تعد الاستراتيجة هي أعلى درجة في التفكير والتدبير ونطاق التأثير والأفق الزمني من “السياسة”، وهي عملية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض. ويصبح التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها.
ومفهوم الاستراتيجية هو من المفاهيم التي يتم تداولها في مختلف العلوم الاجتماعية بأقلام وألسنة الباحثين والمتخصصين في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن تظل الاستراتيجية عملاً سياسياً محضاً، أو يجب أن تكون كذلك على الأقل، ومثل كل الأعمال يستلزم النجاح ممارسة حُسن تقدير الأمور، وهذا يتطلب من دون شك قدراً لا يُستهان به من الخيال العلمي.
وإذا كان من شروط وضع الاستراتيجية وضوح الأهداف وتكاملها وواقعيتها إلى جانب العقلانية والتخصص والاستمرارية والإلزام والمرونة، فإن أحد أهم هذه الشروط هو الابتكار والاعتماد على الذات، وهنا يكون للخيال دوره. وبذلك تتسم الاستراتيجية بأنها “استباقية توقعية”، إن لم تكن “تنبؤية”، وهذا الاستباق يرمي إلى رعاية المصالح الوطنية وحمايتها مما يخبئه المستقبل، وبالتالي لا يجب أن يقوم على التقديرات الجزافية أو الخيالات الأسطورية، إنما دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، والتي تكون بدورها مشروطة بما يجري على الأرض، وبالإمكانات المتاحة.
وفي إطار ندوة “عاصفة الفكر” التي استضفتها العاصمة البحرينية المنامة في نهاية مارس 2016، وشارك فيها مجموعة من المفكرين من عدة دول عربية، تم تخصيص محور بعنوان “عاصفة الحزم وتكوين الاستراتيجية” من منطلق إدارك أهمية أن تكون هناك استراتيجة محددة لهذه العملية التي يختلط فيها العسكري بالسياسي والدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي والاجتماعي والثقافي والنفسي، رغم أن الزخم الأكبر مُنصرف إلى العمليات العسكرية الجارية. ويتطلب تكوين مثل هذه الاستراتيجية عشرة محددات أساسية، وهي:
1- وضوح الهدف الأساسي: هنا يمكن القول إن مُطلقي عملية “عاصفة الحزم” أعلنوا صراحة منذ اللحظة الأولى أن هدفهم هو منع تمكن إيران من اليمن عبر توظيف القدرات العسكرية والاجتماعية للحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح الذي خلعته الثورة اليمنية من الحكم، ويناور ويرواغ من أجل العودة إليها.
2- تكامل الأهداف الفرعية: حيث توجد أهداف فرعية تتكامل بغية تحقيق هذا الهدف الأعم أو الأشمل، ويمكن أن نستقيها من التصريحات المُعلنة لمسؤولين بالدول المشاركة في “عاصفة الحزم”. وتتمثل هذه الأهداف الجزئية في: تمكين الشرعية السياسية والدستورية للرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، وتقليص إمكانات الحوثيين بما يعيدهم إلى حجمهم الطبيعي في الدولة والمجتمع باليمن، واحتواء القبائل اليمينة وإعادة اصطفافها لتكون قوة رافعة لدولة يمنية عربية في حكمها وتوجهاتها وانحيازاتها وخياراتها، وفي ركاب هذا تشكيل الجيش اليمني على نحو يحقق ذلك أيضاً.
كما تتضمن الأهداف الفرعية محاربة الإرهاب خاصةً في ظل تربص “القاعدة” و”داعش” بالدولة اليمنية، بحيث تتم مكافحة البيئات المنتجة والحاضنة والموظفة للإرهاب، ومنع استفادة الإرهابيين من هشاشة الدولة اليمنية، أو استمالتهم من قِبل الحوثيين وصالح ولو مرحلياً، علاوة على تقليل أخطار الطائفية التي تتعمق لأسباب ودوافع سياسية بحتة باليمن في الوقت الراهن.
3- واقعية الأهداف: تتطلب هذه المسألة عموماً حساب الكُلفة أو الثمن، ومعرفة حجم الجهد المطلوب بذله، وكذلك تفهم طبيعة الأمور إن جاء العائد غير كبير في البداية، وأن الحرب لن تستمر إلى الأبد إنما ستنتهي بالسياسة، كما جرت العادة. وبالتأكيد فإن المشاركين في “عاصفة الحزم” يدركون تماماً أهمية الابتعاد عن التقديرات الجزافية، والخيالات الأسطورية، فلا يتحدثون عن قضاء مبرم على الحوثيين، ولا كسب المعركة في زمن يسير جداً، فهم يعرفون أن الحوثيين جزء من الشعب اليمني، لكن عليهم أن يعملوا مع بقية الأطراف على أرضية وطنية، ولا يكونوا “حصان طروادة” لإيران، فيمكنونها من رقبة اليمن.
كما أن هناك، منذ اللحظة الأولى، تقديراً لصعوبة المعركة خاصةً على الأرض، لكن ثمة ثقة بأن الانتصار آت للشرعية في خاتمة المطاف، وهذه مسألة طبيعية لأي قوة عسكرية دخلت حرباً مهما كانت مستوى التفاوت بين قدراتها وقدرة خصمها.
4- العقلانية: تعني تقدير قوة الخصم، وجمع المعلومات الدقيقة عنه وتحليلها بطريقة علمية، ووضع السيناريوهات التي ستسلكها الحرب (سننتصر سريعاً، سنتعثر بعض الشيء في البداية، سندخل هدنة، سيعاند الخصم طويلاً، سينهار الخصم بعد مدة معينة)، ثم وضع البدائل ليست فقط العسكرية لكن السياسية أيضاً، وتتعلق بالأطراف التي يمكن للدول المشاركة في “عاصفة الحزم” أن تتفاعل أو تتعامل معها مع التغيرات التي تطرأ في اليمن.
5- التخصص: يرتبط هذا المحدد بمهارة القيادة العسكرية الميدانية، وحنكة الدبلوماسيين وقت التفاوض، ودور الإعلام في التسويق السياسي والدعاية والحرب النفسية وصناعة الصورة، وتوافر مُديري الأزمات، وضرورة الاستعانة بعلماء السياسية والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والتاريخ والفلكلور وخبراء الأمن. فأصحاب مثل هذه التخصصات والخبرات يجب أن يتواجدوا وقت وضع الاستراتيجية، وتُؤخذ آراءهم في الاعتبار.
6- الاستمرارية: هذه ركيزة أساسية من ركائز الاستراتيجية، فـ”المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”. وهنا يجب النظر إلى استمرار الحرب بوسائل أخرى، أي من خلال السياسة، والعمل على تحسين الصورة وكسب الشعب اليمني دوماً، وإعادة إعمار اليمن بعد الحرب، ووضع الخطط التي من شأنها الحفاظ على وحدة التراب الوطني اليمني، والنظر في دمج الحوثيين بعد هزيمتهم مع إعادتهم إلى وزنهم الحقيقي في المجتمع، ثم متابعة أدائهم عن كثب في السنوات المقبلة، والتشبيك أو مد روابط الصلة مع النخبة اليمنية الجديدة لاسيما من الشباب الذي مثَّل القوة الاجتماعية الأساسية في الثورة على نظام علي عبد الله صالح، وأخيراً النظر في علمية كتابة التاريخ، حيث سيعمد الحوثيون ومن معهم على تدوين ما يعزز وجهة نظرهم من مجريات الأمور، وهذا أمر متوقع.
7- المرونة: تفرض إعادة النظر في السياسات التفصيلية إن فشلت، وإعادة بناء الخطط إن توعكت، والقيام بتقييم المشرفين المباشرين على الخطط بشكل مستمر لضمان كفاءتهم، وتجديد المعلومات باستمرار حول وضع قوات الحوثيين وحلفائهم، وموقف القبائل، ووجهة نظر الحراك الجنوبي، وتصورات الأطراف الإقليمية والدولية، ووضع المجتمع اليمني بمختلف أطرافه من القبائل والشباب والأحزاب والإعلام.
8- الإلزام: هنا تصبح الدول المشاركة في “عاصفة الحزم” مُلزمة بالتكاتف حتى تحقيق الهدف الرئيسي والأهداف الفرعية، ومواصلة إعادة بناء ما هدمته الحرب، وتحسين شروط حياة اليمنيين بعد انتهاء العمليات العسكرية بشكل نهائي، ثم العمل على بناء نمط علاقات جيدة متصاعدة مع اليمن.
9- المراجعة: تتمثل في هذا المقام في تحديد مدة زمنية لتقييم وتقويم السياسات والعمليات العسكرية، وتحديد من يُناط بهم القيام بهذه المراجعة ومراقبتهم، بغية ضمان أفضل تطبيق ممكن لبنود الاستراتيجية، في فروعها الصغيرة المتمثلة في “السياسات”، والأكبر منها المتعلقة بـ”الخطط”، ثم الأوسع المرتبطة بالاستراتيجية نفسها.
10- الابتكار: نظراً لأن وضع الاستراتيجيات يتطلب تفكيراً نقدياً وإبداعياً، فإن للخيال دوره المهم في صياغة هذه الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل ذلك يصب في إطار صياغة الثالوث الاستراتيجي المتمثل في الأهداف والأفكار والموارد، وكل منها يحتاج إلى خيال، ينصرف بالأساس إلى توقع ما يأتي، والاستباق في الرؤية والحركة. وهذه مسألة بالتأكيد ليست بعيدة عن الدول المشاركة في “عاصفة الحزم” من أجل استعادة الشرعية في اليمن.
د. عمار علي حسن
مركز المستقل للابحاث والدراسات الاستراتيجية