يمكن أن نطلق على رئيس الوزراء الجديد وصف التكنوقراط بامتياز، فهو تخرّج من كلية إسطنبول التقنية قسم العلوم البحرية وإنشاء السفن، وعمل في هذا المجال مديراً لإدارة النقل البحري في إسطنبول، حتى العام 2000، ثم انخرط في حزب العدالة والتنمية، وكان نائباً عنه أربع دورات، ثم وزيراً للمواصلات والاتصالات منذ 2007، حتى الآن مع استثناء عامي 2013 – 2015، حيث عمل فيهما مستشاراً للرئيس أردوغان. وطوال هذا الوقت، كان من الوزراء النشطين المهنيين والعمليين، وأشرف مباشرةً على النقلة العملاقة في قطاعي المواصلات والاتصالات، كما المشاريع العملاقة ذات الصلة، خصوصاً في قطاع المواصلات، مثل مشروع مرمراي الجسر الثالث، كما نفق أوراسيا تحت البوسفور الواصل بين قسمي مدينة إسطنبول.
لم يعرف عن يلدريم انخراطه بالسياسة، أو اهتمامه بها بالمعنى المباشر للكلمة، ونادراً ما كان يدلي بدلوه في القضايا السياسية. وبالتأكيد، هو لا يحمل طموحاً سياسياً، وقد تصرّف، عموماً، كما الوزراء الميدانيين التنفيذيين والنشيطين، من دون ظهور كبير في الإعلام، ومن دون الانخراط في أيٍّ من التصريحات أو السجالات المتعلقة في القضايا السياسية الساخنة، الداخلية والخارجية.
كان يلدريم، طوال الوقت، مقرباً من أردوغان، كونه يتصف بالصفات التي يحبها الرئيس، الإخلاص والنشاط في العمل والابتعاد عن الظهور الإعلامي، كما عمل فترةً مستشاراً له. وهو كان أصلاً مرشح أردوغان لزعامة الحزب في العام 2014، عندما فاز في الانتخابات الرئاسية باقتراع حرّ مباشر، وبدأ العمل الفعلي من أجل تحويل النظام من برلماني إلى رئاسي.
ولكن، تم تفضيل داود أوغلو، آنذاك، لخصاله السياسية والفكرية، ولإجراء التغيير تدريجياً. والأهم، لأنه أبدى الاستعداد للعمل وفق أجندة الرئيس، في ما يتعلق بتغيير النظام ومحاربة الكيان الموازي، أو جماعة فتح الله غولن باعتبارهم خطراً رئيسياً ومباشراً على الأمن القومي للبلاد.
أجرى يلدريم تغييرات محدودة على حكومة أوغلو، وعلى الرغم من دخول تسعة وزراء جدد من أصل خمسة وعشرين، إلا أن الحقائب الوزارية الأساسية (السيادية) ظلت على حالها، مع بقاء وزراء الخارجية، الداخلية، المالية، العدل، في مواقعهم، وتحوّل وزير الصناعة والعلوم، فكري أيشيك، إلى وزارة الدفاع التي انتقل وزيرها، عصمت يلماز، إلى حقيبة التعليم، وربما تبدو المفاجأة الكبرى أن أبرز الوزراء الجدد، كان وزير الصحة السابق (2002– 2013) رجب أكداغ، المقرب من أردوغان، وعراب الطفرة الصحية الكبرى في تركيا، والذي حلّ محل أحد مقربي أردوغان أيضاً، محمد مؤذن أوغلو الذي كان قد تسلّم وزارة الصحة منذ ثلاث سنوات، ولم ينل رضى الرئيس، كونه لم يترك بصمة واضحة وكبيرة في الملف الصحي. على غير ما فعل الوزير العائد أكداغ.
على عكس ما توقع بعضهم، لم يتم إخراج مقربي أوغلو من مناصبهم الوزارية، عكس ما جرى في اللجنة المركزية للحزب التي تم تغيير نصفها تقريباً، حيث بقي محمد شيمشك في منصب نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الملف الاقتصادي، في خطوةٍ هدفت إلى طمأنة السوق، ورجال الأعمال والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في البلد، وتلافي أي تغيير قد يؤثر سلباً على الأوضاع الاقتصادية فيه. كذلك بقي معظم نواب رئيس الوزراء في مناصبهم، مع تحويل نائب رئيس الوزراء، لطفي ألوان، إلى وزارة التنمية، وهو أيضاً أحد المقربين من أحمد داود أوغلو.
وقد تمثل التغيير الحكومي الأهم بخروج نائب رئيس الوزراء، يالتش أكدوغان، والذي كان مقرّباً من أردوغان وأوغلو، وكان مسؤولاً أو مكلّفاً بملف عملية التسوية والسلام مع الأكراد، أي حزب الشعوب والزعيم الكردي المعتقل عبدالله أوجلان. وكان التغيير هنا سياسياً للقول، إن سياسة التفاوض انتهت، وسيتم اتباع مقاربةٍ جديدة مغايرة، وهذه كانت الرسالة الأهم ربما من التغيير الحكومي، كما من خروج أكدوغان من التشكيلة الوزارية الجديدة.
وكان أحد أهم الخارجين من الحكومة الجديدة وزير شؤون الاتحاد الأوروبي، فولكان بوزكير، المفاوض الأساسي في اتفاق مارس/ آذار الماضي بشأن اللاجئين، والذي تحفظ عليه الرئيس أردوغان، طارحاً ملاحظاتٍ حول آلية التفاوض، كما طرق تنفيذه. وبالتأكيد، دفع بوزكير ثمن عدم رضى الرئيس عن العملية كلها، وبالتالي، الإتيان بأحد المقربين منه للمنصب، الناطق السابق باسم حزب العدالة والتنمية، عمر تشيليك.
باستثناء ما سبق، لم تحدث تغييرات كبرى للحكومة، حيث ستطاول التغييرات المهمة السياسات، مع الانتباه طبعاً إلى التغيير الأهم المتعلق بوجود تكنوقراط ورجل تنفيذي في رئاسة الحكومة، وليس رجلاً سياسياً ذا نظرة ومقاربة فكرية سياسية، كما كان الحال مع داود أوغلو. وقد تبدلت السياسة الحكومية شكلاً مع إعلان الحكومة من القصر الرئاسي، كما في ترؤس أردوغان أول اجتماع للحكومة الجديدة، ما يعني التطبيق العملي للنظام الرئاسي، وتبعية الحكومة بالكامل للرئيس، كما أعلن رئيس الحكومة الجديدة بنفسه، عندما خاطب أردوغان، قائلاً “طريقك طريقنا، وبرنامجك برنامجنا”.
وتبدّى التغيير مضموناً في برنامج الحكومة، والذي جاء متطابقاً تماماً، ومعبّراً عن السياسات والمواقف المعلنة للرئيس أردوغان. حيث قال يلدريم، في أول بيان وزاري له، إن أولوية الحكومة تتمثل في كتابة دستور جديد، وتحويل النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو البند الأهم ربما على جدول أعمال الحكومة الجديدة.
وقد تمثّل التغير السياسي الآخر في وضع الحرب ضد الكيان الموازي، جماعة غولن، على قدر المساواة مع الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، ومقدم حتى على الحرب ضد داعش التي لا تعتبر تركيا أن لها أولوية، أو أنها مهمة خارجية في الحد الأدنى، حيث الاهتمام منصبٌّ على المعارك الداخلية ضد حزب العمال والكيان الموازي بالدرجة والأهمية نفسها، كما يريد الرئيس أردوغان.
في الملف الاقتصادي، تم الحديث عن الاستمرار في السياسة الاقتصادية المتبعة حالياً، والمضي في المشاريع التنموية؛ النهضة العملاقة خصوصاً في قطاعات التعليم، والبنى التحتية، والخدمات. كما تحدث رئيس الوزراء عن رفع مستوى الدخل، ليضاهي الدول المتقدمة (25000 دولار تقريباً)، وذلك ضمن مشروع تركيا 2023، أي المئوية الثانية للجمهورية.
خارجياً، بدا لافتاً تقديم العلاقات مع روسيا وإيران على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وحسب مصادر موثوقة ومطلعة، أعطى الرئيس أردوغان تعليماته بتحسين العلاقات مع روسيا، وتطوير العلاقات مع إيران، والانفتاح أكثر على الشرق، أي الصين واليابان، مع مواصلة الحديث عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن من دون تعويل كبير على ذلك.
لم يتم الإعلان عن ذلك في البرنامج المعلن. ولكن، ستكون من أولويات الحكومة الجديدة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنهاء الخلاف، وهو ما تبدّى أيضاً في لقاء وكيل وزارة الخارجية التركي، فريدون سيزلي أوغلو، مع نظيره الإسرائيلي دوري غولد، الخميس الماضي، على هامش القمة الأممية الإنسانية، علماً أنه تم تجميد المفاوضات بين الجانبين، انتظاراً لتشكيل الحكومة الجديدة. وكان يفترض أن يتم عقد لقاء في منتصف شهر مايو/ أيار الحالي، من أجل وضع الصياغات النهائية، والإعلان عن اتفاق التطبيع النهائي بين البلدين.
باختصار وتركيز، مثّل اختيار يلدريم، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة، من الرئيس أردوغان، بداية الانتقال العملي إلى النظام الرئاسي، وربما يكون يلدريم آخر رئيس وزراء، وأول نائب أو كبير مساعدي الرئيس، وسيكون أيضاً تغييراً سياسياً كبيراً، يعبر عن تصورات أردوغان ومواقفه، يتعلق أساساً بالابتعاد عن الغرب والتوجه نحو الشرق، ليس بالضرورة العربي، وإنما إيران، روسيا، الصين، واليابان مع مواصلة الانفتاح على أفريقيا، بما في ذلك الدول العربية الأفريقية، طبعاً خصوصاً في الشمال الأفريقي.