أثار إخفاق دي ميستورا في تحديد موعد جديد لاستمرار مفاوضات جنيف بين النظام والمعارضة، واضطراره، بعد زيارات متكررة للعواصم الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري، إلى إلغاء أو تأجيل المواعيد الافتراضية للإقلاع بهذه المفاوضات، حزمةً من التساؤلات حول جدوى خطة الطريق الأممية لوقف العنف في سورية وجديتها في وضع الصراع الدموي على سكة المعالجة السياسية.
هل يعود الفشل إلى تراجع التوافق الأميركي مع روسيا والذي من دونه ما كان لبيانات جنيف وفيينا وما تلاها من مؤتمرات أن ترى النور؟ أم إلى حالة الركود التي تشهدها السياسة الخارجية الأميركية وقد زادها ركوداً اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ما سمح عملياً بتعزيز تنصل واشنطن من الملف السوري وإطلاق يد موسكو لاستثمار ذلك الوقت الضائع؟! أم إلى تريث أميركي مزمن في دعم تغيير حقيقي في سورية، ربطاً بغياب بديل قادر على إقناع العالم ونيل ثقته كطرف مؤهل لقيادة مرحلة انتقالية تحافظ على وحدة البلاد وتقيها استمرار الفوضى وتؤسس لعلاقة جديدة بين السلطة والدولة والمجتمع؟!
أم يعود الفشل، كما يذهب أصحاب العقل التآمري، إلى وجود توافق خفي أو خطة مضمرة بين واشنطن وموسكو لاستمرار الصراع السوري وليس لوأده؟! ويستدركون، كيف نفسر التنازلات الأميركية المتكرر لمصلحة الاشتراطات الروسية؟! وألا يدل تنسيق الضربات الجوية والتصريحات الأميركية المريبة تجاه ما يجرى من تصعيد عسكري في مدينتي حلب وإدلب على تعاون جدي مع روسيا للنيل من المنظمات الجهادية هناك وممن يحسب عليها؟! ولم لا يفسر ادعاء واشنطن بانشغالها في الانتخابات الرئاسية كمحاولة لاستمرار هروبها من دور إيجابي وفعال لوقف العنف السوري؟!
وفي المقابل يسأل آخرون، ألا يصح اعتبار تجميد المفاوضات السورية وقفة اضطرارية خلقها تبدل سياسات بعض الجهات الإقليمية والدولية؟ مشيرين من هذه القناة، مرة أولى، إلى تراجع موقف الحكومة التركية من الصراع السوري، بعد انفتاحها على روسيا وإيران، ليقترب من حسابات الكرملين وطهران وإن لم يتطابق معها، يعززه تحسب أنقرة من دور غربي مناهض لمشروع أردوغان الإسلامي بعد الانقلاب العسكري الفاشل، ومرة ثانية، إلى تنامي أفكار أوروبية جديدة خلقها تواتر العمليات الفردية الإرهابية لتنظيم «داعش» في غير مدينة غربية، وجوهرها الميل إلى منح الأولوية لمواجهة أخطار هذا التنظيم وتخفيف الضغوط عن الأطراف المناهضة له، بما فيها النظام السوري، يحدوها موقف نفعي يجد أن التصدي للإرهاب يتطلب مزيداً من التنسيق العسكري والأمني وليس معالجة جذوره الثقافية والسياسية والاقتصادية! ويخلص أصحاب هذا السؤال إلى توقع إقلاعة جديدة للمفاوضات بروحية بناءة ومثمرة يقودها التوافق بين روسيا وتركيا وإيران، ومستندة إلى تواطؤ إسرائيلي وسلبية أميركية وانشغال عربي بتطورات اليمن العسكرية بعد توقف مباحثات الكويت!
في حين يتساءل أحدهم، ألا يصح ربط توقف المفاوضات بعدم استعداد وصدقية الأطراف الداخلية المعنية بالعملية السياسية، إن لجهة نظام لا يزال يرفض تقديم التنازلات، ويستمر في الرهان على منطق الغلبة وعلى الخيار العسكري لكسر إرادة الآخر، ويأمل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحقيق انتصارات يستعيد بها السيطرة على البلاد، وإن لجهة جماعات مسلحة لا تزال أطرافها الرئيسة ترفض العملية السياسية من أساسها، وتعول على الحسم العسكري أيضاً لوضع أجندتها الأيديولوجية موضع التنفيذ؟! وألا يجوز تالياً ربط تعثر المفاوضات بالتصعيد العسكري الأخير في مدينة حلب وما أسفر عنه من تبدلات في المواقع وتوازنات القوى، والأهم بمعارضة سياسية عاجزة عن التقاط زمام المبادرة، ليس فقط لخضوع الكثير من أطرافها لضغوط وإملاءات خارجية، وإنما أيضاً لوزنها الضعيف وغير المقرر ميدانياً بعد انسحاب كتائب عسكرية من صفوفها وتقدم دور منظمات إسلاموية مسلحة، لها أجندة خاصة لا علاقة لها بالشعارات الوطنية، وترفض الالتزام بما تقرره هذه المعارضة وبأية اتفاقات تبرمها، زاد الأمر تعقيداً التقدم ضد «داعش»، الذي أحرزته قوات سورية الديموقراطية المدعومة أميركياً، وسيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، بخاصة مع نجاحها بالتفرد وتحجيم نفوذ النظام في «الحسكة»، والتفاتها للسيطرة على «جرابلس» ما قد يجرها لمواجهة فصائل عسكرية تحسب على الاعتدال ومدعومة من أنقرة؟!
يحق للبعض أن يشكك في جدوى التفاوض السياسي وأنه لن يفضي إلى نتائج ملموسة في ظل تعارض مصالح المتصارعين ومواقفهم وسلوكهم الأخلاقي، دافعاً الملف الإنساني إلى الأمام ومتسائلاً، ألم تغدُ معالجة ما يكابده الشعب السوري حاجة ضاغطة على الجميع؟! أولا يفترض أن تتحد اليوم كل الجهود لتخفيف معاناة الناس في ما يعتبر أعظم كارثة ومأساة مرت على البشرية منذ عقود؟! أولا يعني الكثير، حين يكن السوريون المتضررون التقدير والاحترام للأطراف الأكثر حماسة لوقف العنف والأكثر حرصاً على حيواتهم وفرص عيشهم واجتماعهم الوطني، وعلى مستقبل ملايين الأطفال انهارت فرصهم التعليمية وانتشرت بينهم الأمراض والاضطرابات النفسية؟! ويضيفون، ألا يصح إرجاع فشل المفاوضات، إلى تفاقم الشروخ والاصطفافات المتخلفة في المجتمع، وتحرر القوى المتصارعة من أي ضغوط تمارسها نخب سياسية وثقافية وشعبية ترفض منطق الغلبة وتشجع خيار السلام والحل السياسي؟!
ومع الاتكاء على شدة معاناة السوريين في مختلف المواقع وحالة الإنهاك التي وصلت إليها أطراف الصراع الداخلية، ومع الاعتراف بوجود خطوط حمر للتوازنات السورية ترسمها المصالح الخارجية لا يمكن للنظام أو للمعارضة تجاوزها، وبأن إحياء مؤتمر جنيف بات مشروطاً بقوة ورسوخ التوافقات بين أهم الأطراف الإقليمية والدولية لإطفاء هذه البؤرة من التوتر، يبقى السؤال هل ثمة أمل بأن تضغط المحنة الإنسانية المريعة، والتداعيات الخطيرة لاستمرار الصراع السوري، على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات قادرة على تغيير المشهد الدموي القائم، أم هو حظ السوريين السيئ، أن يكتووا بنار الحرب والفتك والخراب لسنوات قادمة؟!