دعم المعارضين لدى الدول المعادية:
تتمتع الولايات المتحدة بمجموعة متنوعة من الوسائل التي يمكن من خلالها تعزيز ودعم الدول والجماعات التي تعارض خصومها. ويرجع بروز الحركات المعارضة، والتي تؤيد الديمقراطية بشكل فجائي وزيادة عددها إلى حد كبير، إلى ظهور شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة، كما حدث على مدار السنوات الخمس الماضية في إيران وتونس وليبيا وسوريا وأوكرانيا. وتختلف النتائج في هذه الدول من اتباع حملات قمع أمنية شرسة ضد المواطنين، كما حدث في إيران، إلى تطبيق الديمقراطية بدرجات متفاوتة مثلما هي الحال في تونس، إلى وقوع حالة من الفوضى في سوريا، أو الانفصال كما حدث في أوكرانيا.
6- الهجمات الإلكترونية (السيبرانية):
لا تزال الولايات المتحدة تخترع وتقدم معظم التقنيات التكنولوجية الموجودة في العالم، كما أنها تمتلك قدرات غير مسبوقة في الدفاع عن الفضاء الإلكتروني. وفي حين أن الجزء الأكبر من القدرات الإلكترونية الأمريكية يقع خارج الحكومة وسيطرتها، إلا أن وكالة الأمن القومي لديها قدرات فنية وتشغيلية كبيرة، تشمل تكنولوجيا متقدمة لضمان تحقيق الأمن الإلكتروني، وكذلك القدرة على إجراء عمليات هجومية إلكترونية.
تقييم أدوات القوة القسرية
قدم التقرير تقييماً لأدوات القوة القسرية وفقاً لثلاثة معايير: الفاعلية، والدعم الدولي، والتكاليف/ المخاطر المتوقعة، وذلك كالتالي:
1- من حيث الفاعلية: تعتبر العقوبات الاقتصادية، وتقديم الدعم للمعارضين في الدول المعادية، والعمليات أو الهجمات الإلكترونية، أكثر أدوات القوة القسرية فاعلية، يليها فرض الحظر على الأسلحة والمنتجات التكنولوجية، وعمليات الاعتراض البحري، وفي المرتبة الأخيرة جاء استغلال والسيطرة على إمدادات الطاقة.
2- من حيث الدعم الدولي: يأتي في المقدمة كل من العقوبات الاقتصادية، وتقديم الدعم للمعارضين في الدول المعادية، والعمليات أو الهجمات الإلكترونية، وفي المرتبة التالية كل من فرض الحظر على الأسلحة والمنتجات التكنولوجية، والسيطرة على إمدادات الطاقة، وعمليات الاعتراض البحري.
3- من حيث التكلفة والمخاطر: جاء تقديم الدعم للمعارضين لدى الدول المعادية، والهجمات الإلكترونية، باعتبارها أكثر أدوات القوة القسرية التي تحمل فرصاً واعدة وفي الوقت نفسه تمثل إشكالية لدى استخدامها، وذلك بسبب صعوبة السيطرة على قوى المعارضة لدى الدول الخصوم، وخوفاً من الانتقام ومخاطر التصعيد المرتبطة بالهجمات الإلكترونية. وتلا ذلك في الخطورة، العقوبات الاقتصادية، وفرض الحظر على الأسلحة والمنتجات التكنولوجية، واستغلال والسيطرة على إمدادات الطاقة. أما عمليات الاعتراض البحري، فتمثل أكثر أدوات الإجبار تكلفةً وخطورة، نظراً لارتفاع تكلفة العمليات، واحتمال أن تؤدي إلى نشوب صراعات.
ختاماً، أكد التقرير أن استخدام القوة القسرية قد يكون بديلاً عن القوة الصلبة (العسكرية)، وأكثر الأدوات القسرية فاعلية للولايات المتحدة هي فرض العقوبات الاقتصادية، ودعم المعارضين السلميين لدى الدول المعادية، والهجمات الإلكترونية، ولكن الأداتين الأخيرتين قد تتسببان في بعض الأحيان في نشوب صراعات.
مؤسسة راند الأمريكية
إعداد: د. إسراء أحمد إسماعيل
* عرض مُوجز لتقرير بعنوان: “القوة القسرية: مواجهة الأعداء دون اللجوء إلى الحرب”، والصادر في شهر مارس 2016 عن مؤسسة راند الأمريكية.
المصدر:
David C. Gompert and Hans Binnendijk, The Power to Coerce: Countering Adversaries Without Going to War (USA: The RAND Corporation, March 2016).
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة