حاول رئيس الوزراء العِراقي الجديد حيدر العبادي التخفيف مما تركه سلفه ورفيقه في حزب الدَّعوة الإسلامية، نوري المالكي، وأن يؤدي ما أوكل إليه مِن مسؤولية يثبت أنه الأجدر، فمِن المعلوم أن تلك الفترة (2006- 2014) كانت ملأى بالخروقات الدستورية، وبعدم الثقة بين القوى السياسية، وبعظمة الفساد والتدهور في نواحي الحياة كافة، حتى هناك مَن أخذ يُراجع موقفه مِن جدوى سقوط نظام صدام حسين (أعدم 2006).كان أخطر ما أنتجته تلك الفترة هو ما سماه العبادي نفسه «الجيش الفضائي»، فـ50 ألف منتسب (حسب العبادي) إلى الجيش العراقي كانوا على الورق فقط، وهذا يعد أحد الأسباب المهمة في هزيمة الجيش العراقي أمام مسلحي «داعش» في مشهد مخز للغاية، وحتى هذه اللحظة ما زالت الموصل ومناطق غربية بيد المسلحين. بينما كان المالكي قد أسس مكتبا خاصا بالقائد العام للقوات، لا حدود لصلاحياته، ولديه ميزانية ضخمة، إلا أنه سلط فيه الأقارب والأصهار وعددا كبيرا من المنتسبين الوهميين.
بطبيعة الحال، يتحمل – بحكم المسؤولية – رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة المسؤولية الكاملة عما حصل، وهذا ما جعل حيدر العبادي يلغي المكتب في أول خطة له بعد إلغاء الألقاب كدولة الرئيس التي كانت تطلق على إبراهيم الجعفري ونوري المالكي.
كان ظهور العبادي على شاشات الفضائيات محرجا ليس للمالكي فحسب، إنما لحزب الدعوة ككل، وأثبت أن سلفه لم يُكلف نفسه بالتدقيق في مسألة خطرة مثل هذه، مع أن وسائل الإعلام قد أشارت، من قَبل وحذرت من وجود المنتسبين الفضائيين. لا ندري إلى أي مدى يتمكن حيدر العبادي من تصفية تلك الفترة بجيشها الفضائي وبفسادها المزمن، وهو ما زال عضوا قياديا في حزب الدعوة الإسلامية، وتكتل دولة القانون وهما برئاسة المالكي نفسه؟
التفت العبادي، بعد الجيش، إلى وزارة الداخلية، وإذا هي الأخرى ملأى بالفساد وبالفضائيين أيضا، تلك الوزارة التي كان يهيمن عليها حزب الدعوة بوزيرها بالوكالة (نوري المالكي) وبوكيلها الأقدم عدنان الأسدي. وعندما نقول فساد الجيش والداخلية يعني أن الحالة الأمنية سيئة للغاية. كذلك نوه العبادي إلى فساد في القضاء العراقي، ذلك الذي استغله المالكي ضد خصومه، أو ممَن لا يتعاون معه، حقا أو باطلا.
لم يبقِ المالكي على صلة مع دولة إقليمية، عدا إيران، مِن دون ألغام تنفجر في أي وقت، وهذا عامل آخر يضاف إلى عوامل عدم الاستقرار الأمني، ناهيك عن الطائفية التي أشعلها من موقعه كرئيس للسلطة التنفيذية، وهنا لا ننزه بقية السياسيين مِن لوثتها، لكن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية والأمن، حسابه آخر.
حاول العبادي، مع حداثة حكمه وعظمة ما أمامه مِن مصاعب، أن ينهج سياسة جديدة مع دول الجوار، تلك التي نسفها المالكي بحماقات لا أول ولا آخر لها. كذلك حاول التخفيف من الاحتقان الطائفي بين السُّنَّة والشِّيعة مِن جانب وبين المركز والإقليم مِن جانب آخر، فقد أوصلها المالكي إلى مواجهة بين عرب وكُرد، وذلك مِن خلال خطابه، الذي كان يُذاع كل يوم أربعاء، وصار وجود المالكي نفسه هو المشكلة.
هناك مَن يراهن على فشل حيدر العبادي فيما يسعى إليه، وذلك بسبب عظمة التدخل الإيراني، ممثلا بشخص قاسم سليماني ونائبه على شأن العراق أبو مهدي المهندس، العضو في حزب الدعوة ومنظمة بدر سابقا، فقيل هو الذي يترأس الحشد الشعبي، وإنه وراء تأسيس العديد من الميليشيات التي قاتلت بسوريا، بُعذر الدفاع عن الأضرحة المقدسة، كضريح الست زينب المفترض.
أما الفساد فقد تراكم خلال السنوات الإحدى عشرة، بعد سقوط النظام السابق، بما يصعب معالجته بإجراءات فوقية؛ حتى صار مؤسسا ومحميا، وكم صحافي لقي حتفه عندما حاول القرب من شبكات الفساد، ناهيك عن أن المسؤولين خلال تلك السنوات أخذوا يتناوبون على المناصب، فوزير المالية الذي أبتلي بالفساد أصبح وزيرا للنفط مثلا، أو وزير النفط الذي عرفت وزارته بالمحسوبية والفساد صار وزيرا للتعليم العالي، وكذلك بقية المناصب، فكيف يُحارب الفاسد بوجود هذا التداول على المناصب؟
صحيح أن العبادي يختلف عن المالكي بمواصفات عديدة، منها أنه لم يشتهر عنه التورط في أعمال عنف أيام المعارضة، ولم يكن مدانا للجمهورية الإسلامية الإيرانية بفضل في أيام المعارضة، لأنه لم يعش هناك كالآخرين، وأنه صاحب شهادة علمية وتكنوقراط ممارس، ومِن أسرة بغدادية تُقدر قيمة المدينة، كذلك لم يُعرف عنه فساد أو ابتلاء بالاستحواذ على قصر من القصور كسابقيه. لكن، هل يكفي هذا لتصحيح مسار الوضع العراقي الملتهب؟ بلا شك لا يكفي في حالٍ مِن الأحوال إذا لم يُصَرْ إلى عمل جماعي، ومِن قِبل السلطات الثلاث، وأن ترفع يد الإدارة السابقة، فالمالكي، الذي حمى ملفات الفساد، ويحاول كبح أي نجاح يظهر رداءة إدارته في حالة نجاح العبادي، ما زال متمكنا من النفوذ عبر تكتل دولة القانون، وحزب الدعوة الإسلامية، وبهذا يبقى العبادي أسيرا لرئيسه في الحزب والتكتل، في حالة أنه لا يتمكن من التحرر من الكيانين وزعامتهما.
د. رشيد الخيون
المجلة