شغلت الحواجز التي تحول دون مشاركة النساء السياسية في الشرق الأوسط أذهان المفكرين والباحثين لفترة طويلة من الوقت. وقد عطلت الانتفاضات العربية في أوائل العام 2011 كل أبعاد السياسات والمجتمعات العربية تقريباً، بطريقة دفعت إلى إجراء إعادة تقييم منهجية لنظريات وفرضيات العلوم السياسية القائمة منذ وقت طويل. ولم يكن موقع المرأة في السياسة والحياة العامة استثناءً.
سمحت التجارب المتباينة التي أنجبتها الانتفاضات العربية وتداعياتها لعلماء السياسة بإلقاء نظرة جديدة على العديد من الأسئلة المهمة. وعملت مصادر البيانات الجديدة وتنوع الحالات على بث الطاقة في مجتمع الباحثين الذين يركزون على المشاركة السياسية العامة للمرأة. وقد جمع مشروع ورشة عمل للعلوم السياسية حول الشرق الأوسط، والتي انعقدت في آذار (مارس)، مجموعة متعددة التخصصات ضمت أكثر من عشرة من هؤلاء الباحثين الذين أجروا فحصاً نقدياً لهذه الأسئلة. وكانت النساء مشاركات واضحات للغاية في الانتفاضات العربية للعام 2011، من المتظاهرات على الخطوط الإمامية في ميدان التحرير في مصر، إلى فوز توكل كرمان، وجه الثورة في اليمن، بجائزة نوبل. وأصبحت مشاركة النساء المادية في هذه الاحتجاجات، كما لاحظت شيرين حافظ، موضعاً رئيسياً للخلاف، مع شيوع الروايات عن اشتباك الحراك من أجل التحرر مع التحرش الجنسي العلني الجماعي والممارسة المدفوعة جندرياً لعنف الدولة، والتي تجلت في شكل ما يدعى “اختبارات العذرية”.
صنعت التحولات التي تلت تلك الانتفاضات تحديات شرسة للنساء بالتحديد. ودفعت النجاحات الانتخابية المبكرة للأحزاب الإسلامية في مصر وتونس العديد من الناشطات النسويات، والليبراليين والمنابر الإعلامية الغربية إلى الإعراب عن القلق من احتمال قيام الحكومات الجديدة بمصادرة حقوق المرأة وتقييد حرياتها السياسية. وقد تصاعدت تلك المخاوف، كما توثق إيلين ماكلارني، مع المفاوضات المريرة والمثيرة للجدل حول صياغة الدساتير الجديدة.
خشي الكثير من الناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان من احتمال إجراء تغييرات على قوانين أخرى من التي تحمي حقوق النساء، خاصة في إطار الأسرة. وكانت الأنظمة الاستبدادية قد دعمت، استراتيجياً، مبادرات مخصوصة –ظاهرياً على الأقل- خدمت حقوق المرأة. ففي مصر، كما تلاحظ ميرفت حاتم، أسست سيدة مصر الأولى السابقة، سوزان مبارك “المجلس القومي للمرأة” في العام 2000، الذي ساعد في تمرير عدد من القوانين التي تعزز حقوق النساء والفتيات في العقد التالي. وكانت تونس في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي تعتبر في كثير من الأحيان منارة لتمكين النساء على النمط الغربي في المنطقة، حيث اجتذب النظام انتباهاً عالمياً إلى تشريعات حقوق المرأة والابتعاد عن قمعها المنهجي –الذي شمل، كما توثق هند أحمد زكي، الاعتداء الجنسي واسع النطاق على الناشطات الإناث.
لكل ذلك، خشي نشطاء حقوق المرأة أن يأتي التمكين الديمقراطي للمحافظين الإسلاميين على حساب التقدم الذي كانوا قد أحرزوه بشق الأنفس. وساور القلق العديدين من أن يجهض الدستور الجديد الذي صيغ تحت قيادة الرئيس السابق محمد مرسي في العام 2012 بعض هذا التقدم. ولم تتم طمأنتهم، كما تصف إيلين ماكلانري، إلى أن العديد من الأقسام المتنازع عليها والتي تصف دور النساء في الأسرة والمجتمع، إنما تتأصل فعلياً –وبعضها بشكل حرفي- في دساتير عهد عبد الناصر “العلماني”، بل والتي لها جذور أيضاً في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان.
