ما إن ودعت البشرية القرن العشرين بما كان يحمله من أيديولوجيات وأفكار علمانية كانت هي الأبرز في سياق منظومته الثقافية، حتى استقبل العراقيون في مطلع القرن الحادي والعشرين زعماء الإسلام السياسي بما حمله هؤلاء من مشروع ضبابي لم يحمل بين طياته سوى وعود وردية لشعب عانى كثيرا من ويلات الحروب، وليُختزلَ وجوده الإنساني بمساحة ضيقة جدا علامتها حضور شاحب في المشهد الإنساني.
لم يكن في حسبان غالبية العراقيين أن لهذه الزعامات أجندات فيها من الأفكار والتوجهات الطائفية ما يدفعها إلى أن تحرق كل شيء يقف أمامها لمجرد أنه ينتمي إلى النظام السياسي السابق فقط، ولتعود بذلك عجلة التاريخ إلى الوراء وليسقط المجتمع، بعد أن أصبح أسيرَ مظاهر التدين الزائف والمزيّف لجوهر الدين، في إشكالية ثنائية تتمحور في دائرة الماضي الحي والمستقبل الميت. وهذا ما كان قد أشار إليه فارس كمال نظمي في كتابه المعنون “الأسلمة السياسية في العراق” والذي قال فيه “لعل أهم ما تميزت به هذه الهوية الإسلاموية بشقيها الطائفيين (السني والشيعي) أنها أعادت إلى الصدارة الفكرية من جديد إشكالية “الجوهر والمظهر بكل عمقها الثقافي والفلسفي والنفسي وبكل تمظهراتها الثنائية؛ الغريزة والعقل، والهدمية والبنائية، والفساد والنزاهة، والاغتراب والحرية، والماضي الحي والمستقبل الميت.
لو أن حقد الإسلاميين قد اقتصر على تلك القوانين التي كانت تحد من حرية العراقيين عندها ستبدو إجراءاتهم مقبولة مهما كانت متطرفة، إلاّ أن المسألة تعدّت ذلك بكثير لتطال قوانين تحمل في محتواها بعدا إنسانيا ولا يمكن الاختلاف فيها حتى لو كان بعضنا يحمل في داخله موقفا متصلبا ضد النظام السابق، لأن فائدتها لم تكن تقتصر على شريحة محدودة من المواطنين بقدر ما كانت تشمل عموم العراقيين وفي مقدمتهم الأغلبية الفقيرة.
وكما يبدو فإن طبقة اللاهوت السياسي الحاكمة في العراق بعد أن أتخمها المال الحرام فقدت حواسها الإنسانية وأمست كائنات صماء لم تعد قادرة على التمييز ما بين قرار يجلب إليها النعمة وقرار يسلط عليها نقمة مواطنيها.
أجندات الزعامات الدينية في العراق فيها من الأفكار والتوجهات الطائفية ما يدفعها إلى أن تحرق كل شيء يقف أمامها
تهديم العقل العراقي
من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الدعوة التي وجهها النائب علي الأديب أحد أبرز قيادات حزب الدعوة الحاكم ورئيس كتلة دولة القانون في البرلمان العراقي في منتصف شهر يوليو من هذا العام والتي طالب فيها بإلغاء قرار مجانية التعليم الذي سبق أن أصدره مجلس قيادة الثورة المنحل عام 1976. وإذا ما كان النظام السابق قد أخطأ في قرارات كثيرة إلا أنه كان صائبا جدا في هذا القرار لأنه منح العراقيين فرصة متساوية في التعليم، وربما كان قرار مجانية التعليم الأكثر عدالة في تاريخ الدولة العراقية. فلماذا إذن يستكثر السيد علي الأديب على العراقيين أن ينالوا حقهم في التعليم، وكيف يمكن أن تستقيم هذه الرغبة مع منصب وزير التعليم الذي كان قد شغله في الفترة الممتدة بين 2010 و2014؟
ولأجل تمرير دعوته، كان لا بد أن يسندها بذريعة تبدو ظاهريا معقولة فكانت حجته بأن الطالب يكلف الدولة 13 مليون دينار في السنة الواحدة، متجاهلا بذلك المبلغ الكبير الذي يستنزفه النائب الواحد من خزينة الدولة.
ومعلوم لدى من يتابع الشأن العراقي أن متوسط الراتب الشهري لعضو البرلمان يصل إلى 1500 دولار، وسيكون مجموع المبلغ السنوي 180 ألف دولار وبذلك سيصل ما يستنزفه سنويا 325 نائبا من المال العام إلى أكثر من 58 مليون دولار، فهل من الإنصاف أن تتم المقارنة ما بين هذا الرقم وبين 13 مليون دينار؟
من المستبعد جدا عندما طرح السيد الأديب دعوته أن تكون الحقائق قد التبست عليه لسبب ما، أو أن وعيه كان يمر في تلك اللحظة بحالة من الغيبوبة، نظرا لما يتسم به من دهاء يفتقده الكثير من زملائه وهذا ما أهله لأن يتسلم أرفع المواقع القيادية في حزب الدعوة منذ فترة بعيدة.
فبالإضافة إلى كونه النائب الأول للأمين العام للحزب نوري المالكي تولى أمانة المكتب السياسي من بعد وصوله إلى إيران عام 1980 ويعد في نظر الكثيرين منظّر الحزب وزعيمه الروحي، ومع ذلك فهو يدرك جيدا أن الأموال التي تنفقها الدولة على الطالب العراقي لا تعد خسارة، إنما هي استثمار كبير في الطاقة البشرية، ستتحول إلى رأسمال متراكم من العقول التي ستساهم في بناء البلد.
وفيما لو أجريت مقارنة منصفة وحيادية ما بين الصرح العلمي الذي بنته أجيال التعليم المجاني منذ العام 1976 وحتى العام 2003، والحضيض الطائفي الذي سقط فيه العراق أرضا وشعبا ودولة فإنها ستخرج بنتيجة ليست في صالح نظام اللاهوت السياسي في العراق.
لماذا يصر كهنة النظام الجديد على أن يستغبوا العراقيين ويعاملوهم على أنهم كائنات من الدرجة الثالثة ينقصها العقل فلا تقوى على التمييز بين خيارات لصالحها وأخرى تضرها؟ حتى أنهم لا يجدون حرجا عندما يطلقون مثل هذه الدعوات المخجلة، والتي إن دلت على شيء إنما تدل على أن من كانوا في يوم ما دعاة للنضال والدفاع عن مظلومية الفقراء قد وصلوا اليوم إلى مرحلة بائسة من الإفلاس القيمي. وإلاّ لماذا يستكثرون على الدولة أن تنهض بواجبها إزاء عامة المواطنين عندما تمنحهم حقهم في التعليم؟
لماذا يصر كهنة النظام الجديد على أن يستغبوا العراقيين ويعاملوهم على أنهم كائنات من الدرجة الثالثة ينقصها العقل فلا تقوى على التمييز بين خيارات لصالحها وأخرى تضرها؟
فساد بغطاء ديني
الدعوة التي يقف خلفها حزب الدعوة الحاكم بما تحمله من رؤية دونية لمفهوم العدالة الاجتماعية تهدف في جوهرها إلى تمهيد الطريق واسعا لطبقة الأثرياء الجدد من ساسة أحزاب السلطة الذين لم يكتفوا بنهب ثروات العراق وتحطيم أحلام الشباب العراقي، فاتجهت شهواتهم المريضة إلى تدمير المؤسسات التعليمية التي ترعاها الدولة وفي مقدمتها الجامعات، وذلك عبر جملة من القرارات تبدأ بالسيطرة عليها لتنتهي بخصخصتها، وصولا إلى مبتغاهم الذي يعكس أنانيتهم وجشعهم في أن تنعدم الخيارات أمام الطلبة ولا يبقى أمامهم سوى خيار التسجيل في الكليات الخاصة التي أنشأوها لحسابهم الخاص في معظم المحافظات. وبما أن كلفة الدراسة السنوية في هذه الكليات مرتفعة جدا لا يستطيع أغلب الطلبة تحمل أعبائها، فهذا يعني حرمانهم من فرصة إكمال دراستهم الجامعية، وليلتحقوا بالتالي بجيش المهمشين والمحرومين والعاطلين عن الحياة والعمل، أو ينخرطوا في صفوف الميليشيات الطائفية أو التنظيمات الإرهابية وهو الخيار الأقرب إلى التحقيق رغم أنه الأسوأ لمستقبل العراق.
ما يبعث على الغرابة أن ساسة العراق ورغم أنهم قضوا شطرا كبيرا من حياتهم بصفة لاجئين سياسيين في المنافي الأوروبية وأميركا إلاّ أنهم وعلى ما يبدو كانوا يعيشون عزلة وانفصالا روحيا عن ثقافة تلك المجتمعات بكل ما فيها من مخزون حضاري، وإلاّ ما معنى أن تكون منظومتهم الفكرية على هذه الدرجة من الكارثية إزاء العلم والمعرفة والتمدن، حتى مسخت أضاليلهم ودعايتهم الطائفية البنية الاجتماعية للمدن الكبرى وفي مقدمتها العاصمة بغداد، وأمست نسخة مكبرة عن بنية المجتمع القروي الذي جاءوا منه، ذلك لأنهم لا يشعرون بالتقاطع معه، لذا لم يتمردوا عليه بل على العكس تمترسوا فيه ضد كل أشكال التحديث والتمدن وبذلوا كل ما في وسعهم لقولبة المدن وفق نمطية مرجعياتهم بروافدها القروية والقبلية والطائفية.
مروان ياسين الدليمي
صحيفة العرب اللندنية