أقابل من الأجانب مسؤولين وإعلاميين كثيرين، معظمهم لا يتركني قبل أن يسأل عن الخريطة التي أفضلها على غيرها من الخرائط المطروحة حالياً لشرق أوسط جديد. يفترضون أنني كعربي لا بد من أن لدي خريطتي المفضلة، أو على الأقل اطلعت عليها ولا أتوقف مع غيري من المحللين السياسيين عن مناقشتها وجذب انتباه الرأي العام إليها. يعرفون أننا نعيش في الإقليم على خرائط لم نرسمها، وأن الموضوع بأسره خارج حيز اهتمامات المسؤولين والإعلاميين في بلادنا.
كنا نبالغ في الحديث عن اهتمام الغرب بقضية رسم تقسيم جديد للشرق الأوسط. الآن لا نبالغ إذا قلنا إنهم على رغم التردي في كفاءة أجهزة صنع السياسة هناك فقد بدأوا ولأسباب غير قليلة العدد يناقشون مستقبل الشرق الأوسط. قيل لي، بين كثير مما قيل، إن أحد أهم الأسباب هو الاقتناع بأن العرب أنفسهم لا يبدون الاهتمام الكافي بالموضوع على رغم إلحاحه وخطورته على أمنهم الإقليمي وعلى نسيج مجتمعاتهم ومصير الطبقات الحاكمة. هذه اللامبالاة العربية تنذر بأخطار رهيبة، لأنها تعني أن العرب يعتزمون عند الأزمة التخلص من المسؤولية بإلقاء القضية بأسرها في حجر المجتمع الدولي.
يدركون في عواصم الغرب أن رسم خريطة جديدة ناجعة للشرق الأوسط تقف دونه عقبات عدة، أهمها إلى جانب عدم قدرة أجهزة الغرب على رسم خريطة تحظى برضاء غالبية الدول الكبرى كافة، أو أكثرها على الأقل. هناك هيمنة مسألة الإرهاب العابر للحدود الذي تتعدد مصادره من البشر والسلاح والمال لفترة قد تطول. هناك أيضاً عجز الرؤى العربية عن استيعاب خطورة القضية أو التكاسل الفظيع في التعامل معها، حتى بدا العرب وكأنهم يدعون العالم الخارجي إلى فرض تقسيم جديد يفاجأون به ذات صباح فيقبلون به متذرعين بفكرة المؤامرة الدولية التي تتربص بالأمة العربية. من ناحية ثالثة، يعرفون في الغرب وفي موسكو وطهران وأنقرة، أن وضع الإقليم لا يسمح بمجازفات أو تجارب بينما أقطاره تموج بحركة سكان لم يشهد الإقليم مثيلاً لها في العصر الحديث، أضف إلى كثافة عدد المهاجرين واللاجئين المتنقلين عبر الحدود مسببين حالاً من الفوضى وسوء الإدارة وانتشار الفساد والجريمة.
أتصور على ضوء هذه الاعتبارات أن الدول الكبرى ستستمر في التهرب من وضع خريطة بعينها موضع التنفيذ إلا إذا تيقنت من أن الأنظمة الحاكمة العربية غير مستعدة للتعامل بجدية وحكمة مع هذه القضية التي إن تركت من دون تدخل ستنتهي إلى تقسيم تفرضه الشعوب بنفسها وترسم حدوده بأقدامها.
أسأل نفسي وغيري من المهتمين بالخروج من الورطة المقيمة الآن في الإقليم. أسأل إن كان حالنا تختلف عن حال جدودنا الذين عاصروا التقسيم الأول في سياق توزيع التركة العثمانية. من ناحية الشكل يبدو أن العرب مستسلمون للتقسيم القادم استسلامهم للتقسيم السابق. لا أرى اختلافاً يذكر. أرى عرب هذه الأيام، وهم بحكم التعريف والواقع أهل الاختصاص بالدرجة الأولى في هذه القضية، لا يلعبون دوراً أو يلوحون بآخر. أراهم لا يبدون ولو رغبة أو استمساكاً بعقيدة تحرم عليهم تغيير الخريطة الراهنة حتى بعد أن بهتت ألوانها وتمزقت أطرافها وتعددت الثقوب في قلبها. أراهم من دون القوة المادية والعسكرية اللازمة لحماية خريطتهم البالية أو تمكينهم من رسم خريطة جديدة. أكاد أجد العذر لعرب مطلع القرن العشرين الذين لم يهتموا بعرقلة أو تشجيع مفاوضات التقسيم الذي حظي بشهرة صائغيه سايكس وبيكو، إذ لم تكن لديهم قبل حلول سايكس وبيكو خريطة تحمل توقيعهم أو إقليم يشرف برفع راياتهم ويلقب بألقابهم ويسمى في الخرائط العالمية باسمهم. أعذرهم إذ لم تكن لديهم جامعة عربية هدفها تنظيم صفوفهم وتنسيق تجارتهم وخطط تنميتهم والتقدم بمبادرات من النوع الذي نناقشه هنا.
لا أحد في الجامعة العربية التي تجمع عرب القرن الحادي والعشرين، لا أحد، وأقصد تحديداً مجلس الجامعة على مستوى القمة يستطيع إنكار حقيقة أن الخريطة التي يجتمع باسمها تطل عليهم، كما أطلت عليهم في القمة السابعة والعشرين، وقد اهترأت بفعل الزمن جوانب منها وتآكلت بفعل سوس الفساد والإرهاب والطائفية جوانب أخرى. لعل القادة العرب تنبهوا لحال أمتهم وخريطتها السياسية وهم يقيمون أعمال قمتهم الأخيرة. أظن أنهم لا بد وقد تأكدوا من أن الخريطة بوضعها الراهن أصبحت تسيء إلى مكانتهم بين قادة الأمم الأخرى.
تأكدوا ولا شك من مصادرهم في أنقرة وطهران وعواصم الغرب وموسكو وربما بكين أن مراكز عصف فكري ودراسات متقدمة منكفئة الآن على رسم خرائط تتناسب وواقع الحال في الشرق الأوسط، خرائط تراعي مطالب وطموحات أقليات لم تكن مسيسة وتسيست، خرائط تأخذ في اعتبارها نوايا لم تكن يوماً بين أولويات العقيدة السياسية ومنها النية في إعادة الاعتبار إلى الطائفة والقبيلة والعرق والعنصر والثروة.
هناك أيضاً من يحاول رسم خرائط تخدم أحلاماً وطموحات بعينها، منها خريطة الدولة الإسلامية الواحدة. منها كذلك خرائط تستلهم الاستشراق في رسمها وتنفيذها، وهناك فيما أتصور خرائط لإقليم كانت له سمات معينة قبل أن يتعرض كغيره من أقاليم العالم لتحولات عظمى بتأثير تطورين مهمين، أولهما العولمة التي صنعت عالماً مختلفاً وفجرت ثورة في الهويات والانتماءات وفوضى في الولاءات. وثانيهما ثورة الربيع التي هزت الشرق الأوسط إلى الأعماق، وبخاصة حين أطلقت العنان لردود فعل انتقامية وعنيفة، كانت في حد ذاتها عنصراً من عناصر التغيير «الثوري» الذي حل بدول عربية وغير عربية عدة خلال السنوات الخمس الماضية وأسهم في الحاجة إلى رسم خرائط اجتماعية وسياسية جديدة.
أعتقد أنه لا توجد قضية راهنة في الشرق الأوسط تستحق عقد قمة عربية استثنائية أكثر من الحاجة الماسة لخريطة جديدة للمنطقة يرسمها قادة وسياسيون ومفكرون عرب ومراكز بحث عربية، لتحل محل الخريطة المنتهية صلاحيتها والمسماة خريطة سايكس بيكو. أمامنا فرصة تاريخية لنرسم بأنفسنا ولأنفسنا – وللمرة الأولى – خريطة المستقبل.
جميل مطر
*نقلا عن صحيفة الحياة