لم يكن مثل هذا التسييس لحقوق المرأة جديداً بطبيعة الحال. وكما تصف شيرين حافظ، فإن كلا من الأنظمة المستبدة والحكومات الإسلامية المنتخبة ديمقراطياً على حد سواء، تلاعبت بلغة حقوق المرأة واستفادت من أجساد النساء لتبرير وتحقيق غاياتها السياسية.
لكن النشاط الخاص بالنساء، شأنه شأن بقية الأشكال الأخرى من التحشيد السياسي في أعقاب انتفاضات العام 2011، لم يعد سهل الاحتواء أو المصادرة كما كان حاله في السابق. وعلى سبيل المثال، رفعت سميرة إبراهيم دعوى قضائية ضد الجيش المصري بتهمة الاعتداء الجنسي المتضمن فيما يدعى “اختبارات العذرية” التي أجراها. ومع أن قيادة الجيش المصري وصفتها بأنها “ليست مثل ابنتك أو ابنتي”، فإنها نجحت أخيراً في إلغاء هذه الممارسة.
على الرغم من التراجع السلطوي على الصعيد الإقليمي مع استعادة النخب الحاكمة القديمة سدة السلطة، يستمر تنظيم المرأة الاجتماعي وتحشيدها السياسي في التأثير على المنطقة. وتبين فيكي لانغور كيف شرعت الأشكال الجديدة من النشاط النسوي مع التوسع الكبير في إعلام الأقمار الاصطناعية في تغيير الخطاب العام حول العنف الجنسي في مصر. وتقدم هند أحمد زكي وصفاً لـ”لجنة الحقيقة والكرامة في تونس” التي أعطت للنساء الفرصة لسرد قصصهن عن عنف الدولة الجنسي المنهجي في ظل نظام بن علي –مع أنهن لم يكسبن حتى الآن حق مقاضاة مرتكبي تلك الانتهاكات.
ألقى طيف واسع من أدبيات العلوم السياسية حول التحديات التي تواجه مشاركة المرأة السياسة الضوء على متغيرات مثل الحركات الإسلامية، وخطابات القومية والمواطنة، وأنماط تطور الدولة والأعراف الثقافية للنظام الأبوي. لكن هذه الأطروحات الواسعة تفشل في كثير من الأحيان في رصد التباين في تجارب النساء، وليس في الدول المختلفة فقط، وإنما على المستوى دون الوطني. وقد استفاد الباحثون في الورشة المذكورة أعلاه من مصادر البيانات الجديدة، والمنظمات الجديدة والحملات والتنويعات من أجل إضاءة تنوع خبرات النساء في كل أنحاء المنطقة.
على سبيل المثال، كما تشير ليندسي بينيستيد، فإن البلدان التي تضم نسباً شبه متطابقة –ومرتفعة نسبياً- من النساء في قوة العمل الرسمية (مثل اليمن، وليبيا، وتونس والمغرب)، لديها قوانين أحوال شخصية تتراوح من الأكثر تقدمية إلى البعض من الأكثر محافظة في المنطقة.
بينما يختلف الأداء على مختلف مؤشرات المساواة الجندرية بشكل كبير، حتى في داخل الدول المفردة، فإن اقتراح الحجج غير المتمايزة حول الأبوية كمتغير تفسيري من دون اعتبار لتقاطعات الطبقة، والامتيازات، أو العرق، يظل ذا قيمة محدودة فقط. وبالمثل، يجد فحص سكوت فينر للنظام الأبوي والعلاقات القبَلية في الكويت وعُمان أنه بينما تظل علاقات القرابة بارزة سياسياً في الكويت، ويرجح أنها سهلت ترتيب المستويات المتدنية جداً لتمثيل النساء في برلمان البلد، فقد سجلت الكويت في حقيقة الأمر أعلى بلد عربي في العام 2014 على مؤشر الفجوة الجندرية العالمية.
في المقابل، لدى المغرب واحد من أكثر قوانين الأحوال الشخصية تقدمية في المنطقة، ويتفاخر ذلك البلد بأعلى نسبة من النساء في البرلمان، لكن الفجوة بين تعليم الذكور والإناث في المغرب تأتي في المرتبة الثانية بعد اليمن فقط بين 20 دولة عربية. وتلقي دراسة زكية السالمي عن النساء الريفيات المعروفات باسم “السلاليات”، اللواتي يقاتلن من أجل الحصول على الأراضي القبلية في المغرب، ضوءًا على كيفية عمل صلات مخصوصة في المجتمعات القبلية بين إخضاع النساء في العائلة وإخضاعهن في المجال العام، في بلد يتسم باختلافات واسعة في الأداء على مؤشرات النظام الأبوي النمطية.
هذا الافتقار إلى التطابق بين المؤشرات المختلفة لممارسة التمييز يقود الباحثة بينيستيد إلى اقتراح أنه بدلاً من استخدام الأبوية كمصطلح أساسي، سيكون من الأفضل للباحثين السياسيين أن يتعلموا من النظرية النسوية، وخاصة مفهوم دينيز كانديوتي لـ”الصفقة الأبوية”. وفي مثل هذه الصفقة، تعتمد مكانة النساء في طيف من المجالات على حصيلة مفاوضاتهن مع الرجال، وبذلك يمكن أن تختلف نواتج مختلف مؤشرات التمييز بشكل كبير في نفس المجتمع.
في حين أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث من أجل تحديد كيفية تأثير هذه المؤشرات على التمييز السياسي ضد النساء، فإن هناك إجماعاً على كيفية تحسين التمثيل السياسي. وقد أوضحت الأبحاث الواسعة عبر الوطنية، مثل بحث آيلي ماري تريب وآليس كانغ، فعالية نظام الكوتا النسائية. ولا يقتصر عمل الكوتات على زيادة التمثيل السياسي، وإنما على تعزيز أطروحة بينيستيد، حيث تقوم الحصص أيضاً بتحسين وصول المواطنات النساء إلى الموارد الحكومية. ومع أن البعض يجادلون بأن الضغط الغربي من أجل تخصيص مثل هذه الحصص سوف يؤدي إلى تقويض احتمالاتها فحسب، وجدت ساره بوش وأماني جمال القليل من الدليل على مثل هذا التأثير في التصورات الشعبية.
مع أن المتشائمين ربما يفترضون أن النساء في البرلمانات العربية هن مجرد شكل من أشكال التظاهر والعرض التجميلي، تلاحظ مروة شلبي أنه بينما تشكل النساء 17 في المائة من البرلمان المغربي، فإنهن طرحن 58 في المائة من مجموع الأسئلة هناك. ومع ذلك، ركزت النساء البرلمانيات في الأردن والكويت والمغرب القليل من الاهتمام على القضايا المرتبطة بوضوح بحقوق النساء والأطفال، ومنحن الأولوية بدلاً من ذلك لقضايا مثل الاقتصاد والتعليم. وبالنظر إلى القيود الكبيرة على حقوق النساء في الأسرة، وخصوصاً في الأردن والكويت، كيف يمكن أن نفسر افتقار النساء البرلمانيات النسبي إلى الاهتمام بهذه القضية؟
ربما اتخذت النساء الأعضاء في البرلمان، مثل زملائهن الذكور، قراراً عقلانياً بأن من الأفضل لهن استخدام مواقعهن للعمل في مجالات يستطعن منها تقديم الخدمات لدوائرهن الانتخابية. وتبين مُنى تجلي كيف أن الأحزاب السياسية في إيران وتركيا –على الرغم من، وليس بسبب، نوايا قادتها في كثير من الأحيان- خلقت فعلياً مساحات للنساء اللواتي ربما لم يكنّ لينخرطن بغير ذلك، للصعود إلى المناصب السياسية. ففي إيران، ساهمت الشبكات السياسية التي أنشأتها النساء خلال الحركة الخضراء في العام 2009 في نجاحهن الانتخابي في الانتخابات البرلمانية للعام 2016. وهناك الآن عدد أكبر من النساء في البرلمان الإيراني من رجال الدين، وسوف يكون من المثير للاهتمام معرفة أن أجندات هؤلاء البرلمانيات تتطابق مع أجندات نظيراتهن العربيات.
تتشابك حقوق النساء وتطلعاتهن السياسية بطريقة يتعذر فصمها مع النضالات السياسية الأخرى التي يشكلها السياق المحلي أكثر مما تشكلها الأنماط الثقافية التي يفترض أنها ثابتة. وتبين الأبحاث التي ألقي الضوء عليها في ورشة العمل المذكورة أعلاه حيوية الجهود العلمية الجديدة لدراسة الآفاق السياسية المتغيرة للنساء في الشرق الأوسط.
*فيكي لانغور: أستاذة مشاركة للعلوم السياسية في كلية الصليب المقدس. مارك لينش: أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج تاون، حيث يعمل مديراً لمشروع العلوم السياسية للشرق الأوسط. وهو أيضاً زميل رفيع غير مقيم في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط والمؤسس المشارك لمشروع Blogs and Bullets في المعهد الأميركي للسلام. لورين بيكر: منسقة برنامج مشروع العلوم السياسية للشرق الأوسط.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد