في 16 آب/أغسطس، انطلقت قاذفات روسية من القاعدة الجوية “شهيد نوجيه” بالقرب من مدينة همدان الإيرانية لقصف أهداف خاصة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في سوريا، وفقاً لبعض التقارير. ولم يكن تمركز طائرات تابعة للقوة الجوية الروسية داخل إيران مفاجأة للدبلوماسيين الأمريكيين فحسب – بل كان أيضاً خبراً جديداً بالنسبة الى العديد من المسؤولين الإيرانيين. وفي حين قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، مارك تونر، إن التحرك الروسي ربما انتهك قراراً لمجلس الأمن الدولي، فقد طالب عشرون شخصاً من المشرّعين الإيرانيين بعقد جلسة مغلقة للبرلمان من أجل مناقشة سبب سماح إيران لقوات أجنبية باستخدام البلاد كقاعدة لها للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى خلفية الغضب في طهران، اتّهم وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان، موسكو بالتّصرّف على نحو “غير لطيف” من خلال إعلانها عن استخدام روسيا للقاعدة، ونفى تقارير نقلاً عن مسؤولين روس قولهم إن موسكو وطهران وقّعتا اتفاقاً يسمح لروسيا باستخدام القاعدة، وأعلن أن إيران لن تسمح بعد الآن للقاذفات الروسية بالانطلاق من مهبط الطائرات. وفي محاولة واضحة لحفظ ماء الوجه، قال اللواء الروسي إيغور كوناشينكوف إن الطائرات الروسية أكملت مهمتها “بنجاح” وعادت إلى روسيا.
ربّما بدا هذا التطور وكأنه زوبعة قصيرة في التحالف المتين بين روسيا وإيران. إلا أنه يجدر بالذكر أن الرومانسية، وليس الصراع، هي التي تشكل الانحراف. فخلال مئات السّنين الّتي تعامل فيها البلَدان مع بعضهما البعض، لم يسبق أن تعاونا بهذا الشكل الوثيق. ومن سوء حظ أمريكا أن موسكو وطهران اكتشفتا مؤخراً التداخل الواسع بين مصالحهما في الشرق الأوسط – وخاصةً في معارضة المصالح الأمريكية هناك.
تقارب المصالح
كانت روسيا وإيران تشككان تقليدياً الواحدة في الأخرى. وعلى الرغم من التعاون الظرفي بينهما، فقد تأرجحت العلاقات عادة بين التنافس المباشر والمنافسة المقنّعة. وفي بعض الأحيان، دخل البَلَدان في نزاع مسلح: فقد خاضا حربان في القرن التاسع عشر، واحتلت القوات الروسية أراضٍ اعتبرها الشاه الإيراني تابعه له، وتُعرف الآن بتركمانستان. وبعد “الثورة البلشفية”، دعمت القوات السوفياتية الحركات الانفصالية، أوّلاً في محافظة جيلان شمال إيران على بحر قزوين، وفي كل من منطقتي أذربيجان وكردستان الإيرانيتين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. واندلعت أزمة أذربيجان عام 1946 – الأزمة الأولى الفعلية في الحرب الباردة – بسبب رفض رئيس الوزراء السوفياتي، جوزيف ستالين، سحب “الجيش الأحمر” من إيران في عام 1946، حيث كان يتمركز فيها خلال الحرب العالمية الثانية من أجل المساعدة في تأمين طريق الإمدادات.
وربّما كان الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، بعد الثورة الإيرانية، رمزاً لعداء زعيم الثورة الاسلامية آية الله روح الله الخميني تجاه الولايات المتحدة، لكنّ عدم ثقته بالاتحاد السوفياتي كان عميقاً إلى الدرجة نفسها. وأصبحت مقولته “لا شرقية ولا غربية بل جمهورية إسلامية” شعاراً خاصّاً بالثوريين الإيرانيين.
لكن مع وفاة الخميني في عام 1989، سعى بعض المسؤولين الايرانيين إلى تحسين العلاقات مع موسكو. حتى أن علي أكبر هاشمي رفسنجاني سافر إلى موسكو في محاولة للتقارب. وبحلول نهاية التسعينات، برزت روسيا كمورّد رئيسي للأسلحة التقليدية لإيران، وبدأت تساعدها في برنامجها النووي.
وعندما وصل فلاديمير بوتين إلى السلطة في عام 2000، أصبحت العلاقة أكثر دفئاً. وتوسعت تجارة الأسلحة بين البلدين على نحو متزايد، ودعم دبلوماسيو الكرملين البرنامج النووي الإيراني جهاراً على أنه مسعى سلمي، وعملوا بجدّ لتخفيف العقوبات على طهران. وأصبحت الآن الاجتماعات الرفيعة المستوى بين كبار المسؤولين في البلدين أمراً شبه اعتيادي: فقد زار وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو إيران في كانون الثاني/يناير 2015، وزارها بوتين في تشرين الثاني/نوفمبر – وهما الزيارتان الأوليتان التي يقوم بهما بوتين ووزير دفاع روسي منذ عقد. ومنذ ذلك الحين، اجتمع بوتين عدة مرات مع نظيره الإيراني حسن روحاني، وهو الأمر بالنسبة للوزراء ومساعديهم. ودعا بوتين هذا الصيف إلى قبول إيران كعضو في “منظمة شانغهاي للتعاون”، وهو اقتراح لم يسبق أن طرحه حول أي دولة عربية.
تحالف مناهض للغرب
قد تكون هناك بعض الدوافع لهذا التحسّن في العلاقات الاقتصادية؛ فبالنّسبة للصناعات العسكرية والنووية الروسية أصبحت إيران سوقاً مربحة على نحو متزايد. لكن ما يجمع موسكو وطهران أيضاً هو تزايد المصالح السياسية المشتركة. فكلا البلدين يشعر بالقلق إزاء عودة ظهور حركة طالبان في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة. ويخشى كلاهما صعود التطرف السني، الذي يرتبط بالنسبة إلى روسيا بعدم الاستقرار التاريخي في منطقة “شمال القوقاز” والذي يعود إلى الحرب مع الشيشان، حين أدّت سياسات موسكو التعسفية إلى جعل الصراع متطرّفاً، بعد أن بدأ كصراع انفصالي علماني. كما ترى روسيا وإيران احتمالات تنامي التعاون في أوراسيا؛ فعلى سبيل المثال، قبل ثلاث سنوات، ناقش مسؤولون روس وإيرانيون فكرة انضمام طهران إلى “الاتحاد الجمركي” الذي تتزعمه موسكو، والذي يهدف إلى موازنة الاتحاد الأوروبي.
وقد أدّت الأزمة السورية إلى جعل التعاون بين روسيا وإيران يتّجه نحو آفاق جديدة. فقد أصبحت البلاد التي مزقتها الحرب المكان الأمثل لكلا النظامين للتضييق على نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتوسيع سلطتهما في المنطقة. ويريد بوتين على وجه الخصوص الترويج لنفسه كزعيم عالمي كبير، ويستخدم بشكل متهكم الحديث عن التعاون لمكافحة الإرهاب في سوريا لتحقيق هذا الهدف، رغم فشله في استهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» باتباعه اسلوب يفتقر إلى الاتساق، حتى أنه ربما قام بتعزيز التنظيم في بعض الحالات.
ومن وجهة نظر الرئيس الروسي التي تعكس جنون العظمة، يوازي دعم الرئيس السوري بشار الأسد، دعم قبضة بوتين على السلطة في بلاده. ويؤمن الرئيس الروسي أن الغرب هو الذي دبّر “الثورات الملوّنة” في أوروبا الشرقية، وغيرها من الاحتجاجات المناهضة للنظام في منطقة الشرق الأوسط وروسيا. ويعتقد أنه إذا لم يعمل على تخفيف النفوذ الغربي، سيطيح به الغرب. وتحتاج إيران أيضاً إلى مساعدة موسكو لمساندة عميلها [الأسد]، وتريد الحصول على المزيد من الأسلحة الروسية.
ويقول بوتين إنه صديق الجميع في الشرق الأوسط، لكن في الواقع، تعمل سياساته لصالح “المحور الشيعي” في المنطقة. ويدّعي الخبراء والمسؤولون الروس أن إيران هي قوة “علمانية” محتملة لمواجهة الإسلاميين السنة. وبالفعل، صنّفت موسكو جماعة «الإخوان المسلمين» و تنظيم «الدولة الإسلامية» كمنظمات إرهابية – لكنها لم تطلق هذه الصفة على «حزب الله» الإسلامي الشيعي. وفي الوقت نفسه، تشيد وسائل الإعلام الروسية بتحالف بلادها مع إيران والتقدير العام لتمركز القوات الروسية هناك [في المدة الأخيرة].
إن بوتين هو شخص واقعي متهكم. فحتى عندما يلاطف إيران والنظام السوري، على سبيل المثال، يعمل أيضاً على تحسين العلاقات مع تركيا وإسرائيل. بيد، تميل القوى الشيعية في الشرق الأوسط إلى أن تكون أكثر مناهضة للغرب من الكتلة السنية – [لذلك] فإن التحالف معها ينسجم مع هدف بوتين المتمثل في مقاومة الغرب وإظهار نفسه كزعيم يتمتع بسلطة عظمى.
الإضرار بالمصالح الأمريكية
لقد كان سبب قرار إيران على الأرجح، بإيقاف استخدام روسيا لقاعدة “شهيد نوجيه” الجوية هو رد الفعل السياسي الداخلي. وعلى أي حال، لم يكن الغضب حول استخدام موسكو للقاعدة، بل عن قرار روسيا بجعله علنيّاً.
وبالتالي، من المرجح أن تستمر موسكو وطهران في التعاون بينهما. إنه تحالف بين دكتاتوريتين، وباستطاعة الطغاة وضع خلافاتهم جانباً عندما يناسب ذلك مصالحهم.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن تحالفهما قائماً لكي يدوم. فقد يظن بوتين أنه قادر على الاستمرار في تحقيق التوازن بنجاح بين القوى السنية والشيعية المتناحرة في العالم العربي من جهة، وإيران وإسرائيل من جهة أخرى، إلا أن منطقة الشرق الأوسط متقلبة ولا يمكن توقع تطوراتها. إن تهكم المسؤولين الإيرانيين الذين يعتبرون أن بوتين سيضحي بطهران عندما يناسب ذلك مصالحه القصيرة المدى، بالإضافة إلى المشاعر المناهضة لروسيا بين الإيرانيين العاديين، ستستمرّ في تقويض العلاقات الطويلة المدى.
لكن التحالف القصير المدى يمكن أن يلحق ضرراً طويل المدى بمصالح الولايات المتحدة، ويمكن أن تزداد الانتصارات التكتيكية لتشكّل استراتيجية. يجب على المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا أن لا يقلّلوا من شأن طموحات بوتين في الشرق الأوسط، أو التحديات التي يقدّمها تحالفه المتنامي المناهض للغرب في المنطقة.
آنا بورشفسكايا
معهد واشنطن