تشهد العلاقات الأمريكية-السعودية توترات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة على خلفية الاتفاق النووي الإيراني الذي عزز من النفوذ الإقليمي لإيران، والموقف الأمريكي من الأزمة السورية وثورات الربيع العربي، والانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، وانتقادات الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” لسجل المملكة في ملف حقوق المرأة؛ بما يدفع للتساؤل عما إذا كانت هذه العلاقات تمر بمرحلة تحول تنتهي معها الركائز الأساسية للعلاقات بين البلدين ليتم بناء أسس جديدة لها، أم أن الأمر يحتاج إلى إدارة أفضل لهذه العلاقات؟.
وفي هذا الإطار، تأتي أهمية المقالة التي نشرتها مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs في عددها الأخير (يوليو/أغسطس) بعنوان “مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية: المملكة والسلطة” لأستاذ الشئون الدولية بكلية بوش للخدمات الحكومية والعامة بجامعة تكساس جريجوري جوس الثالث F. Gregory Gause III. وتقدم الدراسة شرحًا لمسار العلاقات الأمريكية-السعودية، وتطرح رؤية لمستقبل تلك العلاقات.
الوضع الراهن للعلاقات:
على الرغم من تراجع أهمية العديد من الركائز الأساسية التي تأسست عليها العلاقات الأمريكية-السعودية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن ثمة مؤشرات توضح أن العلاقات بين البلدين لا تزال مهمة لطرفيها، والتي ترجمتها زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل نهاية فترته الرئاسية إلى الرياض في أبريل الماضي لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي، والتي كرر فيها التزامه بأمن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. فضلا عن استمرار بيع الولايات المتحدة الأمريكية كميات كبيرة من الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، واستمرار التعاون الاستخباراتي بين البلدين.
تناول جوس في مقالته أسس العلاقات الأمريكية-السعودية التي ترجع إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية؛ حيث برزت أهمية النفط السعودي كسلعة استراتيجية. فمن ناحية شعر المخططون العسكريون الأمريكيون بالقلق حول الوصول للنفط في أي صراع مستقبلي، ومن ناحية أخرى كان الحصول على الطاقة الرخيصة عنصرًا ضروريًّا للخطط الأمريكية لإعادة بناء الاقتصاديات المدمرة في أوروبا الغربية واليابان، ومن هنا كان الاتجاه إلى السعودية التي تحوز احتياطيات هائلة من هذه السلعة الاستراتيجية. ومن جانبها، أدركت الرياض أن القوة البريطانية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، قد انحسرت، وأن لديها الكثير من القواسم المشتركة مع واشنطن.
ويُشير الكاتب إلى أن العلاقات بين البلدين قد شابتها اختلافات عدة حول مواقفهما من القضايا العربية-الإسرائيلية طيلة الفترة التي أعقبت نشوء العلاقات بينهما، وهو ما وضح جليًّا بحظر النفط السعودي خلال حرب أكتوبر عام 1973، بيد أن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المشتركة كانت المحك في الحفاظ على العلاقات بين البلدين طيلة هذه الفترة.
تشارك المصالح واختلاف الأولويات:
يوضح جوس أن الوضع الحالي الحاكم لطبيعة العلاقات الأمريكية-السعودية يمكن توصيفه بأنه “تشارك المصالح في ظل اختلاف الأولويات”. وعن أولويات الإدارة الأمريكية بالمنطقة أشارت المقالة إلى أن الأولوية الرئيسية لإدارة أوباما هي تدمير الجماعات الجهادية السلفية بما في ذلك تنظيما داعش والقاعدة، وتأتي في المرتبة الثانية أولوية الحد من قدرة إيران على تطوير سلاح نووي، وهو الهدف الذي حققه الاتفاق النووي الأخير بين إيران ومجموعة (5+1). ويضيف جوس أن الإدارة الأمريكية تعطى اهتمامًا أقل للأهداف الإقليمية الأخرى، فقد تعثرت جهود الإدارة للانطلاق في عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية، وكذلك في سوريا رغم أن الإدارة نادت مرارًا بأن على حكومة بشار الأسد أن تتنحى كجزء من تسوية الحرب الأهلية عن طريق التفاوض، لكنها لم تفعل شيئًا يُذكر لتحقيق ذلك.
وعلى النقيض من ذلك تأتي أولويات المملكة العربية السعودية، حيث يشير الكاتب إلى أنه رغم ندرة نشر المسئولين السعوديين استراتيجيات الأمن القومي للمملكة، إلا أن السياسات التي تتبناها المملكة توضح أولوياتها القصوى، والتي تتمثل في القضاء على النفوذ الإيراني بالمنطقة. لذا يقول جوس إنه كان من الطبيعي أن نجد المملكة العربية السعودية توجه مواردها المالية والاستخباراتية والدبلوماسية ليس في المقام الأول ضد داعش، ولكن ضد نظام الأسد الموالي للنظام الإيراني. كما أن سلاح الجو السعودي الذي انضم إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم داعش منذ عام 2014 قد حول اهتمامه لاستهداف المتمردين المدعومين من إيران في اليمن.
واختلاف الأولويات الأمريكية والسعودية دفع البعض داخل المملكة العربية السعودية -كما يطرح المؤلف- إلى التشكك في مصداقية أوباما، وطرح تساؤلات حول ما إذا قررت الإدارة الأمريكية دعم إيران الشيعية سرًّا على حساب حلفاء الولايات المتحدة التقليديين من السنة.
ويوضح المقال أن التركيز السعودي على محاصرة النفوذ الإقليمي لإيران يفسر تدخلهما في اليمن، التي يراها كل منهما أنها داخل حدود نفوذه. ويضيف: على الرغم من أن شيعة اليمن ينتمون إلى الطائفة الزيدية، التي تمارس نوعًا مختلفًا من التشيع عن النموذج الإيراني، إلا أن هذا لا ينفي الدعم المحدود الذي تلقته جماعة الحوثيين من إيران منذ ظهورها في العقد الأول من القرن الحالي، وهو ما يدفع السعوديين إلى اعتبار نمو قوة الحوثيين في اليمن جزءًا من الجهود الإيرانية للسيطرة على العالم العربي وتطويق المملكة.
الحاجة إلى مزيدٍ من التعاون:
ركّز المقال على القضية المركزية لتوتر العلاقات الأمريكية-السعودية، والتي عبر عنها الرئيس أوباما خلال حواره مع مجلة “أتلانتك”، والتي تتخلص في أن المملكة العربية السعودية هي المسئولة عن انتشار الأفكار الوهابية خارج أراضي الجزيرة العربية. ويشير الكاتب إلى انتشار تلك الرؤية بين العديد من الأمريكيين. وهنا يشير إلى تصريح للسيناتور الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت “كريس ميرفي” في يناير الماضي بأن تنظيم داعش مَثَّلَ انحرافًا عن الإسلام، وتمتد جذور هذا الانحراف في جزء كبير منها إلى تعاليم الوهابية، ومن هنا نادى واشنطن بإنهاء موافقتها على التصدير السعودي للإسلام المتعصب، على حد قول المشرع الأمريكي.
ويرى الكاتب أن وجهة نظر ميرفي ضد المملكة لها ما يبررها، ويدلل على ذلك بأن تنظيمي داعش والقاعدة يتشاركان عددًا من الأفكار الوهابية، خاصة المتعلقة بدور الإسلام في الحياة العامة. لكنه يوضح أيضًا أن حجة ميرفي قد أغفلت حقيقة هامة تمتد جذورها إلى فترة الجهاد ضد السوفيت في أفغانستان، فرغم أن كلا من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية دعمتا تحول الحركات السلفية إلى حركات ثورية، إلا أن القاعدة وداعش خرجتا من رحم تلك الحركات. وليس من الخفي أن كلا من التنظيمين يتعاملان مع المملكة بكراهية، وذلك بسبب العلاقات التي تجمع الرياض بواشنطن، إلى جانب عدم رضاهما عن الإدانات المستمرة من رجال الدين السعوديين لهذه الجماعات باعتبارها منحرفة عن المسار الصحيح.
وانطلاقًا من ذلك يؤكد جوس أن أي ضغوط أمريكية على السعوديين لن تؤدي إلى تغيير مسار السلفية الجهادية؛ لأن الحركة الأيديولوجية حاليًّا مستقلة عن السيطرة السعودية، فضلا عن كون هذه الأسباب مجتمعة تجعل من العمل مع السعودية لقتال تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما من التنظيمات المماثلة أكثر فاعلية من نبذ المملكة، وهو ما يحدث فعليًّا، فثمة أشكال واسعة للتعاون بين وكالات الاستخبارات الأمريكية مع الرياض، والتي أحرزت تقدمًا هائلا، منها في عام 2010 عندما أعلنت الاستخبارات السعودية إحباط مخطط لإرسال متفجرات من اليمن إلى الولايات المتحدة عبر البريد.
تحالفات تجاوزت الهدف:
يُشير المنتقدون إلى أن الارتفاع في إنتاج النفط الصخري الأمريكي، إنما يُشكل دليلا على أن التحالف الأمريكي-السعودي تجاوز هدفه. وهنا يوضح الكاتب أن الروابط بين البلدين لن تتوقف أبدًا عند وصول الأمريكيين للنفط السعودي، وإن كان هذا أيضًا لا يتنافى مع أهمية النفط السعودي في السوق العالمية، فالخليج العربي لا يزال ينتج حوالي 30% من النفط العالمي، وتستأثر المملكة بأكثر من ثلث هذا الناتج، أي لا يوجد بلد آخر يسيطر على سوق النفط بشكل كبير، وهذا ما يفسر لماذا لا تزال واشنطن بحاجة إلى الرياض.
ويعتبر الكاتب أن ما يقف عقبة للحفاظ على علاقات الولايات المتحدة مع الحكومة السعودية، يتمثل في كيفية التعامل مع هشاشة النظام المفترضة، فوفقًا له يتوقع عدد قليل جدًّا من المحللين بأن عائلة آل سعود أكثر عرضة للسقوط في وقت قريب، بيد أن العديد منهم يشير إلى مشاكل كثيرة داخل المملكة، بما يدفع للتساؤل عما إذا كانت واشنطن تأخذ احتمال تداعي النظام على محمل أكثر جدية.
وفي هذا الصدد، أشار الكاتب إلى وصف جون هانا، الذي كان يعمل مستشارًا للأمن القومي لنائب الرئيس ديك تشيني، في أكتوبر الماضي، كيف أن المزيج بين انخفاض أسعار النفط والتوترات داخل الأسرة الحاكمة السعودية والأزمات الإقليمية، يمكن أن تتجمع لتشكل معًا عاصفة كبرى تزيد من مخاطر عدم الاستقرار داخل المملكة.
وتذهب المقالة إلى أن المملكة بلا شك تواجه بعض المشاكل الخطيرة، منها أن المملكة لا تزال تعتمد بصورة رئيسية على النفط في الوقت الذي تراجعت فيه أسعاره. كما يشير المتشائمون إلى أن النظام الملكي يمر بمرحلة “انتقال قيادة مضطربة”، حيث يرى الكاتب أن قرار الملك سلمان بتركيز السلطة في أيدي اثنين فقط من أفراد الأسرة (محمد بن نايف ومحمد بن سلمان) أدى إلى تذمر بين أبناء العمومة الآخرين، لكنه يرى أنه حتى الآن لا توجد دلائل على وجود عداء خطير في أوساط الأسرة الحاكمة.
مستقبل العلاقات الأمريكية-السعودية:
عن مستقبل العلاقات الأمريكية-السعودية أوضحت المقالة أنها تتلخص في أن الولايات المتحدة من الصعب أن تنأى بنفسها عن واحدة من عدد قليل من الدول العربية التي لا تزال قادرة على حكم نفسها، والتأثير على الأحداث في منطقة تسودها الفوضى، بحيث تساعد في تشكيل المعارك السياسية التي تحدد مستقبل تلك المنطقة، خاصةً وأن الرياض تُشارك أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة بشكل أكبر مقارنةً بفاعل إقليمي آخر كإيران.
ويُضيف جوس أن تعزيز العلاقات الأمريكية-السعودية لا يحتاج إلى أسس جديدة بقدر الحاجة إلى إدارة أفضل؛ حيث يتحتم على واشنطن أن تُعيد التأكيد على أهمية العلاقات الأمنية بين البلدين، وتنمية التعاون حول القضايا الهامة مثل مكافحة الإرهاب. وفيما يتعلق بالاتفاق حول القضايا الإقليمية، يرى الكاتب أن واشنطن استخدمت نفوذها للضغط على الرياض للبحث عن طريق للخروج من الأزمة اليمنية، وكانت زيارة وفد الحوثيين للسعودية في أبريل 2016 إشارة إلى أن المملكة لن تُعارض الحل السياسي للأزمة.
ويُوضح الكاتب أن تقديم واشنطن الأسلحة الأمريكية والتدريب العسكري الذي تحتاجه المملكة، يجب أن يتم بالطريقة التي تدفع السعوديين نحو علاقة أكثر ملاءمةً مع الحكومة العراقية. فرغم أن السعودية أعادت مؤخرًا سفارتها في بغداد، إلا أنها رفضت تقديم أي دعم ملموس -سواء كان سياسيًّا أو دبلوماسيًّا أو ماليًّا- لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي فشلت جهوده لبناء حكومة عراقية أقل اعتمادًا على إيران.
كما تُشير المقالة إلى أن أي جهود أمريكية للتوسط بين الرياض وطهران، وأية دعوات للمملكة للتوصل لاتفاق مع إيران ستُفسر على أنها محاولة لتعزيز المكاسب الإيرانية على حساب السعودية وحلفائها. ولكن يظل انهيار أسعار النفط يُمثل دافعًا للرياض وطهران للجلوس إلى طاولة المفاوضات بقوة العام المقبل.
وختامًا، ينتهي الكاتب إلى أنه في ظل حالة عدم الاستقرار المستمرة في الشرق الأوسط، والتي لا يلوح في الأفق أي انفراجة لها؛ سيكون من عدم الكياسة أن تضحي الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات استراتيجية مع حليف تقليدي ذي ثقل إقليمي مثل المملكة العربية السعودية.
إف. جريجوري جوس
رئيس قسم الشئون الدولية بجامعة تكساس
المصدر:
F. Gregory Gause III، The Future of U.S.-Saudi Relations: The Kingdom and the Power، foreign affairs، July/August 2016، Pp 114 – 126.
عرض : وفاء ريحان
نقلا عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية