يوم 21 أيار (مايو)، بعد أن دمرت ضربة من طائرة من دون طيار سيارة وراكبيها في مقاطعة بالوشستان في باكستان، اكتشف المسؤولون المحليون جواز سفر باكستانياً لم يتلف، وجثتين مقطعتي الأوصال إلى درجة يصعب معها التعرف على هوية صاحبيهما بين الحطام. ويعود جواز إلى رجل عرُف أنه والي محمد. وحملت الصورة في الجواز شبهاً غريباً مع القائد الأعلى لحركة طالبان الأفغانية، الملا أختر محمد منصور، الذي استهدفته ضربة الطائرة من دون طيار، والذي كانت جثته موجودة في الجوار. ووفق تقارير ظهرت في الصحافة الباكستانية، فقد أشار جواز السفر إلى أن صاحبه ربما يكون الملا منصور الذي كان في طريق عودته من إيران حيث كان متواجداً منذ يوم 26 نيسان (أبريل) الماضي. وكان الملا منصور قد سافر إلى هناك لعدة أسابيع في شهري شباط (فبراير) وآذار (مارس).
يعتبر قرار الملا منصور زيارة طهران ومغادرة ملاذه في بلوشستان -حيث ظلت القيادة العليا لطالبان الأفغانية تختبئ بأمان- قراراً غريباً. فبعد كل شيء، لا تعتبر طهران صديقة لطالبان؛ بل على العكس من ذلك، فقد اصطفت رسمياً مع ائتلاف أفغانستان الشمالي وغيره من اللاعبين المعادين لطالبان. كما أنها لعبت دوراً مساعداً في مؤتمر بون في العام 2001، الذي أسس في حينه حكومة أفغانية لمرحلة ما بعد طالبان. وتجدر الإشارة إلى أن طهران كانت قد زودت واشنطن في الأعوام الأولى من الغزو الأميركي لأفغانستان بخرائط توضح مواقع طالبان، كما أن جيشها عرض تدريب 20.000 عنصر من القوات الأفغانية.
كما أن لدى طالبان مسوغاً جيداً للنأي بنفسها عن طهران. وثمة اعتبارات طائفية بسيطة -إيران شيعية وطالبان سنية- والتي تقدم تفسيراً. لكن الاختلافات بين الطرفين تذهب أعمق من ذلك: فطالبان تحتفظ بروابط مع جند الله، وهي مجموعة إرهابية سنية معادية للدولة في إيران. وهي تشرف على تجارة مخدرات مزدهرة تغذي انتشار الهيروين المعيق بشكل وبائي في إيران؛ كما أنها حملت مسؤولية مقتل نحو دزينة من الدبلوماسيين الإيرانيين في القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف الأفغانية في العام 1998، وهو التطور الذي جلب في حينه إيران وأفغانستان تحت حكم طالبان إلى شفا خوض حرب (وفق بعض التقارير، وقفت وراء ذلك الهجوم المجموعة الباكستانية المعادية للشيعة، والمعروفة باسم “سباه الصحابة).
لدى السلطات الغربية تفسير بسيط لتواجد الملا منصور في إيران: لقد كان هناك لتلقي العلاج الطبي، وفقاً لمسؤول أوروبي نسب إليه القول في صحيفة “نيويورك تايمز”، من أجل تجنب المستشفيات الباكستانية والعين المراقبة لراعيته وكالة الاستخبارات الباكستانية هناك. ولم تظهر أي محددات لما كان يعالج منه. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” بشكل مثير للانتباه أن الملا منصور كان في الحقيقة في إيران لزيارة العائلة. وعلى أي حال، كان المسؤولون الأميركيون يعرفون مكان تواجده، واستطاعوا بمساعدة اعتراض الاتصالات تعقبه إلى هناك. ووفق تغريدة لمراسل راديو (أن. بي. آر) توم بومان، فإن واشنطن حصلت على رقم بطاقة هاتفه النقال.
يحتمل كثيراً أن تكون رحلة الملا منصور إلى إيران كانت مجرد رحلة بسيطة إلى الطبيب. لكن الرحلة ربما كانت تنطوي على أهداف سيئة أيضاً. فعلى الرغم من الخلافات بين طهران وطالبان، فإنهما تحتفظان ببعض مواطن الاهتمام الرئيسية، وكثيراً ما تعاونتا في عملياتهما.
وفي الحقيقة، فإن طهران وطالبان ترتبطان بعلاقات أكثر مما تدركه العين. وبشكل خاص فإنهما تبديان توجساً من الغرب، ومن الولايات المتحدة بالتحديد. كما تسعى كل منهما إلى تقويض نفوذ واشنطن.
من جهته، عرض ثوماس جوسلين محلل الأمن الدولي والمحرر الكبير في صحيفة “ذا لونغ وور جورنال”، قضية مقنعة للروابط طويلة الأمد بين إيران وطالبان. وترجع هذه الروابط إلى العام 2000، عندما قام الملا محمد عمر، وفق مذكرات سرية للحكومة الأميركية، بتكليف خيرالله سعيد والي خيرالله محافظ طالبان في مقاطعة هيرات، بتحسين العلاقات بين التنظيم وطهران. ونتيجة لتلك الجهود، وافقت إيران على تزويد طالبان بألغام وأسلحة صغيرة. (في مناسبتين منفصلتين في العامين 2007 و2011، اعترضت القوات الدولية العاملة في أفغانستان شحنتي أسلحة من إيران في اتجاه طالبان)، كما وقع الجانبان اتفاقية للحدود المفتوحة، والتي مكنت طالبان من تهريب أموال وسلع ومقاتلين إلى داخل إيران. وأرست اتصالات خيرالله الأرضية لانتصار التعاون بين إيران وطالبان لاحقاً: افتتاح مكتب لطالبان في العام 2012 في مدينة زاهدان الإيرانية، موطن العديد من عدة ملايين من الأفغان الذين يقيمون في إيران.
تاريخياً، ثمة عامل رئيسي يدفع في اتجاه تعاون إيران مع طالبان، والذي يكمن في القلق المتبادل من التواجد العسكري الأميركي والنفوذ الأميركي الأوسع في أفغانستان. وتخشى طهران، مثلاً، من قدرة القوات الأميركية على شن هجمات على مرافقها النووية انطلاقاً من أفغانستان.
لكن الظروف تغيرت اليوم. فقد انسحبت القوات المقاتلة الأميركية من أفغانستان، وتوصلت إيران والولايات المتحدة إلى اتفاقية نووية مهمة. وقد يفترض المرء أن هذه التطورات ستخفف من بعض مخاوف إيران من المخططات الأميركية، واقتراح محفزات أقل لدى طهران للتعاون مع طالبان- ولكن، فلنفكر مرة أخرى.
تشير تقارير صدرت العام الماضي إلى مستويات متزايدة من تحويلات الأموال والأسلحة الإيرانية إلى طالبان. ولكن، لماذا؟ ثمة سبب قد يساعد أيضاً في تفسير وصول موسكو إلى طالبان مؤخراً، وهو الشعور المشترك بعدم الارتياح من نفوذ “داعش” في أفغانستان، حيث أعلن عدة آلاف من مقاتلي طالبان السابقين، ومعظمهم من مقاطعة نانغرار الشرقية، عن ولائهم للمجموعة. وثمة احتمال بأن ينضم بعض مؤيدي الملا منصور الذين تدنت روحهم المعنوية بسبب مقتل زعيمهم بشكل مفاجئ إلى صفوف المقاتلين المصطفين مع “داعش”.
وثمة عامل آخر قد يساعد في تفسير التقارب بين إيران وطالبان، هو رغبة طالبان في النأي بنفسه عن الملاذات الباكستانية والصناديق المالية الأخرى. وكما كنت قد كتبت في السابق، تكشف لقاءات ممثلين من حلف الناتو مع العديد من معتقلي طالبان أن العديد من قادة المجموعة ومقاتليها غاضبون من الاعتماد على إسلام أباد، الراعي الذي لا يثق فيه العديد من أعضاء طالبان بسبب الرقابة المشددة التي تحب ممارستها عليهم، بالإضافة إلى رغبتها في اعتقال أفراد طالبان الذين تعتبرهم غير متعاونين. ومع الترنح الذي أصاب طالبان بسبب وفاة الملا منصور في بلوشستان -الملاذ الذي لم تشعر المجموعة فيه بهشاشة أبداً- فإنها قد تسعى إلى توفير مزيد من الحافز لتأمين ترتيبات بديلة لا تشمل باكستان. وبالنسبة لطالبان، فإن من الممكن تعظيم الفائدة من الاحتفاظ، إذا لم يكن تكثيف، روابطها مع طهران خاصة، كما أشار بعض المراقبين، عبر استخدام مناطق تسيطر عليها في أفغانستان للتوصل إلى ترتيبات مع إيران لتلقي دعم مالي سري.
وبالنسبة لإيران، ثمة محفز قوي لاستمرار التعاون مع طالبان، والذي يكمن في الحاجة إلى استراتيجية تحوطية؛ ففي خضم كل حالة عدم اليقين والتوتر في أفغانستان، وحيث تستمر حركة التمرد في شق طرق داخلية بوجود حكومة وحدة وطنية ضعيفة تواجه مستقبلاً غير يقيني، فإن ذلك يدفع إيران إلى الإبقاء على خياراتها مفتوحة مع طالبان، اللاعب غير الدولة الخطير في أفغانستان.
ولا يعني هذا القول بأن طالبان لا تتوافر على سبب للتعاون مع كابول. بل على العكس، وسوف تخدم إيران على أفضل ما يكون عبر خفض إجراءاتها -من شحنات الأسلحة وتحويلات الأموال إلى تزويد مكتب طالبان في زاهدان- التي تقوي من شوكة طالبان. ويعني طالبان أقوى المزيد من الاستقرار في أفغانستان التي تعِد بتجارة مخدرات أكثر رواجاً وتدفق لجوء أعلى وتيرة. ولكلا الأمرين تداعيات مباشرة وضارة على إيران.
يضاف إلى ذلك أن أفغانستان أكثر اضطراباً من شأنها أن تعيق مشروعات التنمية الواعدة الحاسمة بالنسبة لإيران فيما هي تكافح من أجل التعافي من سنوات العقوبات. وفي الأيام الأخيرة، قام رئيس الوزراء الهندي ماريندرا مودي، بزيارة طهران للتوصل إلى سلسلة اتفاقيات مع إيران وأفغانستان، والتي تتصل بتطوير ميناء تشاباهر الإيراني، وهي مبادرة تستهدف تسهيل التجارة والنقل بين آسيا الوسطى الغنية بالغاز وأفغانستان والهند. ومن الناحية الفعلية، تستطيع إيران أن تكون بوابة إلى العديد من الأسواق التنافسية، ومركزاً لجهد رئيسي لرفع سوية الاتصال الإقليمي. ومع ذلك، وإذا استمرت طهران في إمطار طالبان بالأموال والأسلحة بحيث تسهم بذلك في زعزعة استقرار أفغانستان، فقد يصبح ميناء شاباباهر ميناءً لا يفضي إلى أي مكان.
في الحقيقة من المرجح أن تلعب طهران لعبة مزدوجة: سوف تستمر في العمل مع كابول بينما تقدم دعماً سرياً لطالبان. وقد تكون الصفقة النووية بين أميركا وإيران قد خففت من بعض التوتر في العلاقات الأميركية الإيرانية، لكن الدولتين لم تتحولا بفعل ساحر إلى صديقتين. وفي الأثناء، سيستمر التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان، والذي قد لا ينخفض بالسرعة التي كان الرئيس أوباما قد رغب فيها، وسيستمر في إقلاق إيران حتى لو جرى تطمينها ضمنياً إلى أن القوات الأميركية تستطيع جلب بعض الاستقرار إلى أفغانستان. وزيادة على ذلك، من غير المرجح أن تغسل إيران يديها من تنظيم يسيطر على أراض في أفغانستان أكثر من أي وقت مضى منذ العام 2001.
وفي الختام، تشكل الروابط المعقدة بين طهران وطالبان تنويعاً خفيفاً من القول الدبلوماسي المأثور والمعروف جيداً: عدو عدوي هو صديقي.
مايكل كوغلمان
صحيفة الغد