ثمة سردية تم تسويقها على نطاق واسع، وبشكل منهجي، بأن الميليشيات العاملة في العراق تحت مسمى «الحشد الشعبي»، كانت استجابة لفتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، التي صدرت يوم 13 حزيران/ يونيو 2014، بعد سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على محافظة نينوى يوم 9 من الشهر نفسه، ثم بعد ذلك على أجزاء واسعة من محافظات صلاح الدين وكركوك وديالى والأنبار. وواقع الحال ان ما جرى كان استخداما سياسيا للفتوى، لغرض فرض الهيمنة التي كانت تتشكل ببطء، وثبات، ومنهجية، لاسيما اثناء الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي بين عامي 2010 ـ 2014.
لقد نصت الفتوى، التي سميت بفتوى «الجهاد الكفائي»: ان على المواطنين الذين لديهم القدرة على حمل السلاح، التطوع للانخراط في القوات الامنية. إلا ان المالكي عمد إلى «إستغلال»هذه الفتوى لتكريس وجود المليشيات التي أعاد إنتاجها بداية من عام 2012، وهي تحديدا مليشيا بدر، وكتائب حزب الله، وعصائب اهل الحق، كرد فعل مباشر على محاولة سحب الثقة عنه، والتي بدأت في أيار/ مايو 2012، عبر ائتلاف عابر للطائفية تشكل في أربيل من القائمة العراقية، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتيار الصدري. وفي محاولة منه لإستخدام هذه الميليشيات في إطار الصراع الشيعي الشيعي، الذي كان قائما حينها. وقد شكلت الازمة السورية عاملا مضافا أتاح لبعض المليشيات الشيعية العمل بالتواطؤ مع المالكي في دعم النظام في سوريا، في إطار الإنحياز إلى المقاربة الإيرانية لطبيعة الصراع القائم في المنطقة، فكان اول ظهور لميليشيا لواء أبو الفضل العباس وكتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء في سوريا في بين كانون الثاني/يناير وحزيران/يونيو من عام 2013. ولكنه استطاع هذه المرة ان يمنحها غطاء رسميا لكي تكون الحاضنة الوحيدة المتاحة لاستقبال المتطوعين على العكس مما قررته الفتوى!
وتتضح الارادة المسبقة لهذا الامر حين نراجع الوثائق الرسمية، تحديدا محاضر اجتماعات مجلس الوزراء، فقد صدر قرار عن مجلس الوزراء بالرقم 301 بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2014، يقبل يومين من صدور فتوى السيد السيستاني، يخول رئيس مجلس الوزراء بتنظيم «صفوف المتطوعين وصرف رواتبهم وتجهيزاتهم»، وبعد الفتوى بخمسة أيام، أصدر المالكي أمرا ديوانيا باستحداث هيئة ترتبط برئاسة مجلس الوزراء باسم «هيئة الحشد الشعبي»، ولم يخل هذا الاجراء من مخالفات دستورية تواطأ الجميع على عدم الاشارة اليها، ابتداء من مخالفة المادة 108 من الدستور التي تنص على ان الهيئات المستقلة انما تنشأ بقانون يصدر عن مجلس النواب! ومخالفة صريحة ثانية لأحكام المادة 9/ ب من الدستور التي حظرت تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة العراقية. ذلك ان قرار استحداث هيئة الحشد الشعبي قد منحها صلاحيات إدارة الحشد وتدريبه وتسليحه وتوزيعه على قواطع العمليات بمعزل عن القوات المسلحة العراقية!
ومخالفة ثالثة للقانون رقم 91 لسنة 2004، والذي يحظر عمل أية ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة الخاضعة لوزارة الدفاع أو تحت سيطرة وزارة الداخلية، ومخالفة للقانون نفسه الذي يشير إلى عدم جواز أن يشغل أي عضو في ميليشيا أي منصب سياسي ضمن أي مستوى. بل ان القانون يسمي صراحة بعض هذه الميليشيات المحظورة في الملحق المرفق به، ومن بين هذه الميليشيا: منظمة بدر، وحزب الدعوة، وحزب الله فرع العراق، وهي الميليشيات التي تعمل اليوم بشكل صريح ضمن الحشد الشعبي!
ورث الدكتور حيدر العبادي، الذي منحت حكومته الثقة في 8 أيلول/ سبتمبر 2014 هذا الملف، و تضمن برنامجه الحكومي فقرة تتعلق بهذا الموضوع حيث نص على «تطوير تجربة الحشد الشعبي والعمل على جعلها ذات بعد وطني مقنن يخدم عملية المصالحة الوطنية، وذلك بتشكيل منظومة الحرس الوطني من أبناء كل محافظة كقوة رديفة للجيش والشرطة لها مهام محددة» وبذلك اقتضى هذا التطوير انشاء الحرس الوطني الذي يشكله ابناء المناطق التي احتلها داعش، وقد حددت وثيقة الإتفاق السياسي، التي كانت جزءا من البرنامج الحكومي، مدة 3 أشهر لتشريع القانون الخاص بالحرس الوطني، ولكن هذا الموضوع تم تسويفه، خاصة بعد أن أصبحت هذه الميليشيات أمرا واقعا، فلم يتم أقرار هذا القانون بعد أكثر من 22 شهرا من عمر الحكومة.
لعل الخطر الاكبر الذي تمثله الميليشيات اليوم في العراق، انها من الناحية العقائدية لا تقلد المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، ومن ثم فهي ليست ملزمة بطاعة ما يصدر عنه. فالقوى الفاعلة والأكثر نفوذا وتأثيرا في هذه الميليشيات تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه (المعروفة بمقولة الولي الفقيه)، وبالتالي فهي من الناحية العقائدية ملزمة بطاعة السيد الخامنئي بوصفه وليا للإمام الغائب. وهذا يعني ان لا سلطة حقيقية للقائد العام للقوات المسلحة، على هذه المليشيات.
وهذه الحقيقة تجعل مفاتيح اللعبة برمتها مرهونة بالموقف الإيراني، خاصة في ظل الانقسام الشيعي الشيعي الذي بدأ على شكل صراع بين المالكي وقادة الميليشيات من جهة، والعبادي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم إلى حد ما. وانتهى إلى انقسام حاد أكثر تشظيا انعكس في ازمة مجلس النواب في الشهر الماضي. وقد أخذت الميليشيات تنتشر بسرعة كبيرة، وتحظى في الوقت نفسه بثقة الجمهور الشيعي، خاصة في ظل التحشيد الطائفي الذي يمارس على نطاق واسع. والخطير هنا ان ثمة محاولة فاشية منهجية لتصوير هذه الميليشيات على انها الأمل الوحيد المتاح، وأنها البديل العقائدي الموثوق به على حساب الجيش العراقي، وأن أي نقد لها هو خيانة واصطفاف مع «داعش».
لقد كشفت المعارك التي خاضتها هذه المليشيات، ان ثمة صراعا علنيا بين مقاربتين؛ مقاربة إيرانية أداتها المليشيات المرتبطة عضويا بالحرس الثوري الإيراني تقوم على فرض الهيمنة بالقوة المفرطة القائمة على أسس طائفية، ومقاربة أمريكية تقوم على ضرورة القيام بإصلاح سياسي بموازاة العمل العسكري، وعلى ضرورة ان يكون للقوى المحلية الدور الأكبر في هذه العملية. كما كشفت عن وجود مؤشرات واضحة على وجود اختلافات حقيقية بين رؤية المؤسسة العسكرية العراقية، وبين رؤية الميليشيات حول طبيعة المعركة، تحديدا فيما يتعلق بالموقف من التحالف الدولي ودعمه الجوي من جهة، وخطط المعركة وتوقيتاتها من جهة أخرى.
ولكن معارك الانبار الأخيرة كشفت عن تغيير في الاستراتيجية الأمريكية لهزيمة تنظيم الدولة/ داعش؛ فبعد إصرار الولايات المتحدة على إبعاد الميليشيات من المشاركة في معارك استعادة الانبار والموصل، والذي تحقق عمليا بمنعها من المشاركة في استعادة الرمادي وهيت والرطبة، وجدنا مرونة أمريكية في مشاركة هذه الميليشيات في معركة الفلوجة، ظهر ذلك في الدعم الجوي الذي وفره الطيران الأمريكي لهذه الميليشيات، بموازاة دعم أمريكي صريح لمقاتلي الجبهة الديمقراطية الكردية في معارك شمال حلب! وهو ما يشير إلى تغير السياسة الأمريكية ورغبتها في التعاون مع أي طرف قادر على مواجهة تنظيم الدولة/ داعش، بمعزل عن ملف حقوق الإنسان، وبمعزل عن النتائج الكارثية التي سينتجها هذا التعاون على الاستقرار والأمن في كل من العراق وسوريا في مرحلة ما بعد داعش.
لقد استطاعت المليشيات، التي تشكل اليوم بنية عسكرية موازية للجيش العراقي، بل تشكل بنية موازية للدولة نفسها، أن تفرض إرادتها عبر الغطاء السياسي المقدم لها داخليا، والتواطؤ الدولي، من الولايات المتحدة بشكل رئيسي، أن تفرض نفسها فاعلا مهيمنا في جميع المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة/ داعش، وهي تريد فرض الامر الواقع بالقوة، والانتهاكات التي ارتكبتها هذه الميليشيات، والتي وصفتها لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بأنها جرائم ضد الإنسانية ترقى لأن تكون جرائم حرب، ما هي إلا أداة لفرض هذه الهيمنة بالقوة.
يحيى الكبيسي
صحيفة القدس العربي